خرجت إلي الوجود نصوص روائية استلهمت أحداث التاريخ وشخصياته، واختزلت في صيغتها النصية الزمان والمكان واللحظات التاريخية المحققة والثابتة في آفاق الخيال المنتهي من الذاكرة، وتكاد أسئلة الرواية وأسئلة التاريخ في بعض الأحيان تتطابقان في العديد من الرؤي الحاكمة لآليات استخدام التاريخ في السرد الروائي التاريخ أو (ترخنة) الرواية إن صح هذا التعبير. شكل نجيب محفوظ محكمته الخاصة من نفر قليل من آلهة الفراعنة،الآلهة إيزيس وابنها الإله حورس ورأسها كبير الآلهة أوزوريس، موظفا في ذلك التراث الأسطوري الفرعوني القديم في شأن تشكيل هذه المحكمة واضطلع تحوت كاتب الآلهة والذي أطلق عليه بعد ذلك بالكاتب المصري القديم والرامزة جلسته إلي عالم الكتابة والكتب اضطلع هذا الإله بكتابة وقائع الجلسات والأحكام الناجمة عنها. العلاقة بين الرواية والتاريخ ستبقي دائما علاقة جدلية بامتياز، تحكمها رؤية ثنائية تكمن في طبيعة المنبع وما يرفده من حقائق وثوابت تاريخية موثقّة، وشكل المصب وصيغته الحاكمة في احتواء حقائق التاريخ وثوابته في نسق سردي روائي يحقق الأسئلة الجدلية للرواية بأبعادها المختلفة، خاصة وأن حقل السرديات في حداثته الآنية، حقق في هذا المجال إعادة لصياغات روائية تعانق فيها منطق التاريخ مع رؤية ونسق السرد الروائي، في آلية أخذت وحققت من أحداث التاريخ خطوطها العريضة، ومن الفن الروائي الصيغة، والنسق، والشكل السردي، ومن ثم خرجت إلي الوجود نصوص روائية استلهمت أحداث التاريخ وشخصياته، واختزلت في صيغتها النصية الزمان والمكان واللحظات التاريخية المحققة والثابتة في آفاق الخيال المنتهي من الذاكرة، وتكاد أسئلة الرواية وأسئلة التاريخ في بعض الأحيان تتطابقان في العديد من الرؤي الحاكمة لآليات استخدام التاريخ في السرد الروائي التاريخ أو (ترخنة) الرواية إن صح هذا التعبير. ولعل أقرب مثال علي ذلك هو عالم نجيب محفوظ الروائي الذي بدأ تاريخيا في نصوصه الأولي ثم ما لبث أن تحّول إلي مناطق أخري من السرد الروائي الحديث، إلا أن التاريخ في كثير من الأحيان كان يلح علي هاجس الرؤية عند نجيب محفوظ، لذا نجده بعد أكثر من أربعين عاما من بداياته التاريخية الأولي يعود إلي نفس السياق التاريخي مرة أخري ليصوغ منه رؤية جديدة، ويستعيد من خلاله وجها آخر من وجوه التعبير السردي المولع المحقق عنده نزوعه إلي عصر الفراعنة يستلهم من فلسفة حياتهم رؤية الحياة المعاصرة بكل سراديبها ومستويات العلاقات فيها، فكان نص "أمام العرش" الذي حاكم فيه نجيب محفوظ فراعنة مصر وبعض الشخصيات من أفراد الشعب، وزعماء ورؤساء مصر السابقين حتي نهاية عصر السادات، ثم رواية "العائش في الحقيقة" والذي جسد فيها شخصية إخناتون ووحدانية الإله أتون. ويعد نص "أمام العرش" كما يشير بعض النقاد حول بنيته الفنية، نصا يستعصي علي التوصيف والتصنيف: "هو كتاب يصعب توصيفه، فلا هو بالرواية، ولا هو بالقصص القصيرة، ولا هو بالمسرحية، ولا هو حتي مجموعة من المقالات". (1) وعليه فإن هذا النص بالشكل الذي خرج به كان جملة اعتراضية في مسيرة نجيب محفوظ الروائية أراد بها أن يقول شيئا ما في هذه المرحلة التي أعقبت حادث المنصة واغتيال الرئيس السادات، فلم تكن هذه المحاكمات التي أخذت الشكل الحواري في بعض مراحلها بالشئ العفوي في تشكّلها، بل هي شئ أشبه بتوجيه متعمد وحاكم لدفع دفة السفينة المصرية المترنحة أو دفة الحكم تجاه المسار الذي من أجله قامت ثورات الشعب المصري علي مر العصور، لذلك كانت هناك زوايا حادة عديدة أوجدها نجيب محفوظ خلال هذه المحاكمات أوضحت رؤيته الخاصة تجاه ما عاشه هو، وما عاشته مصر، خلال سنين ثورة العسكر منذ عام 1952، مما أثار لديه كوامن مختزنة رأي أن وقت خروجها قد حان في هذه المرحلة الحاسمة من تاريخ مصر، ولعل رحيل السادات بهذه الطريقة المأسوية كان دافعا لتفجّر هذه الخطابات السياسية المستمرة والملحة عند نجيب محفوظ، أراد بها أن يحقق من هذه اللحظات الفارقة من عمر مصر، خطابا يرفد من داخله طبيعة المرحلة التالية بأن يستعرض تاريخ مصر من خلال محاكمات رموز الحياة المصرية علي مدار الزمن القديم والحديث مستخدما البنية التحتية للتاريخ، ولهذه الموتيفات المتواترة في محاكمة كل شخصية من شخصيات الملوك والزعماء وهي متلفعة بكفنها وكأنه يدلل في هذه الخصوصية علي إشكالية مهمة وهي عبثية الحياة والموت، ومختزلا لواقع حياة كل شخصية مكثفا أعمالها، ومقيمّا لطبيعة هذه الأعمال، ومختتما محاكمة كل ملك وزعيم وشخصية برؤية الإلهة إيزيس حول الشخصية، ثم يصدر حكم الإله أوزوريس فيما إن كانت الشخصية ستجلس مع الخالدين أم مع الأسفلين أم يتركها لمحكمة عقيدتها بعد ذلك. صدر هذا النص عام 1983 وهو نفس العام الذي صدر فيه نص "رحلة ابن فطومة"، في هذين النصين احتفي نجيب محفوظ بعالمين مختلفين تماما في بنية نصية جديدة مغايرة، حاول فيهما أن يجرّب رؤيتين مختلفتين لنسق الرواية من خلال رحلة أسطورية وهمية متخيّلة لابن فطومة، في رواية "رحلة ابن فطومة"، ورؤية نصية حوارية أخري مثيرة للتساؤل والجدل في نص "أمام العرش" وهو نص جاء علي شكل حوارات، أو ما سماه هو في عتبته الأولي "حوار مع رجال مصر من مينا حتي أنور السادات"، كتب نجيب محفوظ هذا النص بعد اغتيال السادات مباشرة من خلال رؤيته الخاصة المتفقة مع هذه الحادثة، والتي تفتق عنها بعد ذلك نص آخر هو رواية "يوم قتل الزعيم" وذلك بعد عامين من صدور "أمام العرش"، ولعل رؤية نجيب محفوظ في هذا النص، خاصة بعد هذه الأحداث التي شهدتها مصر، وما شاهده هو أثناء حكم العسكر لمصر منذ الانقلاب الذي حدث في يوليو 52 وقاده الجيش المصري ضد الملك فاروق، وما حدث بعدها من ممارسات حكم العسكر علي أرض الواقع اجتماعيا وسياسيا واقتصاديا بحيث انعكست هذه الممارسات جميعها علي شكل الحياة المصرية خلال تلك الفترة من عام 52 وحتي 81، ولأن هذه الفترة اتسمت بتغييرات جذرية شملت كل أوجه الحياة في مصر وما حولها، ولما كانت الحاجة ماسة لتبصرة أولي الأمر بما مرت به مصر خلال عقودها السابقة، بل وأيضا منذ آلاف السنين بدءً من توحيد القطرين علي يد مينا وحتي كتابة هذا النص، فقد اشتغل نجيب محفوظ علي هذا النص مستخدما الوثيقة التاريخية بكل أبعادها، حقائقها وشخوصها، وما حملته الحياة في مصر من عهود ازدهار واضمحلال وثورات، وعمل من خلال هذا النص الملتبس الذي يحمل في شكله الفني ملامح القص وملامح الوثيقة التاريخية المباشرة ": إن هذا الشكل القصصي هو حوار دائم عبر العصور، يتمثل فيه الحكام وفتراتهم المختلفة، وما أرادوه وما أنجزوه، فيتضح السجل الحافل بالصراعات وتتجسد مسيرة التاريخ الوطني التي لا تتوقف، ولهذا فإن العرض القصصي هو عرض للوقائع والأحداث، وهو ومضات سريعة عن نفوس الحكام المتوارية زمن الحكم بألف خدعة وبهرجة، فنراهم أمامنا وقد تعروا من ملابسهم الديكورية التاريخية، فمنهم الذي اندفع للبناء وتعمير الأرض وخدمة الوطن والدفاع عنه ضد الغزاة ومن كرس الوطن وخيراته لذاته". (2) وكان لا بد من محاكمة خاصة للحكام أمام محكمة التاريخ من خلال بعد سياسي، وهي سمة كان يتمتع بها نجيب محفوظ حين اضطلع بمهمة تعرية الواقع السياسي والاجتماعي في معظم ما كتب من إبداع روائي وقصصي سابق علي صدور هذا النص، ولكنه في هذا النص أراد أن يحاكم في رؤية مباشرة رموز الحكم في التاريخ المصري المعاصر من خلال استدعاء رموز العصور الفرعونية القديمة منذ عهد مينا وحتي بسامتيك أخر فراعنة مصر، ثم وضع بعض الشخصيات التاريخية النمطية الشعبية الأخري والقريبة من السلطة علي المحك أيضا تحت طائلة قانون المحاكمة ثم محاكمة رؤساء مصر السابقين حتي نهاية عصر الرئيس السادات الذي اغتيل في أكتوبر 1981، ولعل الحنين إلي التاريخ والكتابة عن التاريخ الفرعوني علي وجه التحديد كان لا يزال يراوح ويراود نجيب محفوظ ويرفد هاجسه الذاتي بين الحين والآخر حتي كتب هذا النص الذي جاء علي شكل حوارات، إلا أن هذا النص بما يثيره من جدل ورؤي تتفق أو تختلف مع رؤية نجيب محفوظ نفسه، حول ما جاء به من حوارات وآراء علي لسان الملوك والحكام ما جعل الفكر السياسي عند نجيب محفوظ وكأنه فكر تنبئي فيما كانت فيه مصر خلال تاريخها الطويل، وما هي عليه الآن من أمور وأحوال، وما يجب أن تكون عليه في المستقبل القريب والبعيد، لذا نراه يعرض كل هذه الرؤي السياسية والاجتماعية والاقتصادية والفكرية والتحليلات الدائرة حولها والمستلهمة من آراء التاريخ والساسة والثوار الذين تجمعوا أمام محكمة التاريخ في حقبهم التاريخية المختلفة، في هذا النص وكأنه يستلهم من هذا الواقع رؤية تنبؤية للمستقبل، ولما كان هذا النص قد صدر عام 1983 فكأنه كان يبعث برسالة مباشرة إلي الشعب المصري وحاكمه الجديد الذي جاء بعد اغتيال الرئيس السادات في حادث المنصة المعروف، فكأنه كان يقول لهم جميعا من خلال هذه الحوارات وهذه المحاكمات ما يجب أن تكون عليه آليات الحكم ورسم السياسة في هذا البلد الذي عمّر أكثر من سبعة آلاف عام ومرت عليه كل هذه الخطوب والثورات والحكام خلال تلك الفترة، كأنه كان يحذره من مغبة الوقوع فيما وقع فيه غيره من المفسدين الذين يحاكمهم التاريخ الآن، كان يبعث له في هذا النص برسالة خطية نصية يقول له فيها كل الآراء التي جاءت علي لسان الملوك والحكام وأفراد الشعب الواقفين أمام العرش، ولعل ذكاء نجيب محفوظ وعفويته في التعبير عن الرؤية السياسية الحامل لها نص "أمام العرش" أنه جعل الحكام والساسة الذين رضي عنهم التاريخ يشاركون في محاكمة غيرهم من المفسدين، كل منهم يفنّد مزاعم حكمه بمزاياه ومساؤه ويسقطها علي محاكمة من جاء بعده من الملوك والحكام، ولعل محاكمة عبد الناصر والسادات التي جاءت آخر المحاكمات كانت هي التي وضع فيها نجيب محفوظ الرؤية الصافية الضافية في شأن محاكمة الحكام الذين تتابعوا علي حكم مصر، ففي محاكمة جمال عبد الناصر تحدث كل من الملك رمسيس الثاني، والملك مينا والملك الشاب الثائر أبنوم، وتحتمس الثالث وسعد زغلول ومصطفي النحاس، ولعل النقد الذي وجهه مصطفي النحاس إلي جمال عبد الناصر حين قال جمال عبد الناصر ": الديمقراطية الحقيقية كانت تعني عندي تحرير المصري من الاستعمار والاستغلال والفقر"، ولأن نجيب محفوظ كان وفدياً لذا فإن رأيه عن حكم عبد الناصر فنده في مقولة مصطفي النحاس أحد أقطاب الوفد حين رد علي مقولة عبد الناصر: "وأغفلت الحرية وحقوق الإنسان، ولا أنكر أنك كنت أمانا للفقراء ، ولكنك كنت وبالا علي أهل الرأي والمثقفين وهم طليعة أبناء الأمة، أنهلت عليهم اعتقالا وسجنا وشنقا وقتلا حتي أذللت كرامتهم وأهنت إنسانيتهم ومحقت إيجابيتهم وخربت بناء شخصياتهم والله وحده يعلم متي يعاد بناؤها، أولئك الذين جعلت منهم ثورة 1919 أهل المبادرة والإبداع في شتي المناشط السياسية والاقتصادية والثقافية، بل أفسد الاستبداد عليك أجمل قراراتك، انظر كيف فسد التعليم، وتفسخ القطاع العام، وكيف قادك التحدي للقوي العالمية إلي الهزائم المخجلة والخسائر الفادحة، لم تفد من الرأي الآخر ولم تتعظ بتجربة محمد علي، وماذا كانت النتيجة؟.. دوي وجلجلة وأساطير فارغة تقوم علي تل من الضرائب".(3)، ولعل هذه المقولة كانت بمثابة رؤية نجيب محفوظ في رسالته الخاصة ككاتب ومفكّر وروائي له فلسفته الخاصة في التعبير عن واقع الحياة أرسلها إلي حاكم مصر الجديد الذي جاء بعد السادات مباشرة والذي أولاه الشعب أمانة الحكم لهذا البلد، كما كانت كل الآراء السابقة الذي حواه النص موجها جميعها إلي الحاكم الجديد حتي تكون أمامه وهو قادم إلي حكم مصر في مرحلة ما بعد الاغتيال ولعل هذا النص أيضا ينسحب علي كل حاكم يفد إلي هذا البلد ليحكمها فيما بعد، فما قاله نجيب محفوظ في هذا النص ربما يكون دستورا خاصا رأي أنه يمكن أن يساهم في الترويج لحاكم ديموقراطي عادل له من الشفافية والحب لبلده ما يجعلها في مصاف الأمم الكبري. شكل نجيب محفوظ محكمته الخاصة من نفر قليل من آلهة الفراعنة،الآلهة إيزيس وابنها الإله حورس ورأسها كبير الآلهة أوزوريس، موظفا في ذلك التراث الأسطوري الفرعوني القديم في شأن تشكيل هذه المحكمة واضطلع تحوت كاتب الآلهة والذي أطلق عليه بعد ذلك بالكاتب المصري القديم والرامزة جلسته إلي عالم الكتابة والكتب اضطلع هذا الإله بكتابة وقائع الجلسات والأحكام الناجمة عنها ": انعقدت المحكمة بكامل هيئتها المقدسة في قاعة العدل بجدرانها العالية المنقوشة بالرموز الإلهية وسقفها المذهب تسبح في سمائه أحلام البشر. أوزوريس في الصدر علي عرشه الذهبي، علي يمينه إيزيس علي عرشها، وإلي يساره حورس علي عرشه، وعلي مبعدة يسيرة من قدميه تربع تحوت كاتب الآلهة مسندا ساقية المشتبكتين الكتاب الجامع، وعلي جانبي القاعة صفت الكراسي المكسوة بقشرة من الذهب الخالص تنتظر من سيكتب لهم الخلاص من القادمين". (4) . لقد كان اختيار هذه المحكمة وتشكيلها بحسب ما جاء في الأساطير الفرعونية القديمة ترميزا خاصا مستمدا من أسطورة أوزوريس إله الخير، وتأكيدا علي فلسفة نجيب محفوظ الخاصة في التعبير عن رؤاه الفلسفية والسياسية والاجتماعية في هذه الأمور الشديدة الحساسية. وبقدر ما كان نجيب محفوظ قاسيا في محاكمته للملوك والرؤساء الذين امتلأت صفحات حكمهم بالقسوة والفساد واللامبالاة بقدر ما كان رحيما وذكيا في أحكامه القضائية علي الصالحين منهم، فهو في هذه الرسالة التي وجهها إلي حكام مصر الجدد بعد السادات من خلال هذا النص كان ": في مجمل أحكامه أكثر ميلا إلي الإنصاف أو إعطاء العذر، كما نراه منصفا عطوفا حنونا، أميل إلي المسامحة والغفران، كما نراه مقدرا للجهود التي بذلت، وللمصاعب التي واكبت كل واحد من هؤلاء، ولكنه مع ذلك لا يبخل علي كل واحد منهم بالنقد الذي يستحقه، وبمقارعة حججه وبخاصة إذا ما كانت ظاهرة البطلان، فإذا ما وصلنا إلي الحكم النهائي فإننا نجده يقدّر أغلبية الحكاّم ولكنه ينحي علي بعضهم باللائمة ويضع البعض الآخر في موضع التافهين الذين لا يستحقون الرحمة ولا يستحقون العذاب أيضا". (5) بل إن المناخ الليبرالي في ذلك الوقت كان صالحا للإفصاح عن رؤاه السياسية الخاصة بطريقة النقد والترميز وتعرية المواقف التي قد يراها قابلة للإفصاح والإعلان عنها، لذا فقد بدأ في الاتكاء علي ملامح الثورة في شتي مناحي الحياة في مصر وكانت المحاكمات تفجّر وتفصح عن ملامح الثورة في زمان ومكان في مصر الثورة والحياة والإنسان. كانت ملامح الثورة في نص "أمام العرش" واضحة جلية في العديد من الوقفات التي جسدها نجيب محفوظ في نسيج المحاكمات، فبعد محاكمات الفراعنة فندت المحكمة حكم الفرس والثورات التي قامت ضدهم، ثم حكم الإسكندر ومن جاء بعده من الحكام الإغريق، ثم حكم الرومان الذين أذاقوا المصريين ويلات الظلم والقهر والعبودية والثورات التي كانت تعترض هذه العصور، حتي دخول العرب مصر ": وفي عهد الحاكم الروماني نيرون دخلت المسيحية مصر فأقبل فريق من المصريين يغيرون دينهم، ولم يكن دينا نابعا في مصر كما حدث علي عهد إخناتون ولكنه كان واردا من الخارج، وغلب الزهد علي معتنقي الدين الجديد فاعتصم كثيرون منهم بكهوف الصحراء فرارا من ظلم الحكام وفساد الدنيا، وقد قاومت الحكومة الرومانية الدين الجديد وانهالت بحرابها علي معتنقيه حتي عرف عصر الإمبراطور دقلديانوس بعصر الشهداء، وفي عصر تيودوسيس حتم الإمبراطور اعتناق المسيحية علي رعاياه فكان للديانة القديمة شهداؤها كذلك ولكن الأغلبية اعتنقت المسيحية، واستقلوا فيها بمذهب خاص بهم، وامتزجت الروح الدينية بالروح الوطنية وعملا معا علي الثورة والاستقلال فتعرضوا لمذابح وعذابات لا حصر لها. واتخذ الصراع صورة معركة دينية بين الكنيسة المصرية وكنيسة الدولة الرومانية، واستمر النزاع مصحوبا بأشد أنواع الاضطهاد.(6). وكانت محاكمة المقوقس عظيم القبط هي أول تلك المحاكمات بعد هذه النقلة النوعية في سرد مظالم المحكومين المصريين حتي حصل علي شهادة تزكية من الإله أوزوريس علها تنفعه أمام محكمته الدينية. كما كانت ثورة الشاب "أبنوم" وهي أول ثورة في تاريخ مصر قادتها الجماهير الغاضبة ضد حكام حكموا البلاد عهودا طويلة امتدت بين سقوط الدولة القديمة وقيام الدولة الوسطي، وكانت هذه العصور مليئة بالظلم والقهر ونهب الثروات والذكريات المرعبة, وقاد شباب الثورة في ذلك الوقت الثورة ضد الحكام الطغاة ": وأقام الفلاحون حكومة من أبنائهم، حكمت البلاد فاستتب الأمن وانتشر العدل وامتد ظل الرحمة، شبع الفقراء وتلقوا العلوم والمعرفة وتولوا أكبر المناصب، قامت دولة لا تقل في عظمتها عن دولة الملك خوفو، ولكنها لم تبدد المال في بناء الأهرامات ولا في الحروب، وأنفقته في النهوض بالزراعة والصناعة والفنون وتجديد القري والمدن، ولما رجعت مصر بعدنا إلي عصر الملوك أحرقوا وثائق البردي المسجلة لأعمالنا" (7). وقد أوضح نجيب محفوظ رؤيته حول أسباب انتكاسات الثورة وذلك في معرض هذه الثورة الشعبية الشبابية القديمة الذي قال فيها أن المحافظة علي الثورة هو أمر لا يقل أهمية عن قيامها والدفاع عنها لذلك عندما سأل الملك زوسر الشاب الثائر "أبنوم" ": لماذا تقوضت مملكتكم؟ أجابه: تقوّضت عندما نسي الحكام أصلهم الذي نبتوا فيه وتوهموا من جديد أنهم منحدرون من صلب رع فأصابهم الكبر وتسلل إليهم الظلم فحاق بهم ما حاق بكل ظالم. (8). ولعل الفصل الأخير من النص كان هو القول الفصل في هذه السياحة التاريخية المصرية فقد اختزل فيه الكاتب رؤيته الذاتية التي وضع فيها خلاصة رسالته الموجهة إلي الحكام الذين سوف يأتون بعد السادات لتكون هذه الرؤية نبراسا، وآلية خاصة يعملون بها، ومن خلالها لرفعة الوطن وتقدم أبنائه، لذلك وضع نجيب محفوظ هذه الرؤية في المقطع الأخير من النص وفي العتبات الأخيرة علي لسان ملوك مصر وزعمائها الذين انضموا إلي ساحة الخالدين بما حققوه من أعمال ومنجزات رأي نجيب محفوظ أنها ترقي إلي مستوي الأعمال الوطنية، مما وضعهم في مصاف الأبطال الذين يستحقون التخليد، لذلك دعاهم أوزوريس ليعرض كل منهم رؤيته تجاه المستقبل حتي تكون أمام الشعب وأمام التاريخ وهي رؤية تتجلي فيها دعائم الأيمان، والثورة، والوحدة الوطنية، والعمل الجاد، والايمان بقيمة وقوة الشعب، وإرادته في صنع المستقبل، والنزوع الدائم نحو الديموقراطية، والعدالة الاجتماعية، وأن يكون هدفها الحضارة والسلام ": قلب أوزوريس عينيه في الخالدين وقال: - ها هي حياة مصر قد عرضت عليكم بكل أفراحها وأحزانها، مذ وحدها مينا وحتي استردت استقلالها علي يد السادات، فلعل لبعضكم رؤية يريد أن ينوه بها؟ (9) كانت هذه الواجهة المحققة والحاكمة لرؤية الكاتب في نسيج النص وما تطرحه أسئلة النص من دلالات وتأويلات فرضها واقع ما يحتويه النص من بؤر عميقة، وحفر مليئة بالسلطة والمتخيل القديم والحديث من خلال حوارات الشخصيات التاريخية في نسيج ما تطلقه المحاكمات، ولا بد من الإشارة إلي أن رؤية نجيب محفوظ السياسية النابعة من تداخله في دهاليز السياسة والتاريخ، وأحكام الحاملة معها دلالات الواقع الآني وإسقاطه التاريخ علي ما يحدث الآن علي أرض الواقع، فقد اختزل في هذا الجزء الأخير رؤيته التي حملها كل الملوك والزعماء والرؤساء في حق وطنهم وما كانوا يرمون إليه في أعمالهم الخالدة علي مر التاريخ، من هنا دعا أوزوريس رئيس محكمة الآلهة كل شخصية من شخصيات الخالدين إلي أن يجسد كل منهم رؤيته تجاه واقع وطنه، ولعل هاجس هذه الرؤية هي إطلالة من الكاتب ذاته علي واقع الوطن وما يتمناه له من خلال ما سبق أن جسد بعض مفاسده في روايات سابقة "الثلاثية"، "ثرثرة فوق النيل"، "الكرنك"، وغيرها حينئذ ": طلب الملك أخناتون الكلمة ثم قال: - أدعو للاستمساك بعبادة الإله الواحد باعتباره المعني والخلود والتحرر من أي عبودية أرضية. وقال الملك مينا: - والحرص علي وحدة الأرض والشعب فالنكسة لا تجئ إلا نتيجة لخلل يصيب هذه الوحدة. وقال الملك خوفو: - علي مصر أن تؤمن بالعمل، به شيدت الهرم، وبه تواصل البناء. وقال أمحتب وزير الملك زوسر: - وأن تؤمن بالعلم فهو القوة وراء خلودها. وقال الحكيم بتاح حتب: - وأن تؤمن بالحكمة والأدب لتنعم بنضارة الحضارة وتنهل من رحيقها. وقال أبنوم: - وأن تؤمن بالشعب والثورة لتطرد مسيرتها نحو الكمال. وقال الملك تحتمس الثالث: - وأن تؤمن بالقوة التي لا تتحقق حتي تلتحم بجيرانها. وقال سعد زغلول: - وأن يكون الحكم فيها من الشعب بالشعب من أجل الشعب. وقال جمال عبد الناصر: - وأن تقوم العلاقات بين الناس علي أساس من العدالة الاجتماعية المطلقة. وقال أنور السادات: - وأن يكون هدفها الحضارة والسلام. وهنا قالت إيزيس: - ليضرع كل منكم إلي إلهه أن يهب أهل مصر الحكمة والقوة لتبقي علي الزمان منارة للهدي والجمال. فبسط الجميع أكفهم واستغرقوا في الدعاء. الهوامش 01 عالم نجيب محفوظ من خلال رواياته، د . رشيد العناني، كتاب الهلال، القاهرة، 1988 ص 82 02 نجيب محفوظ من الرواية التاريخية إلي الرواية الفلسفية، عبد الله خليفة، الدار العربية للعلوم- ناشرون/ منشورات الاختلاف، بيروت/الجزائر، 2007 ص 164 03 أمام العرش (حوار مع رجال مصر من مينا حتي أنور السادات)، نجيب محفوظ، دار مصر للطباعة، القاهرة، 1983 ص 196/197 04 المصدر السابق ص 5 05 في ظلال السياسة.. نجيب محفوظ الروائي بين المثالية والواقع، د . محمد الجوادي، دار جهاد للنشر والتوزيع، القاهرة، 2002 ص 19 06 أمام العرش ص 123/124 07 المصدر السابق ص 27 08 المصدر السابق ص 28 09 المصدر السابق ص 206 10 المصدر السابق ص 20