" لو سمح المجاز لي أقول أن دمائي التي تسري في عروقي كاكية اللون ، فإيماني بالعسكرية المصرية مطلق وبغير حدود ، إيمان نما وتكون من معايشة طويلة ،متأنية ، لدقائق تاريخنا المصري ، العميق من خلال المصادر المعروفة ، ومن خلال المعايشة الواقعية ، وعندما أتيح لي أن أعمل كمراسل حربي خلال حربي الاستنزاف وأكتوبر ، فرأيت بعد ان قرأت ، وعشت الواقع ذاته. بتلك الكلمات وصف المقاتل والكاتب الصحفي والروائي الكبير جمال الغيطاني مدى ايمانه بدور الجيش المصري والتي تأكدت عندما قدر له أن يصبح مراسل حربيا لجريدة الاخبار عام 1969 ، فكان شاهدا على لحظات تاريخية وناظرا لها بعين الصحفي والأديب ونقل لنا في رسائله من أعماق سيناء وتلك الرسائل تجعل القارئ يستحضر صورة المعركة وما حولها ويشعر بوجوده داخل تلك الصورة . رسائل مقاتل من أعماق سيناء :- عندما كان الأتون ملتهبا، وغبار المعارك وصهدها مازال عالقا في الفراغ ، صاغ الغيطاني رسائله من أعماق سيناء ليذكر ما جرى خلال تلك الايام وليبقى المعنى الجليل حيا وذكرى الشهداء باقية وجعلنا نرى وجوها من وحيها كانت رسائله والذين قال عنهم " من حقهم علينا أن يمثلوا امامنا أبدا . فكانت أول رسالة :- أصدقائي الأعزاء : أحار عمن أتحدث ، ولكنني بدون تفكير أو محاولة مدبرة للاختيار ، سأكتب لكم عن بعض من زملائي وأصدقائي ، تعرفت إليهم تحت السلاح ، ونمت بيننا علاقات فوق الزمان والمقاييس العادية ... خلال الحرب يعرف الإنسان والقلب ولا توجد عكارات ، إنما يفسح المجال لأنقى ما في البشر ، المقاتل عبد الوهاب يشدني إليه هدوؤه ، وجهه بسيط وعيناه دائما تتطلعان إلى الأمام ، كأنه يحاول استيضاح تفاصيل شئ ما ، عام 1969 اشترك في الإغارة على أحد المواقع الحصينة بخط بارليف رفع العلم المصري لأول مرة فوقه بعد يونيو 1967 ، وفي بداية هذا الأسبوع بعد ان استسلم نفس الموقع ، تقدم المقاتل عبد الوهاب حاملا العلم بهدوء غرسه ، ثبت الصاري ،وقام واقفا ، وأدى التحية العسكرية بخشوع وجلال ، رحت أراقب وجهه الهادئ وعينه الخضراوين ، بعد أن هتف ثلاثا ، تحيا مصر ،، تفجر هدوؤه في موجات متعاقبة وانحنى فوق الرمال ،يقبلها ، يهيلها فوق وجهه ،ولمحت دموعا خافته في عينيه، فجأة استدار إلى الخلف حاملا سلاحه ،عاد إلى هدوئه ، هذا الهدؤ ما هو إلا وجه واحد ، أما الوجه الثاني فيبرز خلال فترات الاشتباك عندما نهاجم العدو ،نلتحم بجنوده ، يفولاذ مدرعاته ، عبد الوهاب يندفع في المقدمة ، يرفض نزول الاجازات الميدانية الصغيرة ، لا يريد الغياب ثانية واحدة عن ميدان القتال ، اليوم خلال لحظات هدوء قال عبد الوهاب بعد صمت طويل اعتدت عليه ، أنه يشكر ظروفه التي اتاحت له الانضمام للقوات المسلحة الأن ، وأن يعايش سنوات المرارة والمعاناة ثم يرى النصر ، ويشارك فيه قال أنه لو خرج من الجيش بدون ان يحارب أو بدات الحرب وهو بعيد عن الميدان ، لجن .. ثم عاد إلى صمته ، ولم أجادله ، تعودت هذا منه وكأنه يلقي درسا واضحا وعلي أن أفهمه ، وأن اصغي إليه ولا أعلق . الرسالة الثانية : - أصدقائي الأعزاء.. أتحدث إليكم عن محمد ، إذ يظهر في مكان ينشر الضحكات ، إن ملامحه مصرية تماما ، في روحه يتجسد أحد مكونات مصريتنا ، المرح والسخرية هذا العامل الذي يخفف الصعاب ، ويجعل أقسى الظروف تبدو هينة ، محمد يعرف سيناء كما يعرف راحة يده ، لقد قضى شهورا طويلة خلف خطوط العدو ويذكر العديد من المأموريات التي اشترك فيها داخل سيناء ، نفس اللهجة المرحة لا تفارقه عندما يتحدث إنه يتكلم عن الأسرى : _ كان طويلا وعريضا ضخما كالمجنزرة .. أول ما مسكناه لقيناه يهودي اشكينازي ، من أول لحظة كان مستموت خالص ، ومافيهوش أي جرح ولا خدش ، الواحد سأل نفسه ، بقى هو ده جيش إسرائيل الذي لايقهر .. لغاية دلوقتي ما قابلناش واحد منهم بوشه أبدا ، ورا ساتر يحارب إنما ساعة ما تواجهه ... انتهى لهذا لو رأيتم رجالنا يوم العبور ، لحظة اندفاعهم للهجوم ، كل منهم يحارب دفاعا عن ذاته ، ليرد ما لحقه من تعجم الأغبياء والأعداء ، والمشككين ، وبالتالي ليدفع هذا عن مصر ، كل مقاتل حارب بدافع من عوامل مختلفة ، يبدأ بعضها من أشد العوامل خصوصية وينتهي بالعام جدا جدا ، حارب كل منا دفاعا عن العدوان الموجه إلى ذاته بالدرجة الاولى حتى لو أدى الأمر إلى التضحية بهذه الذات نفسها. أصبح حلم يقظتي حقيقة . رأيت بقايا جيش الدفاع الإسرائيلي ، أطبقت عليه قواتنا من كل الجهات ، رأيت دباباته محترقة والكثير منها سليم لم يمس ، وحنوده اسرى ، مواقعه مباحه لنا أرى ولادتنا من جديد ، وأؤكد لكم يا أصدقائي الأعزاء الذين تصغون إلى أخبار انتصاراتنا ويحدث داخلكم ما يحدث ، أن ملامحنا ذاتها سوف تتغير ، وإيقاع ألفاظنا سيدركه التغيير والتهديل . الرسالة الثالثة : أصدقائي الأعزاء.. علمت من أسرتي عندما اتصلت بهم تليفونيا من هنا ، من عمق سيناء ، حيث موقعي المتقدم الذي يبعد سبعة عشر كيلو مترا عن قناة السويس في اتجاه الشرق . انكم اتصلتم بوالدتي وسألتموها عما إذا تحتاج إلى شئ وقلتم لها ، كل سنة وأنت طيبة بمناسبة عيد الفطر ، فقالت انها ستهنئكم بنفسها عند احتفالنا جميعا بعيد النصر الكبير ويعود كافة ابنائها المقاتلين ، سواء كنت أنا بينهم ، أو كنت في عداد الشهداء ، وأنها قالت لكم ، أنه لاشئ يعز على مصر ، ولا يوجد أحد غال على مصر ، علمت كذلك واخواني المقاتلون الذين اتصلوا بعائلاتهم أن الجيران قد مروا عليهم في العيد ، وفي الأيام التي سبقته ، وسألوهم عما إذا كانوا يستطيعون تقديم شئ ، وهكذا يبدو جوهر شعبنا في لحظات الشدة ، نحن هنا نشعر أننا ننتمي إلى عائلة كبيرة ، الجيش هو راعيها وحاميها يدفع عنها الخطر في الوقت المناسب لتستمر الحياة . أنا بخير ، ونريد من هنا أن تطمئنوا علينا تماما ، ليس بصفة شخصية ، وإنما في كل ما يتعلق بنا ، ونريد نحن أن نطمئن عليكم ، فنحن مواقع القتال الأمامية ، يبدو كل شئ واضحا لا يحتاج إلى كشف ، الحقيقة هنا حيث قمة الصراع مع العدو جلية ناصعة ، نراها عبر الدم المراق والخطر والشظايا والموت ، نحن هنا في القطاع الجنوبي من الجبهة مثلا نعيش حياتنا ، حياة الحرب ، يصلنا الطعام ، والذخيرة والمياه ، هذه حقيقة ، بينما تتساءلون أنتم ، هل يصلهم التموين أم لا ، نحن هنا ندرك تمام حجم العمليات العسكرية التي يقوم بها العدو غوق الضفة الغربية . الرسالة الرابعة :- أصدقائي ... صباح اليوم تمركزنا في إحدى القرى القريبة من قناة السويس بالضفة الغربية ، رصد استطلاعنا مجموعة من دبابات العدو ، وصلنا إلى القرية وفي الليل سنخرج لاصطيادهم كما تصطاد الثعالب ، والجرذان ، بيوت القرية أخليت من المدنيين ، ذهبوا إلى قرية قريبة ، هنا في القطاع الريفي من الجبهةيمارس الناس حياتهم بشكل عادي جدا ، أن ترى فلاحا يحرث غيطا أثناء غارة جوية ، أو فلاحة تغسل ثيابا ، أو طفلة تحمل طعاما فوق رأسها تمضي به إلى والدها وفي لحظات الهدوء النسبي حيث تبتعد أصوات الانفجارات والضجيج الذي تحدثه الطائرات ،يخيل إليك انك في منطقة من مناطق الريف المصري الهادئ جدا الذي يسوده سلام أبدي ، كل عود نبات ينمو هنا فيه تحد للموت وللقهر وللعدوان ، كل فلاح يقيم هنا حركته وأسلوب عمله قهر لأعداء الحياة . صباح اليوم فوجئنا بفلاح اسمه إبراهيم أبو العطا ، نعرفه كلنا ، من أهالي القرية ، كان يحمل طبقا من الفخار ، قال السلام عليكم يا أبطال مصر ، رددنا السلام ، قلنا له ماذا جاء بك يا إبراهيم ، أنت تسعى دائما إلى الخطر ، لوح بيده مبتسما قال إن الأعمار بيد الله ، أشار إلى أحد أبراج الحمام ، قال أنه جاء يحمل أكلا ليطعم الحمام الذي بقى في القرية بعد انتقالهم . كان وجهه هادئا ، لا يزعجه شئ وكان السلام في عينيه ، رحت أرقبه وهو يطعم أفراخ الحمام الصغيرة ، بينما أسلحتنا مشرعة ، وبعد لحظات قصار قد نلتقي العدو ..