مجلس الشيوخ يوافق على تغليظ عقوبة سرقة الكهرباء    مصر ضمن أبرز الوجهات المفضلة للبلجيكيين في عيد الميلاد 2025    وزير الطيران يبحث مع سفير الإمارات بالقاهرة تعزيز التعاون المشترك    الصحة العالمية تطالب بسرعة إدخال الإمدادات والمعدات الطبية الأساسية لقطاع غزة    لاعب وسط مودرن سبورت ضمن معروض على الزمالك    تنفيذ برامج تدريب وتوعية وريادة ل 334 مستفيدا بمراكز الشباب بالشرقية    كشف ملابسات فيديو متداول بشأن إدعاءات كاذبة ضد رجال الشرطة بالبحيرة    مصرع ممرضة صدمها قطار خلال عبورها شريط السكة الحديد بالقليوبية    «السياحة والآثار» تكشف حقيقة تحرير الوزير محاضر ضد الصحفيين    وزير الثقافة ومحافظ القاهرة يتفقدان متحف الشمع لوضع خطة عاجلة لتطويره وتهيئته لاستقبال الجمهور    نصائح منظمة الصحة العالمية لتسوق وطهي الطعام بأمان    محافظ المنوفية ورئيس الجامعة يفتتحان عدد من المنشآت الطبية الجديدة    اقتصادي: انعقاد منتدى الشراكة الروسية الإفريقية بالقاهرة يؤكد الدور المصري في دعم التنمية الاقتصادية للقارة السمراء    محافظ أسيوط يتفقد مدرسة الأمل للصم ويطمئن على الخدمات التعليمية    محافظ القاهرة: تصدر العاصمة مدن أفريقيا الأكثر تأثيرًا يمثل تكليفًا لجهود الدولة    محافظ أسيوط: استمرار تدريبات المشروع القومي للموهبة الحركية    سبورتنج يعلن قائمة مواجهة الأهلي اليوم فى كأس السوبر المصري لسيدات السلة    160 مليار جنيه لدعم التموين في 2025.. «كاري أون» أكبر سلسلة تجارية حكومية تنطلق لتطوير الأسواق وتأمين الغذاء    نائب وزير الإسكان يستقبل مسئولي إحدى الشركات التركية لبحث فرص التعاون في مشروعات المياه والصرف الصحي    البحيرة.. ضبط 3 محطات وقود بالدلنجات لتجميعها وتصرفها في 47 ألف لتر مواد بترولية    مصرع شخصين وإصابة ثالث إثر انقلاب سيارة أعلى كوبري أكتوبر بالشرابية    حبس عاطل 4 أيام بعد ضبطه بحوزته 20 فرش حشيش بالجيزة    تصاريح الحفر لمد الغاز بقرى «حياة كريمة» وخطة لتوصيل الخدمة ل6 مناطق سكنية في 2025    «التخطيط» تترأس اجتماعًا تحضيريًا للجنة المصرية – الأرمينية المشتركة للتعاون الاقتصادي    الأقصر تتلألأ في يوم الانقلاب الشتوي.. الشمس تتعامد على مقصورة قدس الأقداس بمعابد الكرنك في مشهد فلكي ومعماري مدهش    أجندة قصور الثقافة هذا الأسبوع.. حفلات ليالي الفن تضيء العام الجديد    برلمانية المؤتمر: تعديلات قانون الكهرباء خطوة ضرورية لحماية المرفق    القاهرة الإخبارية: تخوف إسرائيلي من اللقاء المرتقب بين نتنياهو وترامب نهاية الشهر الحالي    تاريخ من الذهب.. كاف يستعرض إنجازات منتخب مصر فى أمم أفريقيا    الاحتلال الإسرائيلي يقتحم مدينة قلقيلية ‫ويداهم بناية    اختفاء 16 ملفا من وثائق إبستين المنشورة بموقع وزارة العدل الأمريكية    حيماد عبدلي: منتخب الجزائر يسعى للذهاب بعيدًا ببطولة أمم أفريقيا    «المصدر» تنشر نتيجة الدوائر الملغاة بالمرحلة الأولى من انتخابات مجلس النواب    الصحة: إغلاق 11 مركزًا خاصًا للنساء والتوليد ب5 محافظات لمخالفتها شروط الترخيص    أبرز المسلسلات المؤجلة بعد رمضان 2026.. غادة عبد الرازق ونور النبوي في الصدارة    "معلومات الوزراء" يستعرض أبرز المؤشرات الاقتصادية العالمية للعامين 2025 و2026    «الرعاية الصحية» تطلق حملة للمتابعة المنزلية مجانا لأصحاب الأمراض المزمنة وكبار السن    من مصر منارةً للقرآن إلى العالم... «دولة التلاوة» مشروع وعي يحيي الهوية ويواجه التطرف    د.حماد عبدالله يكتب: "اَلَسَلاَم عَلَي سَيِدِ اَلَخْلقُ "!!    تكريم لمسيرة نضالية ملهمة.. دورة عربية لتأهيل الشباب في حقوق الإنسان تحمل اسم محمد فايق    تحرك عاجل من وزير العمل بعد فيديو الأم التي عرضت أولادها للبيع    مواقيت الصلاه اليوم الأحد 21ديسمبر 2025 فى المنيا    رئيس جامعة الازهر يوضح بلاغة التعريف والتنكير في الدعاء القرآني والنبوي    إصابة 14 عاملا فى حادث انقلاب أتوبيس بالشرقية    ضبط قضايا اتجار في النقد الأجنبي بالسوق السوداء بقيمة 3 ملايين جنيه    الري تتابع إيراد النيل.. تشغيل السد العالي وإدارة مرنة للمياه استعدادًا للسيول    فريدة سيف النصر تنعي سمية الألفي بكلمات مؤثرة وتسرد ذكرياتهما معاً    وزارة التموين تطلق قافلة مساعدات جديدة بحمولة 1766 طنًا لدعم غزة    انطلاق الجلسة العامة لمجلس الشيوخ لمناقشة تعديلات قانون الكهرباء    شهر رجب.. مركز الأزهر العالمي للفتوى يوضح خصائص الأشهر الحرم    نادي المقاولون العرب يعلن تعيين علي خليل مستشارا فنيا لقطاع الناشئين    مواعيد مباريات اليوم الأحد 21-12- 2025 والقنوات الناقلة لها | افتتاح أمم إفريقيا    وزير الخارجية يؤكد مجددا التزام مصر بدعم جهود تعزيز الأمن والاستقرار في الصومال والقرن الأفريقي    محافظ القاهرة يعتمد جدول امتحانات الفصل الدراسي الأول للعام 2025    الصحة: فحص أكثر من 20 مليون مواطن في مبادرة الكشف المبكر عن الأمراض المزمنة    عضو بالأرصاد: أجواء مستقرة ودرجات حرارة طبيعية خلال الأسبوع الجاري    علاء نبيل: حذرت أبو ريدة من الصدام بين طولان وحسام حسن قبل كأس العرب    ندوة بمعرض جدة للكتاب تكشف «أسرار السرد»    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



صباح الورد ..ثلاثية آخر العمر
نشر في بوابة أخبار اليوم يوم 12 - 12 - 2024


د. داليا سعودى
فى حياة عمالقة الأدب، لحظة زمنية يطالعون عندها منجزهم الأدبى فيدركون حدوده المترامية، لحظة ينظرون عندها إلى سنوات العمر المتبقية فيدركون أن الباقى من الزمن لم يعد مديدا. وتتلبسهم عندها رغبةٌ فى قول عبارة أخيرة يميزها الإيجاز والتكثيف. إيجاز الرحلة وتكثيف أدواتها ومعانيها. عادةً ما يكون ذلك حال الأدباء الذين يمتلكون وعياً حاداً بمحطات أعمالهم، ويطمحون إلى إضفاء نوع من الوحدة العضوية عليها. فعلها جوستاف فلوبير على سبيل المثال، حين كتب قبيل رحيله بثلاث سنوات كتاب «ثلاث قصص قصيرة»، الذى كثف فيه مصادر إلهامه الثلاثة: الواقعية، والأسطورة، والتاريخ، جمعها خيط ناظم يمثل وحدة الإنسان أمام مصيره. وفعلها نجيب محفوظ حين كتب «صباح الورد» (1987) فى السادسة والسبعين، لغرض أدبى آخر، وهو لا يدرى أن العمر سيمتد به ليفوز بنوبل، وليتعرض لمحاولة اغتيال، وليستمر فى الكتابة نحو مزيد من التكثيف التعبيرى غير المسبوق. فما هى الرسالة التى تركها لنا النجيب فى ثلاثية «صباح الورد»؟
بداية، يختلف المصنفون فى تصنيف «صباح الورد»، أهى سيرة ذاتية متخفية فى مخايل التخييل، أم هى ثلاث قصص قصيرة منفصلة، أم هى رواية متصلة ممسرحة فى ثلاثة فصول: «أم أحمد»، و«صباح الورد»، و «أسعد الله مساءك»؟
ويبدو أنه عمل بلا ضفاف عصى على التصنيف، رغم حرص صاحبه على أن يكسبه بنية صارمة التقسيم، فهنا ثلاث قصص لكل منها بداية ونهاية وعنوان، لكن ثمة خيط جامع بينها هو صوت الراوى الواحد غير المُسمَّى الذى يأخذ على عاتقه التعبير بضمير المتكلم، وفق تسلسل زمنى يعبر الطفولة والشباب والكهولة على التوالي، ويصنع منها رواية متماسكة، تحفل تفاصيلها بكثير مما نعلم من سيرة كاتبها.
رواية تحمل فى بنيتها متتالية قصصية تحتفى بالبنية الثلاثية التى عُرفت بها درة أعمال الكاتب وأضخمها حجماً، حين خضعت لاعتبارات الناشر، فقسمها محفوظ إلى «بين القصرين» و«قصر الشوق» و«السكرية».
تذكرنا البنية الثلاثية هنا بتلك الرواية الواقعية الاجتماعية الكبرى، وهو فى «صباح الورد» يؤوب إليها، برغبة واضحة فى استكمال قراءة الواقع الذى امتد به الزمن لمطالعته على وجه الوطن. فلئن توقفت «الثلاثية» بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، وعاصر أبطالها ملكاً، تمتد «صباح الورد» حتى منتصف الثمانينيات ويعاصر أبطالها ملكاً وأربعة رؤساء، فهى تستكمل بطموح كبير ما توقفت دونه «الثلاثية» زمنياً، لتوجز قصة صعود الطبقة الوسطى المصرية وهبوطها عبر الزمن. بالطبع ليس ثمة تناظر فى نسيج السرد بين الثلاثيتين، الذى يتسارع ويتكاثف فى «صباح الورد»، لكن هناك استدعاء لرائحة الأمكنة الأولى كما تستدعيها الذاكرة، واستعادة لملامح من السيرة يكملها الخيال المتضافر بصورة فنية مع حال المجتمع المصري. إنها عودة أخيرة لأماكن الثلاثية بعدما فعل التاريخ أفاعيله، وبعدما أحس محفوظ أن تجربته فى الكتابة قد شارفت على محطات العمر الأخيرة.
تمهيد: لقاء الذاكرة والخيال
فى الأعمال الموسيقية، يصنع التمهيد لحن البدايات. هكذا يبتدئ الجزء الأول من «صباح الورد» (أم أحمد) بجملة افتتاحية تستدعى الذاكرة وتبين قصورها فى آن واحد: «لو رجعت إلى الذاكرة ما وجدت إلا صورا متناثرة لا تعنى شيئاً».
والعجيب أن هذه العودة إلى زمن الطفولة، وهى تستند إلى الذاكرة وتتبرأ منها فى الوقت ذاته، تتطابق مع الصيغة التى استهل بها نجيب محفوظ نص السيرة الذاتية الوحيد الذى كتبه فى حياته، ألا وهو نص «الأعوام»، الذى نسجه صبياً على منوال «الأيام» لطه حسين، والذى خبأه طوال حياته حتى قال لمن ألحوا فى سؤاله عنه أنه أحرقه. إذ يبدأ ذلك النص الذى ضمنه الكراس المفقود بقوله: «لا يذكر أول شيء أدركه حسه وتَحققه عقله، ومن ذا الذى يذكر؟»
وقد يقول قائل إن هذا التماثل فى افتتاحيتى النصين هو لعبة مصادفات محضة لكاتب تجنب دوماً كتابة السيرة الذاتية الخالصة، وأقر بمحدودية المساحة التى تشغلها فى العمل الفني. لكن إكمال قراءة العبارة الأولى فى مستهل «صباح الورد» يُظهر «قمراً يطل فى نافذة عالية» وبالعودة إلى نص «الأعوام»، نرى الطفل الصغير نائماً على ظهره فوق سطح البيت يستمع إلى حكايات أخته متأملاً السماء و «قمرها الزاهي».
فإن أكملنا قراءة الفقرة الأولى فى الرواية نجد أم أحمد تطعم الدجاج بين مهامها اليومية تماماً مثلما كانت تفعل أمه فى عشة الدجاج فوق السطح فى نصه الذاتي. أهى أيضاً مصادفة أن تتردد صورتا القمر والدجاج بعد فكرة تمنّع الذاكرة واستعصاء التذكر؟
بالطبع لا أدعى أن نجيب محفوظ قد عاد بعد كل تلك الأعوام إلى «الأعوام» لينقل عنها مستهلها وصورها، ولكنها أثر تجلى صورة استقرت فى اللاوعى منذ الطفولة واستدعاها القلم عند اللزوم.
فهذه المشابهة التى تطل عبر افتتاحية «صباح الورد» تطلعنا على دور الذاكرة فى إشعال شرارة الخيال، وتخبرنا بتأثير الحقيقة على الفن. وهو دور يعزز شرط تصديق التخييل، تماماً كما يفعل السرد عبر ضمير المتكلم فى العمل الروائي، وكأننا بصدد ما كتبه أونوريه دو بلزاك فى مستهل رواية «الأب جوريو»: «كل ما ستقرأونه فى هذه الرواية حقيقي!» (All is true).
إنه الإيهام بصدقية المحكى رغم اعتراف صاحبه بأن الذاكرة فقيرة وأنها لا تسعفه. فيقول: «الزمن القديم فى الحى العتيق، لم يبقَ من حياته الحافلة إلا ما تعيه الطفولة. مناظر غائمة، وأصوات غائبة، وحنينٌ دائم، وقلب يخفق كلما حركته روائح الذكريات».
أم أحمد: ميلاد الحكايات
القمر الحقيقى حقيقةَ الجرم السماوى المطل من السماء فوق الرؤوس فى «الأعوام» يعود قمراً مجازياً «يطل من نافذة عالية» فى مستهل حكاية «أم أحمد». والفرق بين القمرين هو الفرق بين الذكرى والخيال، فرق يسكنه الحنين الذى يبثه محفوظ منذ البداية مع ظهور بطلته أم أحمد.
وأم أحمد هى متعهدة الحكايات والخدمات الدوارة على البيوت فى حارة قرمز العتيقة بالجمالية، التى تستنقذ الذكريات من براثن النسيان، وتجسد بصفاتها الروح الشعبية المصرية فى صورتها الشهرزادية المروجة للأسرار والأساطير عن «السادة الممتازين» فى حى الحسين وبعد انتقالهم إلى العباسية.
أم أحمد التى عرفها الراوى منذ طفولته وحتى رحيلها فى أواخر الثمانينيات «ما هى إلا الثمرة الأخيرة لصراع طويل مع الألم كُتب لها فيه النصر».
لقد ورث عنها الراوى المتماهى مع محفوظ ثروةً من الحكايات «تضاف إلى التجارب التى حصّلها الإنسان بنفسه وبحواسه وقلبه.» ولا يكتمل الموروث الشعبى من دون جذور ضاربة فى تاريخ النضال الوطنى وإلا صارت أم أحمد معنى مجرداً يفتقر إلى المصداقية.
فلا ينسى الراوى أن يصورها مكتملة المعاني: «حظيت بإعجابى لقوتها الذاتية وصلابتها وشجاعتها وذكائها وانتزاعها من الصخر الأصم مكانة مرموقة بين أرقى سيدات ذلك الزمان. ولن أنسى أيضاً منظرها وهى واقفة فوق الكارّو بين جاراتٍ لها فى إحدى المظاهرات الوطنية تهتف بصوتها المدوِّى لسعد ومصر».
لكن القمر المطل من النافذة العالية لم يكن أم أحمد، وإنما فاطمة العمري، «حلم الطفولة المجهول»، الذكرى المتبقية للحب الأول، وابنة واحدة من كبرى العائلات. أتراها صورة أخرى لعايدة شداد فى «الثلاثية» تعود بعذوبتها النقية وبصوتها الرخيم وبطبقتها الأعلى اجتماعياً؟ قد لا يكون ذلك دقيقاً، فقد لا تستقيم مقارنة حب كمال عبد الجواد المزلزل لكيانه مع حب الصبا المستعاد هنا على لسان الراوى بعد زمن.
وسترحل فاطمة عن الحارة مع أسرتها وتتزوج فيسلاها الراوي، حتى تغيب صورتها تماماً عن مخيلته: «فلم يبق منها فى خيالى -يقول- إلا نفحة من جمال مجرد وصدى صوت رخيم شديد التأبى والتمنع على الذاكرة.»
ولعل الحب الضائع هنا مجازٌ لانفصام العلاقة بين الطبقات الاجتماعية بعد الانتقال من الجمالية إلى العباسية، بعدما كانت الحارة تشبه أسرة كبيرة لا تعترف بالتفاوت الطبقي. إذ يرصد الراوى انتقال الأعيان إلى العباسية الشرقية حيث شيدوا قلاعهم العملاقة، وانتقال «المستورين» إلى العباسية الغربية ليسكنوا فيها بيوتاً صغيرة. «ولم تتواصل الرابطة القديمة بين الطرفين فسرعان ما شُغل كل فريق ببيئته الجديدة، وكأن شارع العباسية الذى يفصل بين الجانبين أصبح سداً لا يُعبر إلا فى الملمات وقد لا يُعبر أبداً. عدنا غرباء أو كالغرباء، بل صرنا مع الوقت أعداء أو شبه أعداء، وحمل إلينا الزمن أفكاراً جديدة تكرس العداوة والانفصام، وختى الانتماء لحزب واحد لم ينجح فى محو تلك غربة الزاحفة».
ينفرط عقد الحارة ويتبدد الحب فى الحى الجديد، لكن يبقى تراث أم أحمد فياضاً بحكايات الطبقة المخملية. وتتغير الأزمنة فتحكى عن تقلب أحوال العائلات المصرية، ونشهد تناقضات ضباط يوليو ووحوش الانفتاح عبر مصائر الناس. وحين قرأ الراوى نعى فاطمة الجميلة فى صحيفة الأهرام، ساوره حزن من نوع خاص: «إنه حزنٌ يتأدى كأنه شعيرة تُتلى فى محراب الوجود على لا شيء أو على كل شيء».
إنه اندثار العالم القديم بمُثُله قبل وجوهه.
صباح الورد: مرايا الأسرة المصرية
تتخذ ثلاثية «صباح الورد» اسمها من اسم حكايتها الثانية. وبعد أن كان الراوى يتلقى الحكايات من أم أحمد، صار هو «ترجمان شارع الرضوان فيما لديه من قصص». وهو فى ذلك يهتدى بمنهج واضح لا يحيد عنه. فهو يُنصت إلى الشارع، إلى المكان، صاحب العبقرية الأولى فى صنع الحكايات، ويصغى إلى ما تطاير فى جنباته من أخبار وأسرار، ويعلم أنه عليه ألا يصدق كل ما يسمع.
لذلك يتجمل بالصبر ويراقب الزمن وهو ينقى الأخبار من شوائبها ويسندها بالشواهد. منتهجاً فى ذلك نهج المؤرخ العليم، لكنه يفاجئنا بقوله إن «العبرة فى النهاية بما يقال لا بما حدث، ورُبَّ كذبة أصدق من حقيقة، فاستمِع إلى شارع الرضوان ولا تكن من المتشككين.».
والحقيقة أن ثمة سؤال محدد يطرحه الترجمان خفية من وراء قص الأقاصيص، فالحكايات عند محفوظ ليست تُطرح بأى حال لذاتها، وإنما هى دوماً أمثولة لسؤال فلسفى أكبر. إنها أقرب إلى مقاربة فينومينولوجية تتفحص الواقع وتختبره عبر التجربة الذاتية طلباً للحكمة والتماساً للتدبر.
وهو هنا يرصد حالة التحديث التى وُعد بها المجتمع المصري. فيصف شارع الرضوان فى بواكير مجده كواحة للجمال والرفاهية والفرنجة. يطالعه القادم من الحى الشعبى العتيق بانبهار وحبور، حتى باتت "النقلة من الجمالية إلى العباسية فى ذلك الزمان تُعتبر وثبة من القرون الوسطى إلى أعتاب العصر الحديث.» فما الذى حدث لسؤال التحديث؟
تخبرنا قصص العائلات التى يسردها الراوى بعناصر الإجابة. وهو فى سرده يهجر النهج الفلكلورى الانطباعى الذى اتبعته أم أحمد فى حكاياتها فى الجزء الأول، فيورد قصصه منتظمةً كأنها مدرجة فى سجل تحريرى دقيق يحمل كل منها اسم العائلة، ليحكى لنا بين السطور ما سجله من مفارقات تجيب على سؤال إخفاق التحديث.
أولى تلك المفارقات هى التى يجسدها آل إسماعيل، وهى مفارقة الاستلاب الثقافي. والطريف أن محفوظ قد اختار لهذه الأسرة اسماً يعود إلى أبى العرب إسماعيل وجدهم الأكبر، لكن ما من شيء فى حياة هذه الأسرة المتفرنسة المتفرنجة يشى بتمسكها بأى من مقومات العروبة. ولا عجب أن ابنها عثمان يموت سجيناً فى سجن جزيرة الشيطان فى فرنسا. وكأن محفوظ يريد أن يحذر من مآل الاستلاب الثقافى الذى يسجن أصحابه فى ثقافة غير ثقافتهم ولغة غير لغتهم. تهجر الأسرة المكلومة شارع الرضوان، وكأن مآلها أن تهاجر جسدياً بعدما هجرت روح المكان معنوياً.
من المفارقات أيضاً ما تمثّل عبر آل مراد من إخفاق ثورة يوليو فى تحقيق آمالهم رغم قربهم منها. وكأن البؤس مقرون بهامات أفرادها لا سيما أصغرهم، عبد الخالق، الذى تنكر له حظه بصورة مؤسفة. ولا يفوت الراوى أن يبث تفسيراً لهذا الإخفاق بقوله: «وخطر لى خاطر أن أولئك الضباط فى ثورتهم يمثلون مصر المقهورة فى معاناة مشاعرهم بالنقص، ولكن يُخشى أن ينقلب الأمر فى ذواتهم إلى مركب عظمة، ولا يجدوا من يمارسونه عليه إلا المصريين التعساء!»
وتتوالى القصص والمفارقات مع آل القِرَبى وشذوذ عميدهم وقربه من إسماعيل صدقى باشا عدو الشعب الأول ومعذبهم ويد الإنجليز فى احتلال مصر ؛ وآل الجمحى الذى وصموا بالعنف والشراسة وعُرف عميدهم ببطشه وبارتكاب جرائم قتل ونشأ ابنه ناقماً على الثورة وزعيمها، حتى أبدى شماتة كبرى عندما وقعت هزيمة 67. لكن المفارقة هى إثراؤه ثراءً فاحشاً فى عصر الانفتاح عبر «نهب البلد باسم الوطنية»، ثم تفكيره فى الهجرة بلا رجعة فى عهد مبارك لمَّا تبين له استحالة «إنقاذ السفينة من الغرق».
وفى وسط مخازى العائلات، يبرز نموذج آل قيسون فى أبهى صورة. لعل المفارقة الوحيدة فيه هى رثاثة مظهر رب الأسرة وما ادخره لابنيه عزت ورأفت من عناية وتعليم وتوفير المظهر اللائق، فنشأ الاثنان آيتين فى الاستقامة والاستنارة والنبوغ، حتى صارا قدوة لشباب شارع الرضوان، وتخرجا طبيباً ومهندساً من جامعات إنجلترا. ونظراً لأن الحوار المحفوظى يبث فى السرد إضاءات حيّة تنقل لنا الأصواتَ بصورة مباشرة طازجة، يأتى حوار عزت مع الراوى مضيئاً بالأفكار الذى أراد محفوظ أن يطرحها على قارئه:
« لا يكفى التفوق فى الدراسة، ولا الانتماء فى الوطنية، وليست الوطنية هى يحيا سعد، ولكن يجب أن تكون أنت أيضا مثل سعد. وحدقنا به فى دهشة، فواصل: الرياضة .. الفن .. الثقافة .. العمل .. هذا هو مستقبل وطننا الحقيقى (..) أعداؤنا ليسوا الإنجليز والملك فقط، ولكن أيضاً الجهل والخرافات.».
ولعل شخصية عزت قيسون فى «صباح الورد» هى المرآة التى يتجلى لنا فيها وجه محفوظ الحقيقي، فيكتب عنه «أن وفديته العريقة حالت بينه وبين التفاهم الكامل مع ثورة يولية، فاعترف بإيجابياتها ولمس بخفة السلبيات». ثم يدير بينه وبين الراوى الحوار من جديد، فنسمعه يسأل سؤالاً جوهرياً:
«- ولكن أين الشعب؟ إنه يخسر كل يوم بعضاً من إيجابياته.
فقلت ببراءة:
كأنما أصبحنا دولةً عظمى.
فقال باسماً:
دولة عظمى بلا شعب تُساوى صغرى!»
ولا عجب أن يؤقت محفوظ رحيل عزت قيسون بالتزامن مع هزيمة يونيو المشئومة.
وتستمر الإجابة على سؤال فشل التحديث عبر الدخول إلى البيوت، فنرى كيف قفزت إبنة بائع الدندورمة لتصبح أكبر معلمة خردة أيام الحرب، تتاجر فى مخلفات الجيش البريطاني، وتهدّ السرايات لتحولها إلى عمائر، وتتوسع فى الثراء والنفوذ حتى أُطلق عليها فى العباسية «مسز تاتشر»! لم يكن محفوظ فى ذلك طبقياً لكنه عمد إلى رصد الظواهر التى خلخلت نسيج الطبقة المتوسطة، مبيناً تغير توزيع الثروة كما فى حالة «مسز تاتشر»، وفى حالة الرأسمالية غير الوطنية «المرتمية فى حضن الاستعمار الأمريكي» إبان الانفتاح عبر نموذج آل ضرغام المرابي.
كما لا يفوت محفوظ رصد ظهور الحركات الدينية التكفيرية، فيظهرها هنا بوصفها ردة فعل للتحلل من القيم الدينية والغرق فى الحياة المادية المتحررة، باختصار كرد فعل للحداثة المنبتة عن قيم المجتمع الروحية، وفشل النخب السياسية والفكرية المسئولة عن 5 يونيو67 فى إعادة التوازن إلى جيل الهزيمة، كما تبدى كل ذلك فى حالة آل شكرى بهجت وابنهم سامح «الخواجة بلا قبعة»، وحفيدهم شكرى المتطرف.
وبالطبع يفرد محفوظ عرضاً فريداً لنماذج الفساد، لا سيما فى نهاية الفصل، عبر نموذج عديلة الحرة السيدة المتحررة وابنتيها من كل أخلاق، والطريف هى روح السخرية التى كتب بها محفوظ مقطع عديلة الحرة، والنميمة المستترة التى يروى بها قصة ابنتها سناء وانسلالها إلى فئة المحترمين اجتماعياً، على نحو يشى بكثيرٍ من المكر بالوجوه الحقيقية التى استلهم منها شخوصه.
لكن عديلة بفسادها تصبح رمزاً مصغراً وتافهاً لفساد أكبر يلخصه محفوظ عبر تشبيه فائق التميز فى حبكته، إذ يكتب: «وقد عاصرتُ من ألوان الفساد بألوانه وطبقاته وأنواعه ما يجعلنى أذكر عديلة وابنتَيها كما أذكر أحيانًا مكتشف النار فى تاريخ الحضارة بالمقارنة بغزاة الفضاء.»
ولعل المقارنة مع كتاب «المرايا» تفرض نفسها أمام هذا الأسلوب فى الوصف القائم على مزج الذاكرة والخيال، لكن الفارق الكبير هو أن وجوه «المرايا» هى بورتريهات شخصية تتراءى فى خلفيتها أحداث أثّرت فى الوطن، أما لوحات «صباح الورد» فهى رصد فنى لتطور الأسرة المصرية عبر الزمن وتاريخ ميلاد الطبقة الوسطى وصعودها وهبوطها. وهى بذلك تتميز أيضاً عن رائعة «حديث الصباح والمساء» التى ترصد عبر قالب الأبجدية المحير شجرة العائلة، وتجليات تَناوب الموت والحياة عليها، وأحداث التاريخ التى شكَّلت نسيجها.
أسعد الله مساءَك أيها الوطن
يُشابه نجيب محفوظ أم كلثوم فى تطبيق أسلوبية التكرار (Stylistique de la reprise)، فكلاهما قد يعمد إلى تكرار القالب الشكلى نفسه، مع تبديل المعنى المتحصّل عند المتلقى فى كل مرة، باعتماد تنويعات متباينة على النسق ذاته. فعند محفوظ هناك تنويعات لا تكاد تنتهى على قالب الحارة، فهناك الحارة الجغرافية (زقاق المدق، بداية ونهاية)، وهناك الحارة الكونية الوجودية (أولاد حارتنا، الحرافيش)، وهناك الحارة الوطن (الثلاثية، صباح الورد). وهى فى «صباح الورد» حارة مضمخة بالنوستالجيا العارفة بصعوبة العودة إلى الماضي، وملبدة بغيوم ترجئ شمس المستقبل. إنها حارة أصابها التحلل الاجتماعى والشلل التنموى على نحو يُثقل الذاكرة. «وإنها لنقمة أن تكون لنا ذاكرة، ولكنها أيضاً النعمة الباقية».
تتعذَّب الذاكرة وتعذِّب الراوي، الذى يسرد حكايته الشخصية فى الجزء الثالث من الكتاب تحت عنوان «أسعد الله مساءك». فيكتب فى صدرها: «الذاكرة تُعذِّبنى والخيال، فلعلَّه من حسن حظ الحشرة الهائمة فى القمامة ألا يكون لها ذاكرة أو خيال، بل الأغلب أن الحشرة تهنأ بالقمامة، بالقياس إليَّ لا فارقَ يُذكر بين مسكنى البالى وبين القمامة. إنه لظلمٌ وأى ظلم ألا أكون اليوم فى بيئةٍ جديدة تزهو بالنقاء والنضارة.» ها هو الراوى بطل القصة، الذى لم يسَمِّه محفوظ، يصل إلى سن التقاعد من الوظيفة فى الثمانينيات من القرن العشرين. فيواجه حياته فى شقته العتيقة المذرية فى شارع «أبوخودة» وحيداً.
فلم يستطع الزواج بحبيبته مَلَك ولا بغيرها، بعدما منعته ظروفه العسرة بعد وفاة أبيه، وتعلق أمه وأختيه برقبته فى غياب الأب، فضاع حلمه البسيط فى الحب والزواج وتكوين أسرة. والحقيقة أن محفوظ قد وصف حالة البطل البائسة فى بيته المتهالك القذر وصفاً مفصلاً دقيقاً، فجعل منه مرآة تتراءى فيها كل من مروا بمحنته، بل تجعل للمحنة طاقة رمزية توحى بانسداد الأفق إثر فشل التنمية. فهذا بطلنا قد مات حبه فى الزمن البعيد، أو هكذا ظن، وشهد زفاف حبيبته من صديقه كالغريب (كما حدث مع كمال عبد الجواد مع اختلاف السياقين)، وعاش أسيراً لمطالب أمه وأختيه اللائى لم يكفّ شجارُهن داخل البيت (هل ترى معى النسوة الثلاثة رمزاً لحروب ثلاثة عطلت الوطن وملأته هماً وغماً ومشكلات اقتصادية؟). فيكتب محفوظ منتقياً الكلمات على لسان بطله: «وألعن تقلبات الزمن التى اجتاحت وطنى والعالم وغزتنى فى عقر داري، وأصبُّ لعناتى على موطنى بين أبو خودة وميدان الجيش.».
ومما يزيد من محنة البطل أنه، فى سالف الزمان، كان ابن عز يرفل فى النعم، محاطاً بالدفء والحنان والكرامة، يتنبأ له من حوله بمستقبل باهر لذكائه ولمظاهر الثراء الواعدة من حوله بغد مشرق تتخايل فيه إطلالة حبيبته ملك التى كاد أن يتزوجها. لكن النوستالجيا ليست وحدها ما يثير حنق البطل الذى هبط فى سلم الحياة إلى القاع فراح يبيع أثاث بيته العتيق ويقتات على الكفاف وسط هواجس المرض والموت. فما يفجر الغضب والحسد فى نفسه هو ذلك «الإثراء المتفجر فى كل مكان» و «الأفراح الذهبية فى الفنادق» وإعلانات التلفزيون «الموجعة لقلب المحروم». وكل ما يجعله يصرخ «ما جدوى ارتفاع المرتب قيراطين إذا ارتفع التضخم أربعة؟!»، «وجدتُ نفسى وحيداً فى الستين فى عالم جُنّ جنونُه وانقلبت موازينه وأصبحت فيه الليمونة بعشرة قروش!».
لكن العم نجيب محفوظ عظيم الرأفة بقارئه رغم قساوة ما يكتب، فرغم تشاؤم العقل المتوارى تحت مبضعه التحليلى هناك دوماً تفاؤل الإرادة. وهى جزء من الحل فى معظم ما كتب. فيلوح تحسّن طفيف فى حياة البطل حين يلتحق بوظيفة تدر عليه ثلاثمائة جنيه (فى نهاية الثمانينات) فى شركة «جنرال إلكتريك» (رأسمال أجنبى ولكن ليكُن!)، وحين يعود طيف قمره يلوح له فى أعلى النافذة كما أطل بوجه حبيبة أولى فى حارة أم أحمد فى الجزء الأول.
ومع تكرار ظهور القمر المجازى فى النهاية يعود الأمل خجولاً إلى القارئ، بعدما يتجدد الوصل بالحبيبة مَلك بعد ترمُّلها. فتفتح مصراعى النافذة وتلوح له شبه مرحبة.
يتّشِح وجه القمر العالى بالضبابية ولكنه يرسم بصيصاً غائماً من النور. وعلى أى حال، النافذة تناديه، تهمس فى قلبه، فهل يفوز بعد العمر بالنعيم والهدوء والطرب؟
وبعد، لو أن قادماً جديداً إلى عالم نجيب محفوظ سألنى عن قراءة أُولى يتخذها منطلقاً إلى منجز العميد الهائل، لعلّى هذه المرة لن أرشح له كعادتى الثلاثية ثم الحرافيش، بل سأنصحه بالبدء بثلاثية آخر العمر: «صباح الورد». فهى آخر ما نشر نجيب محفوظ قبيل حصوله على جائزة نوبل عام 1988، وقبيل الفرحة العارمة التى رافقت الجائزة واحتفاء الدولة والناس بالجائزة «العالمية»، مما غيب النقد عن تفحص رسائلها. وهى مكتنزة برؤية العميد فى أوج اكتمال قراءته للمكان والزمان والإنسان، وتقدم عصارة اختلاط السيرة الذاتية بالخيال فى أدبه وقد اكتمل.
ولعلى أنصح بعد هذه العتبة القرائية بالحرافيش!


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.