مر الزمان فهل محا الملامح وهل ضاعت نبرة الأصوات وتلك الرائحة ؟!.. كيف يتعامل المثقف مع الذاكرة وشراكها؟!، حديث الذاكرة يعنى أحضان الأم الدافئة والحنان بين فسحات الغيم. بقايا الجمر فى موقد الشتاء، وضحك الصغار فى تعثر الكلمات الأولى وبدايات الرحلة، لكن شراك الذاكرة تثير دهشة مثقفين كبار هنا وهناك: لماذا تتذكر هذا وتنسى ذاك؟. يتساءل الكاتب والشاعر والمترجم الأمريكي تشارلز سيميس فى مجلة "نيويورك ريفيو": "ما الذى يجعل أماكن ووجوه بعينها تستقر في الذاكرة بقوة بينما تختفي أماكن ووجوه أخرى قد يكون الإنسان عاش فيها ومعها سنوات طويلة؟.. هل الأفضل للإنسان أن ينسى أم يتذكر؟ .. أليس النسيان أحيانا نعمة والذاكرة عذاب؟!". هاهو تشارلز سيميس يسير في أحد شوارع نيويورك ويمر بمتجر مجوهرات فإذا به يتذكر أن هذا المتجر كان مطعما ايطاليا منذ 50 عاما ويستعيد بالتفصيل وقائع أمسية على ضوء الشموع قضاها في هذا المطعم مع فتاة أحبها وسرعان ما مضى كل في طريق. أما أديب نوبل المصري نجيب محفوظ فقد تحدث مرة بصورة مبهمة عن حبه الأول الذي وجده في أحد قصور العباسية، وكانت فتاة تكبره قليلا فيما يضيف في حديث الذكريات: "أحيانا تقابل إنسانة وعندما ترى وجهها تشعر أنك مرتبط بهذا الوجه وتعرفه من زمن طويل، ولا تفسير لهذا الموضوع". يبدى سيميس دهشته حيال شراك الذاكرة لأن المرء قد يرى أحد الأشخاص مرة واحدة أو لفترة قصيرة فيستقر في ذاكرته طويلا فيما تمحى من هذه الذاكرة وجوه لطالما عرفها، أي معنى يمنح للبشر والشوارع في لعبة الذاكرة وفخاخها، وهل يمكن القول إن رواية أي شخص عن ذاته يمكن أن تكون مكتملة وصحيحة فيما الذاكرة تمارس باستمرار لعبة استبقاء ما تريده ومحو ما لا تريده؟!. وفى وضع كهذا يمكن للخيال أن يتدخل فإذا بوقائع لم تحدث تتحول إلى جزء من السياق، فيما تختفى من السياق ذاته وقائع حدثت بالفعل، ومن ثم فإن القصة التي يقدمها أي شخص عن ذاته وسرده لوقائع حياته قد لا يكون بريئا من تلفيقات خيال وإن بدا هذا السرد متماسكا!. وللذاكرة والذكريات كتابها الكبار مثل نجيب محفوظ الذي كان يمتع سامعيه وهو يحدثهم أو يكتب لهم عن أزقة وحواري وشوارع وحدائق الجمالية والعباسية، فيما يحق القول عن محفوظ وذكريات طفولته المنطلقة إن الحياة كانت أكثر ذكاء من الجميع فقد منحته نفسها دون أن تؤذيه مدركة أنه سيرد لها الجميل وقد فعل عندما منحها في المقابل خياله ليحيطنا علما بما يحدث في الشوارع الخلفية والحارات التي يخفيها ضباب النسيان. وأسعد ذكريات طفولة أديب نوبل المصري كانت عند ظهور عربة رش المياه في شوارع الجمالية ودخول "سينما الكلوب المصري" ثم انتظار أبطال الأفلام التي يراها أمام باب السينما لأنه كان مقتنعا أنهم يخرجون من باب سري لا يعرفه أحد وفى كل مرة يعييه الانتظار فيتصور الطفل نجيب محفوظ أنهم يفضلون البقاء خلف ستار الشاشة. وعلى العكس من طفولة نجيب محفوظ، يقول الكاتب الراحل سعد الدين وهبة عن نفسه "إنه لم يكن طفلا"، فيما أوضح أنه قرر منذ طفولته وسنوات دراسته الابتدائية أن يفكر ويقرأ ويكتب، ومع أنه يعترف بأنه لم يعش طفولته فإن هذا الكاتب المسرحي العظيم والمثقف الكبير يؤكد أن ذلك لم يسبب له ألما. هذا كاتب ذكريات طفولته تكاد تخلو من اللعب وحتى عندما اتجه لكرة القدم في أيام الصبا قرر أن ينصب نفسه كمسؤول إداري للفريق دون أن يشارك أنداده اللعب، هل يمكن لطفل كهذا أن يلعب مع الذاكرة أو يقع في شراكها؟!. وإذا كان نجيب محفوظ تذكر حبه الأول بكلمات غامضة في حديثه عن "فتاة قصر العباسية" فإن سعد الدين وهبة الذي لم يعش طفولته عرف بعد ذلك الحب لأول مرة أثناء دراسته الثانوية لفتاة يسميها "فتاة القطار"، حيث كانت تشاركه ركوب قطار الصباح في الإسكندرية وتعلق قلبه بها فإذا به يكتب فيها شعرا:"وما حب القطار قد شغفن قلبي..لكن حب من ركب القطار"!. كان نجيب محفوظ يستمتع باختراق متاهة الزمن وكأن التفاصيل تعبر السنوات إليه ليسردها على مجالسيه وبقت "حكايات الفتوات" داخل ذاكرته فإذا به يستردها من طفولته ويحولها لروائع روائية كما هو الحال فى ملحمة "الحرافيش". وفى كتاب صدر في مطلع القرن العشرين، تحدث هنري جيمس عن "شراك الذاكرة" في المشهد الأمريكي عندما زار الولاياتالمتحدة بعد غياب امتد عقدين ومضى يتجول في الشوارع التي عاش فيها وعرفها بنيويورك فإذا به يشعر برجفة لتغير الوجوه ومعالم المكان. وهال هذا الروائي الأمريكي الذي حصل على الجنسية البريطانية يكتب بمداد المشاعر أن تتغير المدينة التي ولد بها إلى هذا الحد الكبير وأن يختفي أبناء الجيران الذين كان يلهو معهم في أيام الطفولة والصبا، كلما ذهب لمكان في مدينته الأثيرة يجده قد تغير بشدة واختفت العديد من معالمه التي عرفها من قبل فإذا بالذكريات تتحول إلى شراك. وهنرى جيمس الذي ولد يوم الخامس عشر من ابريل عام 1843 وقضى في الثامن والعشرين من فبراير عام 1916 هو مؤسس ما يعرف بالمدرسة الواقعية في أدب الخيال وحدت أعماله البديعة بعديد من النقاد والأكاديميين المتخصصين في الدراسات الأدبية لاعتباره أحد أعظم سادة وأساتذة الحك والأنماط القصصية في العالم. وبرع هنرى جيمس صاحب "جناحا اليمامة" و"تراجيديا الأخطاء" في روايات تصور حياة الأمريكيين في الخارج فيما كتب 24 رواية طويلة إلى جانب العديد من القصص والمسرحيات وترك الآلاف من الرسائل الأدبية. واشتهر هنرى جيمس على وجه الخصوص بسلسلة من الروايات يصور فيها التلاقي بين أمريكا وأوروبا كما تميز بتصوير الصراع النفسي الداخلي لشخصياته، فيما يقارن البعض أسلوبه في الكتابة بمدرسة الانطباعية في الرسم وكان مدافعا كبيرا عن حرية التعبير في الأدب والكتابة على وجه العموم. كن اللافت في إبداعات وكتابات هنرى جيمس هذا الاهتمام غير العادي بالذاكرة وألاعيبها وشراكها ومفاجأتها عندما ينثال بغتة سيل من ذكريات دفنت طويلا، وقد يكون هذا الانفجار للذاكرة بلا سبب منطقي. هل كان كبير الفلاسفة أرسطو على صواب عندما اعتبر أن الذاكرة التي هي مجموعات من الصور الذهنية يقوم الزمن بتركيبها معا إنما تنتمي كل مجموعة منها لجزء معين من الروح تماما كما أن كل مجموعة تنتمي لمنطقة بعينها في الخيال؟. بالتأكيد الأماكن مرتبطة بلعبة الذاكرة كما يقول تشارلز سيميس حتى أن المرء قديستعيد رائحة مكان ما مر به منذ عشرات السنين كما حدث له في الصيف الأخير عندما مر بجوار بناية عاش فيها لفترة قصيرة مع زوجته في ستينيات القرن المنصرم ليستعيد رائحة دخان غامض في هذا المكان وأجراس إنذار من الحرائق تدوى بصورة متكررة والسكان يهرعون كل مرة خارج البناية دون أن يندلع أبدا أي حريق. أما نجيب محفوظ صاحب "اصداء السيرة الذاتية" فقد تحدث عن اللعب مع رفاق طفولته فىميدان باب القاضى وعدم الاقتراب من "درب قرمز" إلا عندما يخلو الميدان من الاثارة"فيتجهون للدرب باحثين عن العفاريت التى كانوا يعتقدون أنها كانت تصل إليه منخلال البابين اللذين يؤديان لسور القاهرة"!. ذاكرةمحفوظ تجول فى دروب لاترى..دروب ساحرة. إنها الذاكرة عندما تتدفق لتمزج الواقع بالخيال وتجمل الأيام وتكسر الصمت المكبل،فشكرا للذاكرة فقد اضاءت من الدرب ماكفى!.