ليس لي فضل في السطور التالية سوى فضل القراءة، وللقراءة فضل على الكتابة، وقراءتي هي لكتاب صغير الحجم كبير المعنى قال عنه صديقي الكاتب والناشر الراحل طاهر عبد الحكيم إنه «تسجيل حي من معايشة الأحداث في الجبهة. . توثيق تاريخي مهم، يظل حيا أبدا في ذاكرة شعبنا العظيم» وكتب صديق آخر هو علاء الديب، أحد كتاب «الأهرام» الآن، فوصفه بأنه «مذكرات بسيطة مضيئة بهذا الحب للوطن.. أغنية حزينة قصيرة عن حرب عظيمة منسية، وأبطال أسطوريين أصلهم من الفلاحين البسطاء»..
ومن هنا شغفي بهذا الكتاب البسيط الصغير.. ومن هنا عنوان هذه السطور:
أغنية قصيرة.. عن حرب عظيمة منسية.
الأغنية هي «مذكرات جندي مصري في جبهة قناة السويس» وهي أوراق بسيطة وصادقة وحقيقية، أصلية وأصيلة، مكتوبة بالدم والعرق من واقع حياة مقاتل مصري شارك في حرب الاستنزاف.. الحرب العظيمة المنسية التي أهلت جيش مصر وشعبها لحربه العظيمة المشهورة «حرب اكتوبر».. ولنقرأ ماكتبه هذا المقاتل عن سبب كتابته لهذه المذكرات التي لم يسبق أن رصد تاريخ الأدب أو تاريخ توثيق حروب الشعب المصري وجيشه العظيم، على امتداد هذا التاريخ عبر العصور والقرون، مذكرات كتبها مجند مقاتل. نعرف مذكرات قادة الجيوش على مختلف مراكزهم القيادية، وحتى حرب الاستنزاف العظيمة المنسية، إعلاميا ورسميا، لم ينسها قائدها الفريق أول محمد فوزي فخصص لها بعض مذكراته المنشورة، ووافته المنية قبل أن تتاح له فرصة كشف المزيد عن علامات ودلالات ووقائع الحرب التي اشترك فيها الجيش والشعب لأول مرة في أعمال عسكرية هزمت العدو الصهيوني ودحرته وخارت معها معنوياته وتلاشت ثقته في نفسه وفي قياداته.
لنقرأ معا كلمات المقاتل وهو طبيب بيطري من دفعات المجندين الجامعيين الذين قررت القيادة وضعهم على خط المواجهة لكونهم أكثر علما وثقافة وقدرة على التعامل مع السلاح الحديث والعدو الخسيس، وسنعرف فيما بعد أنه استشهد في هذه الحرب المجيدة، التي شارك فيها في عام 1969 واستشهد في عام 1972:
«منذ أن وصلت إلى الجبهة في الخط الأمامي، تلح علىّ ذاكرتي أن أسجل مايحدث ومايجري في مواجهتنا للعدو الصهيوني. وأقول حقيقة إن الذي أكتبه ومايجري به قلمي ليس إلا النزر اليسير.
وإذا لم توافني منيتي أو يدركني الموت، فسوف أقص على شعبنا مأساة مقاومته للعدو، وبطولات جنوده وبسالتهم.. أما إذا كانت نهايتي ستكون على أرض القناة، فسأموت مستريحا لأن أفكاري وجدت طريقها ولم تعجز عن الحركة.. وبذلك تكون هذه المذكرات هي حديث الرصاص الذي يجب أن تتكلم به قضية شعبنا».
ونمضي مع المذكرات وهي سيرة ذاتية ليوميات حرب الاستنزاف لكنها لاتسجل حياة كاتبها، ولاتتمحور حوله، فهو هنا كالعين المجردة أو المؤرخ الأمين يسجل حماس الجنود ومشاعرهم تجاه العدو ومعاناتهم مع الغارات الجوية والبرد والصحراء وكيف كانوا يرون واجبهم تجاه أرض مصر. والمذكرات تعكس مشاعر المقاتل الذي استشهد في المعارك ومعايشته لأجواء الحرب وقسوتها واستشهاد زملائه. وكتبها أحمد حجي بلغة تنطوي على أصالة وحس إنساني وأدبي رفيع وبسيط في آن، وفيها تصوير دقيق لأحداث تلك الفترة بعيون ومشاعر هذا المجند الذي أصر على أن يكون مكانه خلال فترة تجنيده في جبهة قناة السويس.. في مواجهة العدو الإسرائيلي.
وهو لايدعي ماليس يملك، فلا يقوم بدور المؤرخ للحرب ولايقدم لنا دراسة تحليلية أو بحثا في الاستراتيجية، فقط يروي ماحدث في الموقع الذي تمترس فيه مع رفاقه وحاربوا العدو.. يكتب عن حياة الجنود وقت حرب الاستنزاف.. كيف يعيشون وبماذا يحلمون.. يحكي عن بطولاتهم التي تقترب من حد الأسطورة.. لديهم هدف واحد يدافعون عنه هو الحفاظ علي تراب هذا الوطن.
ويصور حياة الجنود وعلاقتهم الإنسانية ببعضهم البعض.. يتحدث عن جنودنا، الذين لا يخافون الموت ولا يعرفون للحزن طريقا.
«عربات الجيش لاتهدأ، والوجوه السمراء لجنودنا - برغم كل شىء - تطفح بالأمل..فلاح يحاول أن يرفع مادمره العدو من بيته.. فلاح آخر يشق الترعة بفأسه بالرغم من أن العربات العسكرية التي لاتكف عن الحركة سوف تهدمها وتغطيها بالتراب مرة ثانية، لكنه برغم ذلك لم يرد أن يترك القرية، زرع بجانب القوات المرابطة لحماية المنطقة.. لقد كانت هذه الصور هي الدوافع القوية لي أن أعود نفسي وأعدها لتحمل رؤية الجراح والمآسي المفجعة دون أن أسقط أو يصيبني اليأس».
..................
« أطراف بحيرة المنزلة تمتد إلى الجبهة كأصابع اليد هنا وهناك..
قوات الجيش ترابط في أماكن متفرقة في الخنادق والملاجئ في مواجهة العدو.. وسط هذا البوار وتلك الحشائش توجد قطعة أرض لاتزيد عن مترين ونصف المتر زرعها الأخضر يثب عاليا في مواجهة الرصاص.. جاموسة وحمار يرقدان في اطمئنان عند رأس قطعة الأرض هذه، وعم بيومي الفلاح العجوز يحمل عصاه ويتجول متفقدا زراعته، وقد يبتعد قليلا حتى لايسقط في إحدى الحفر التي أحدثتها قذائف العدو، أو يتقدم في اهتمام ليدقق النظر في شىء ما. عندما رحلت القرية الصغيرة فى منتصف الليل بعد أن التهبت الاشتباكات بالمدفعية بيننا وبين العدو وتمكنت قذائفه من الوصول إلى القرية، رفض عم بيومي الرحيل معهم وقرر البقاء والاستمرار في زراعة أرضه. ويروي المقاتل احمد حجي عن رجلين من الفلاحين الذين انضموا لمنظمة «سيناء العربية» للقيام بهجمات خلف خطوط العدو..جنديان ومعهما كلباهما، قالا: سنعبر إلى سيناء بعد ساعة واحدة عند المنطقة المواجهة لكم على خط القناة..وعلى الضوء الخافت ظهرت ملامحهما الريفية الصميمة.. كنت في لهفة لمحادثتهما عن العمل الفدائي في أرضتا المحتلة، لكن الجنديان انطلقا يسردان لنا كيف يتسللان في جنح الظلام بصحبة الكلبين ليدمرا للعدو منشآته ومعداته، وكيف يعبران القناة، وكيف يتخلصان من كمائن العدو.
وانطلق الرجلان.. خواطر عديدة تجري في مخيلتي، كيف سيعرف الناس قصص هؤلاء؟.. كيف سيعرفون أن هناك رجالا يدفعهم وطنهم الجريح لأن يقتحموا الموت والخطر في بساطة وبسالة مثل هذين الريفيين..كيف؟
..................
ولأنه كان مكلفا كطبيب بمداواة الجرحى والمصابين، يكتب في صفحة أخرى من مذكراته:
«عودتني تجربتي في الميدان بين الجرحى والمصابين والشهداء.. أن أنظر للحياة بشكل آخر.. فالحزن يجب أن يكون عابراً ويجب أن يفكر الإنسان بشكل آخر أمام تلك الأحداث فتتحول عواطف الحزن عنده إلى طوفان من الحقد على العدو ومحيط شاسع من الحب الصافي للوطن.
ويرد على رسالة من صديق:
عزيزي،
تسألني في خطابك باستغراب عن الجرحى والشهداء وكيف لايشيب شعر رأسي لمنظر الأشلاء والقتلى ولا أكتمك أن قلبي مازال بخير ولم يتحول إلى حجر أصم بعد، ولكن الحرب ياصديقي تفرض علينا حقيقة جديدة، وهي عندما تسقط الأشياء الغالية التي يفاخر بها الإنسان زمن السلم تحت قدميه في لحظات، وعندما لايصبح هناك شىء ذو قيمة يمكن أن يخاف عليه الإنسان، عندئذ يكون الوطن هو الأب والأم والابن والحبيبة، هو كل شىء، وأمامه تهون كل التضحيات مهما كبر حجمها ويصبح لكل شىء معنى جديد لم نعتده من قبل.
الجمعة 19 ديسمبر 1969:
على الرغم من أن القمر كان قد استكمل استدارته، وعلى الرغم من أن أشعته كانت تلون كل ما يحيط بنا في المنطقة باللون الفضي، فإن ذلك لم يحرك مشاعرنا في شيء مثلما تتحرك مشاعر الكتاب والفنانين والشعراء. فمع ضوء القمر عرفنا أن طيران العدو سوف يأتي ليلقي حمولته من «النابالم» على مواقعنا في الجبهة... كان الخندق ضيقا وكنا أكثر من عشرة جنود نتكوم فيه ملتصقين بعضنا ببعض، حتى نحمي أنفسنا من البرد الزاحف علينا من سيناء ومن البحيرات الممتدة خلف مواقعنا العسكرية»
ويوم الأربعاء 5 أغسطس 1970 كتب:
في الجبهة يولد الإنسان الجديد، يولد بين اللهب وأمام رصاص البنادق الآلية، وشظايا الدانات والقنابل، وتحت طائرات العدو المغيرة، هنا يجب على الإنسان أن يتخذ موقفا واضحا محددا، إما أن يخاف ويجبن، وإما أن يقف في شموخ، دون أن تهتز منه شعرة واحدة، وفي الجبهة شاهدت ميلاده مع الاشتباكات اليومية بيننا وبين العدو.
ولنقرأ قوله عن المشاركة الشعبية في العمل الحربي:
وتحت لهيب الشمس الحارقة تجد طلبة كليات الطب والعلوم والهندسة وهم يحملون الفئوس، ويقسمون أنفسهم إلى مجموعات فهؤلاء يحفرون الملاجئ، وهؤلاء يعمِّقون الخنادق، وهؤلاء الجنود في تمويه المنطقة..
وعن المدافع القديمة التي هزموا بها العدو:
كانت طائرات العدو تلقي على مواقعنا شحنات وحشية من القنابل، وتضربنا بالصواريخ المتتالية دون توقف.. أصيب عدد من مدافعنا.. واستشهد عدد من رجالها، وأصاب اليأس عددا آخر من أفراد المدافع الباقية، وهموا بالتراجع.. صاح قائدهم:
من يتراجع سوف أضربه بالنار
عادوا إلى مواقعهم واستبسلوا مع بقية زملائهم.. ولكن الطائرات المعادية لاتكف عن إلقاء حمولتها المميتة على رءوسنا حتى بلغت القلوب الحناجر، والقائد مازال يصيح:
اضربوا.. اضربوا حتى آخر طلقة.
انتابتنا روح من الجنون.. لم يعد يهمنا شىء.. نسينا الدنيا كلها، ولم يصبح أمامنا سوى العدو الذي يريد قهرنا واختراق مواقعنا.. كان الجنود ينتهزون فرصة انطلاق طائرات العدو وهي تحوم لتعاود الضرب من جديد.. ليعاودوا حشو مدافعهم بالقذائف، ويطلقوها اقبل أن تعود الطائرات.
لقد أصبحنا نحن والمعركة جسدا واحدا، ولم نتنبه إلا أن مدفعيتنا القديمة أغرقت زوارق العدو، وأن جحافله كانت قد فرت عن آخرها.. لم نتنبه لذلك إلا بعد أن توقفت الطائرات عن الظهور فوق رءوسنا.. ولم ننم حتى الصباح.. كانت المدافع مازالت مشرئبة الأعناق».
..................
هذه مقتطفات من المذكرات التي لو اطلعت عليها عزيزي القارئ وستفعل مثلما فعلت، ستواصل القراءة دون توقف، وستعتريك مشاعر تصعد بك إلى السماء، وتواجهك وقائع تهزك من الأعماق.. ستضحك وتبكي وتنفعل وتصرخ وتشعر بالأسى ثم تشعر بالفخر.. وفي النهاية ستجد أنك تريد أن تقرأ هذه المذكرات لأبنائك وأحفادك وأخوتك وكل الناس، وتريد من وزارة التربية والتعليم ان تضع هذه المذكرات ضمن مناهج الدراسة حتى تعرف الأجيال أن حربا سرية عظيمة خاضها الشعب المصري وجيشه الباسل مهدت لتحرير أرضنا المحتلة وهيأت الأجواء والمعنويات والقوى لحرب ونصر أكتوبر.
بدأت حرب الاستنزاف منذ 11 يونيو 1967 اليوم الذي عاد فيه جمال عبدالناصر عن قرار التنحي، خضوعا لإرادة الشعب، وتكليفه له بمواصلة القيادة وتحرير الأرض المحتلة، فكلف الفريق أول محمد فوزي بقيادة القوات المسلحة، وبدء حرب اعتمدت المشاركة الشعبية الفدائية للقوات النظامية وجندت خريجي الجامعات للقتال على جبهة قناة السويس لأول مرة، واستخدمت أحدث التسليح، وانتهت في 8 أغسطس 1970 بعدما سعت إسرائيل المهزومة لتدخل أمريكا لوقف القتال وإعلان الهدنة بمبادرة روجرز الشهيرة.