حين أطل علينا «أوكا وأورتيجا وشحتة كاريكا»، بأغنياتهم الغريبة بكلماتها ونغماتها وطريقة أدائها، لم نكن نتخيل أنها سوف تصبح مَدرسة جديدة فى الغناء!!..لها روادُها وأتباعُها وجمهورُها العريض الذى لم يقتصر فقط على الطبقات الشعبية!!..بل امتد ليصل لأرقى الطبقات فى المجتمع!!.. ربما يستمع البعض لتلك الأغنيات من باب الفضول، أو كنوع من (التهريج) فى الأفراح أو المناسبات المختلفة، ولكن بالتأكيد يؤثر ذلك تدريجيّا على الذوق العام، دون أن نشعر.. فما ترفضه العين وتستهجنه الأذن، يتحول بحُكم التكرار لاعتياد.. لا شك أن الأغنيات الركيكة والابتذال فى الفن بشكل عام، موجود فى كل العصور، بما فيها زمن الفن الجميل كما يَطلق عليه البعض، حتى إن «أم كلثوم» قررت محاربة الأغانى الخليعة والمعانى المبتذلة فى أوائل رحلتها الفنية.. وروت عن ذلك أنها فى إحدى المرّات غنت «سبحان من أرسله رحمة» فصفّر الجمهورُ، وراح يصيح عاوزين «هات القزازة واقعد لاعبنى».. وقالت: «ليلتها لم أغضب من الجمهور..فإنه معتاد على ما يقدَّم إليه..وفكرتُ فى أن أعوِّدَهُ على أشياء أخرى».. لذا بعد مشوارها الطويل فى الفن قالت: «أعتقد أن أهم ما يمكن أن يُكتب عنى بعد موتى أننى نقلت الجمهور من الإسفاف الغنائى الذى كان يعيشه من أغانى «أرخى الستارة اللى فى ريحنا»، إلى مستوى «إن حالى فى هواها عجب»، و«الصب تفضحه عيونه»، و«رباعيات الخيام»).. أى أن «أم كلثوم» قررت أن ترتقى بالذوق العام، واهتمت بغناء القصائد حتى يعتاد الجمهور على اللغة العربية الفصحى ويتذوقها.. وهو بالفعل ما تحقق، واجتذبت بروعة ما تقدمه كل الفئات، وأصبحت أغنياتها مثالًا للرُّقى والسّمو الذى جعلها تصل لتلك المكانة الرفيعة واحترام الشعوب حتى الآن.. ولكن الفرْق أن أيام «أم كلثوم» كانت الأغانى الخليعة والمبتذلة تقدّم فى الحانات والكباريهات وغيرها من أماكن يذهب إليها السكارَى ونوعية معينة من الجمهور.. أمّا الآن فتقتحم منازلنا رُغمًا عن أنوفنا، من خلال القنوات والبرامج التليفزيونية.. صحيح أن النجومية فى هذا العصر لها سماتها ومقوماتها ومقاييسها التى تختلف عمّا سبق؛ حيث تتحكم فيها نسب المشاهدات والمشاركات على مواقع الإنترنت، التى تحقق لأصحابها ثروات ضخمة وخيالية، رُغم أن هناك متخصصين فى الدعاية، يقومون بزيادة نسب المشاهدة والمشاركة وخلافة، بطرُق مدفوعة الأجر، حتى تضمن فى البداية الانتشار بين أعداد كبيرة، وتلفت الأنظار!..وبالتالى تكون نسبًا مصطنعة فى كثير من الأحوال، ولا تتم بشكل عفوى من الجمهور كما هو مفترض!!..أى أنه يمكن التحكم فيما ينتشر بين الملايين، ونعتقد أنه يمثلنا، رُغم أنه قد يكون بناءً على توجيه الجماهير لاختيارات وترشيحات بعينها، للتحكم فى الذوق والسلوك بعد ذلك!!..ولكن أيّا كانت أسباب ووسائل ما ينتشر على مواقع الإنترنت، هل يفترض أن تقود مواقع التواصُل إعلامَنا؟! وتتحكم فيما يُقدَّم لنا على الشاشات؟! فما بين «أوكا وأورتيجا» وآخرين أمثال «فيفتى وسادات وحاحا»، ثم «حمو بيكا ومجدى شطة»، اللذين أصبحت مشاجراتهما وخلافاتهما تحاصرنا فى الفضائيات!!.. حتى وصلنا مؤخرًا إلى «حسن شاكوش وعمر كمال» وأغنيتهما «بنت الجيران» التى أصبحا بسببها نجومًا تستضيفهما كل برامج «التوك شو» الرئيسية تقريبًا، بعد أن حققت الأغنية المركز الثانى عالميّا من حيث الاستماع على موقع «ساوند كلاود»، وهو موقع للاستماع إلى الأغانى والموسيقى، ويمكن لأى شخص من خلاله تسجيل الأصوات وتحميلها ثم نشرها ومشاركتها بسهولة، وهو موقع متوافر كتطبيق للهواتف الذكية، ويزوره نحو 175 مليون شخص كل شهر.. وقد حصدت فيه «بنت الجيران» ملايين المشاهدات فى مدة قصيرة، وتفوق أصحابها على مطربين عالميين!!..ولكن حتى أطلت علينا برامج «التوك شو» بهذه الأنباء، والمداخلات مع نجمَى الأغنية!! لم يكن الكثيرون قد سمعوا من قبل اسم «شاكوش» ورفيقه..اللذين أصبحا ضمن كبار نجوم العرب كما وصفتهما حملة دعائية تعرض فى أغلب قنواتنا الفضائية، لحفلة كبرى فى استاد القاهرة، بمناسبة «عيد الحب»، وبمشاركة نجوم آخرين من مصر والعالم العربى!!..فتحولت نجوميتهما الافتراضية على الساوند كلاود والإنترنت، إلى نجومية حقيقية فرضت علينا!!..أمّا أغنية «بنت الجيران» التى وجدت الدعاية والحفاوة لها ولأصحابها على أغلب قنواتنا، فتقول فى أحد مقاطعها: «تسيبينى أكرة حياتى وسنينى...هتوه ومش هلاقينى وأشرب خمور وحشيش».. «بصيلى هزى وسطك ميلى سيبى عينك تحكيلى»..وهى للعِلم ربما تكون من أكثر أغانى المهرجانات تهذيبًا!!.. ما يجعلنا نتساءل عن سبب تسليط الضوء على هذا النوع من الغناء وأصحابه، وتقديمهم وكأنهم واجهة للفن المصرى؟!..ونتساءل عن المسئولية الاجتماعية للقائمين على ملف الإعلام، والإعلاميين الذين تطغى رغبتهم فى تحقيق المشاهدات على واجبهم المهنى، وما يجب أن يقدموه!!..فيتسببون فى انتشار هذا النوع من الغناء، وتحقيق مزيد من النجومية لأصحابه.. وانتشار كلمات ومصطلحات تلوث الأذن!..فالمشكلة الحقيقية ليست فى تواجُد غناء هابط؛ لأن كل عصر ماضٍ أو آتٍ فيه الجيد والسيئ، ولكن المشكلة هى الترويج للبذاءة!..فلا شك أن التكرار والإلحاح بالإسفاف يؤدى إلى الهبوط بالذوق والثقافة وتغيير شكل المجتمع إلى الأسوء!