أصبح ل «الإبادة» بفعل ما ارتكبه نتنياهو وعصابته دلالات غير مسبوقة، ومعانٍ لم تخطر على قلب بشر، ولعل فى ذلك ما يدعو إلى حتمية إعادة تعريف الكلمة! انتظر مع نهايات الأعوام، ما يقع عليه اختيار القواميس الشهيرة و«الميديا» الغربية، لكلمة تلخص العام، من بين أهم الكلمات المتداولة على مدى أيامه. لم يكن الأمر يحتاج من جانبى إلى تفكير طويل، أو تأمل متأنٍ، فالمسألة بالنسبة لى ودون انتظار ما يختاره «الآخر الغربى» الأمر محسوم قطعيًا وحصريًا. «الإبادة» كلمة العام بلا منازع أو منافس. كلمة روتها دماء عشرات آلاف الأرواح، أغلبها من الأطفال الأبرياء والنساء والعجائز، حصدتهم آلة غاشمة وحشية، فضحت زيف الغرب وحضارته المدعاة بصمته، بل ومباركته، ومساندته ودعمه للكيان الصهيونى، فى سياسته الممنهجة لتوسيع رقعة الإبادة لتتجاوز البشر إلى الحجر، والحاضر للتراث والمستقبل، والإنسان وهويته إلى البيئة. أصبح ل «الإبادة» بفعل ما ارتكبه نتنياهو وعصابته اليمينية المتطرفة دلالات غير مسبوقة، ومعانٍ لم تخطر على قلب بشر، ومضامين لا يستطيع عقل أن يتصورها، ولعل فى ذلك ما يدعو إلى حتمية إعادة تعريف الكلمة! ما بين قواميس اللغة، وتعريفات القانون الدولى، ثمة عجز فادح أمام وطأة أفعال تأنف الوحوش من ارتكابها فى أى زمان، ومكان، لكن الصهاينة بدماء باردة، وضمائر ميتة، لم يتورعوا عن فعلها. ألا يستحق ذلك أن يكون مبررًا ليس فقط لأن تكون كلمة إبادة، هى الكلمة التى تحوز الاختيار دون غيرها، بل وأن تكون ثمة دعوة لإعادة تعريفها فى قواميس اللغة، كما فى كتب القانون الدولى؟! بين اللغة والقانون باد، بيدًا، هلك وانقرض، وأباده أهلكه، البيداء الفلاة، والمبيد المادة القاتلة.. هكذا تذكر قواميس اللغة، فماذا عما يشير إليه القانون؟ أما الإبادة الجماعية بحسب اتفاقية منعها والمعاقبة عليها، فتعنى عددًا من الأفعال المرتكبة عن قصد الإفناء الكلى أو الجزئى، لجماعة قومية أثنية أو عنصرية أو دينية بصفتها هذه: قتل أعضاء من الجماعة، إلحاق أذى جسدى أو نفسى خطير بأعضاء الجماعة، إخضاع الجماعة عمدًا لظروف معينة يراد منها القضاء عليها كليًا أو جزئيًا و...و..... الاتفاقية لا تكتفى بعقاب جريمة الإبادة الجماعية فقط، وإنما تشمل العقاب على أفعال التآمر والتحريض على ارتكابها والشروع والاشتراك فيها. وتشكل جريمة الإبادة الجماعية انتهاكًا صارخًا لحق الإنسان فى الحياة، وقد وصل إنكار الحق فى الوجود لجماعات كاملة من البشر إلى ذروته بالمذابح التى تتم على يد مجرمى الحرب الصهاينة. ولأن حرب الإبادة التى استهدفت غزة على مدى 15 شهرًا، على مرأى ومسمع من «العالم المتحضر»، دون رادع من قوانين دولية، ولا قيم إنسانية، فقد تحولت نصوص القوانين، وحتى ما أصدرته محكمة العدل الدولية، والمحكمة الجنائية الدولية إلى حبر على ورق، رغم أن العرائض التى نظرتها مكتوبة بمداد من دماء. محرقة القرن بقليل من التأمل للحادث فى غزة، ومطابقته على بنود القانون الدولى، فإن ثمة فوارق هائلة، فقد تجاوز الواقع الدامى تلك البنود بسنوات ضوئية، ليس فقط لأن ما وصفه الصهاينة ب «الهولوكوست» بكل المبالغات فى سرديتهم، أصبح شيئًا هينًا إلى جانب محرقة القرن الحادى والعشرين، والتى استحالت معها غزة إلى جحيم على الأرض! لسنا بصدد مبالغة، مقابل «مبالغة مضادة»، فإذا كانت اتفاقية تجريم الإبادة تعدد أفعالًا تستهدف البشر، فإن منهجية الإبادة الصهيونية تجاوزتهم باستهداف كل شيء وأى شيء دون تمييز، وعن قصد.محرقة القرن طالت الحرث والنسل، كما البشر والحجر، وباستخدام جميع الأسلحة لاسيما المحرمة دوليًا، وعلى أثر ذلك اختفت قرى ومدن من الوجود، واجتثت عائلات بالكامل، واندثرت أسر للأبد! «هولوكوست» الصهاينة لم يكتف باستخدام ترسانة هائلة من أحدث ما أنتجته مصانع الموت فى الكيان، وتلك التى أهدته لها حليفاتها على ضفتى الأطلنطى. لم تكن النار ولهيبها الذى تجاوز فى عنفه وقوته ما شهدته هيروشيما وناجازاكى، جراء تعرضهما للقصف النووى للمرة الأولى فى التاريخ، لم يكف الصهاينة صب جحيم النيران من الجو والأرض والبحر بالطائرات والمدافع والمدرعات والزوارق، فكان أن لجأوا لأخس الأسلحة، ومنها ما يذيب الأجساد. ثم يبخرها! التجويع والتعطيش والجراثيم! نشروا المجاعة فى ربوع غزة، وحرموا الأطفال والنساء، والعجائز من الطعام على مدى أيام، واعترضوا قوافل المساعدات الإنسانية، نشروا شبح العطش، ليطارد النازحين من شمال القطاع إلى جنوبه، لا يجدون إلا المياه الملوثة، ومياه الصرف، والماء المالح! وعن عمد نشروا الأمراض الفتاكة، وكأنها بروڤة لحرب بيولوچية لا تبقى ولا تذر، إذ هى تستهدف البشر كما الهواء والتربة والزرع والحيوان والطير! ألا يكفى أقل من ذلك لإعادة تعريف الإبادة فى قواميس اللغة، كما فى أسفار القانون؟ الجمع بين الذكاء والغباء! الصهاينة لم يكفهم كل ذلك أدوات للإبادة، فاعتمدوا على الذكاء الاصطناعى ليزودوا به الأسلحة الأشد فتكًا، لتفتك وتبيد وتمحو بما يفوق أى تصور! أصبحت غزة وأهلها مختبرًا حيًا، ليس فقط للأسلحة المحرمة دوليًا، كالقنابل الفسفورية العنقودية واليورانيوم المنضب، لكن الصهاينة اغتنموا حرب غزة غير المتكافئة فى توظيف تقنيات الذكاء الاصطناعى فى إنجاز أهدافهم القذرة، وإبادة المزيد من المدنيين عمدًا، حتى أن أحد ضباطهم اعترف بأن هذا النوع من الذكاء الخبيث يسهل ما يمكن وصفه بإنشاء مصنع اغتيالات جماعية! تقارير دولية عدة فضحت دور الذكاء الاصطناعى فى الترسانة الصهيونية، فوصفتها بأنها أحد أكثر طرق القصف تدميرًا وفتكًا فى القرن الحادى والعشرين. شهية مصاص الدماء الصهيونى دفعته إلى عدم الاكتفاء بالذكاء الاصطناعى، فلجأ إلى ما يصفه العسكريون ب «القنبلة الغبية»! نوع من القنابل ذات الوزن الهائل، نحو 900 كيلوجرام، قادرة إلى إحداث حفرة بعرض 15 مترًا، وعمق عشرة أمتار، تخترق المعادن والخرسانات، وتخلف آثارًا مميتة تتجاوز دائرة قطرها 73 مترًا! ألا يحق بعد هذا العرض أن نطالب بإعادة تعريف الإبادة! حتى التراث والتاريخ حقد وغل يستطيع حتى المتبلد الحس أو فاقد البصر أن يرصده! الإبادة تجاوزت الحاضر إلى الماضى والتراث والتاريخ! ثمة محاولة محمومة لاستغلال الحرب على غزة فى طمس، بل محو التاريخ، فلا قداسة للكنائس والمساجد التاريخية، التى يتجاوز عمرها مئات السنين، وتمثل جزءًا من تاريخ الإنسانية، فتستهدف بالإبادة حرقًا وتدميرًا وهدمًا ونهبًا!.. وكما انتهكوا اتفاقية منع الإبادة الجماعية للبشر، انتهك الصهاينة مثيلتها المتعلقة بحماية الممتلكات الثقافية أثناء النزاع المسلح. حتى المتاحف والتماثيل والمبانى التاريخية الحديثة، وأرشيف المدينة الذى يحتضن وثائق المدينة عبر التاريخ،....،.... إنها النسخة الأبشع للجرائم البربرية. ألا تستحق هذه الجرائم التى تفوق أى وصف، إعادة تعريف الإبادة لغويًا وقانونيًا، وسياسيًا وأخلاقيًا؟ الهيستيريا العنصرية المغلفة بغلالة من الأساطير المزيفة، كانت الإطار الذى أحاط بجرائم الإبادة الجماعية، بما يفوق حروب ما قبل الميلاد!.. يقينًا، فإن هذه العصور السحيقة، يوم كانت الحضارة فى طور طفولتها، لم تشهد استهدافًا مقصودًا للأطفال بل والأجنة لأنهم يمثلون خطرًا محتملًا! عبر آلاف السنين، شهدت البشرية حروبًا دموية، لكن من الصعب تصور هذا القدر من الوحشية فى ممارسة جرائم الإبادة المجنونة، التى وصلت إلى حد مطالبة أحد المتطرفين من وزراء عصابة نتنياهو بإلقاء قنبلة نووية على غزة! ماذا يكون حاصل هوس القوة، مع نفوس تتغذى على الكراهية والسادية المتجذرة فى المجتمع الصهيونى، الذى اجتمع بكل أطيافه على أن الإبادة هى الحل! لم تكن هذه السطور سوى النذر اليسير من قائمة حيثيات سطرتها دماء عشرات الأبرياء، ضحايا جريمة إبادة تابعها العالم على الهواء مباشرة، على مدى الشهور الثلاثة الأخيرة من عام 2023، لتكتمل فصولها عبر 2024، الذى لا نستطيع أن نجد كلمة واحدة تلخصه سوى: الإبااادة!!