لا نستطيع الامساك بالحياة ونحن نخوض غمارها،لكن الذاكرة تخزن من أجلنا الجميل والجليل ونحن فى ذروة الاستغراق فى أحداثه.لكننا لا نضجر من المحاولة فى اللحاق بقطار الحياة،هى حياتنا هكذا يقول لنا طيف الخيال وهو ممسك بخيوط اللعبة.إنه يطاردنا فى الصحو والنوم ويتحدى منطق وجودنا كى يضعنا على الطريق نحو معرفة ذواتنا،لكن كيف لنا أن نعرفها قبل الانهمام بها؟ لا حظت كل هذا التعقيد فى الحياة والذكرى والخيال وأنا أعيد قراءة أحدى قصص مجموعة صباح الورد لنجيب محفوظ،لكن محفوظ فى القصة يصور الأمر ببساطة متناهية وربما خادعة:إنه حديث الصباح والمساء! الحياة ومعها الموت أو الموت ومعه الحياة.هكذا يأخذنا الراوى معه فى رحلة البحث عن معنى ما نعيشه ونتذكره ونتخيله عندما لا تكون الذاكرة جاهزة فى المؤاساة عندما يقطع الموت صيروة الاندفاع فى مجرى يطيب لنا أن نطلق عليه اسم:القدر أو المصير.عندما طالعت القصة للمرة الأولى لم يتثنى لى إدراك مغزى النهاية التى اختتم بها محفوظ القصة،مشغول هو أو بالأدق راويه بحديث الصباح والمساء أو الموت والحياة،وربما لتبرير هذا الانشغال الفلسفى بالمعنى أو بالماوراء يستخدم لغة واقعية تحافظ على سيرة الحديث فى الحارة بشكل بارع.وبقدر ما تطرح علينا براعة نجيب محفوظ فى التعبير عن الانشغال بمعنى ما نعيشه من قضايا وربما مهام،يمكن لنا أيضا أن نتعلم من الوصف والرسم الواقعى لأسلافنا طبيعة الرهان الذى تطرحه علينا ذواتنا فى عالم سائل أو مائع يكاد أن يضفى علينا طابعه بشكل يدفعنا الى التيه فى بحار الميتافزيقا:ميتافزيقا الصباح والمساء.وكما طيف الخيال بمقدور حكايات حارتنا أن تهدى الانسان وهو مبحر فى ظلال ميتافزيقا الصباح والمساء:بإمكانها أن تعمل كخيط مرشد أو ممرداخل هذا البحرالمتلاطمة أمواجه. ويجدر بى الان أن أترك لخيال القارئ الحرية فى التفكير بحرية فى هذه النهاية البسيطة والمغوية فى قصة نجيب محفوظ: رحنا نتذكر ونتذكر ونقلب صفحات الماضى البعيد والقريب .جلنا معا فى جنبات عالم حافل بالأموات،ألا ما أكثر الراحلين،كأن الوجوه لم تشرق بالسناء والسنى فى ظلمات الوجود وكأن الثغور لم ترقص بالضحك،هاهى راوية الحكايات وطبيبة الحب والجنس والسعادة ملقاة على الفراش القديم تشكل عبئا يوميا على أقرب الناس إلى قلبها.وما قيمة الحكايات … وهى تتكرر بصورة أو بأخرى قبل أن تلقى نفس المصير.وقد عبرت الحارة من أولها لآخرها وانغمست فى العطر القديم.رأيت قلعة آل سعادة مغلقة مهجورة كالبيت المسكون،أما السرايات الأخر فقد صارت إحداها مدرسة والثانية مستشفى والثالثة مقرا للحزب الوطنى.وتنبثق من الماضى أصوات وألوان ونبضات قلب فأقول لها لقد جمعتنا هذه الحارة ذات يوم ثم فرقت بيننا الأيام،فإلى اللقاء فى المقر الأخير.