ويثرثر الكثيرون عن شباب لايعرف تاريخ وطنه، دون أن يقولوا لنا كيف لا نحتفل كما ينبغي بواحد من أعظم أيامنا، ولا نقول لأبنائنا قبل أن نقول للآخرين كيف قادت مصر العالم كله إلي عصر جديد؟ وكيف فتحت بتضحيات أبنائها أبواب الحرية أمام شعوب العالم المقهورة في الوطن العربي وافريقيا والعالم كله؟ وكيف كتبت تلك المدينة الصغيرة »بورسعيد» كلمة النهاية لامبراطوريات كانت تحكم العالم، وكيف كان النصر هو الطريق الذي أكد مصرية قناة السويس، وجعل من قرار تأميمها بداية عصر تعود فيه ثروات الشعوب إليها وليس للمغتصبين. غدا.. تحل الذكري الثانية والستون لانتصار مصر العظيم في حرب 56، في مثل هذا اليوم خرج آخر جنود العدوان الثلاثي من مدينة »بورسعيد» بعد صمود أسطوري كانت نتيجته الفشل الذريع لمخطط إعادة احتلال مصر واستعادة قناة السويس التي كان الزعيم جمال عبدالناصر قد أعلن تأميمها في يوليو من هذا العام، رداً علي الإهانة التي وجهها الاعداء لمصر بسحب تمويل بناء السد العالي الذي بنيناه بعد ذلك بسواعد أبنائنا وبعائدات قناة السويس التي تحررت من أسر الناهبين. كنت في مدينتي »بورسعيد» حين بدأ العدوان، وكنت هناك حين خرج المعتدون في يوم النصر العظيم. عشت المقاومة البطولية من أبناء المدينة لأساطيل وطائرات قوي عظمي، وهم لايحملون إلا البنادق الصغيرة، ومع ذلك ينجحون في تعطيل غزو المدينة واحتلال القناة. وعشت الأيام الصعبة في ظل احتلال حاول بكل الوسائل أن يخضع المدينة وأن يستغل معاناتها. رأيت سيارات العدو وهي تعلن من مكبرات الصوت عن إغراءات هائلة لمن يتعامل معها، ورأيت أهل بورسعيد وهم يرفضون كل إغراء ويتحملون حصار 11 ألف جندي مدججين بكل أنواع السلاح وفي حماية أساطيل بحرية وجوية أحرقت نصف المدينة، وتعلن استعدادها لحرق ما تبقي إذا لم تخضع المدينة لإرادتهم.. ومع ذلك لم تخضع المدينة، ولم يستسلم ابناؤها، بل علي العكس.. تصاعدت مقاومتهم للعدوان لتسجل بورسعيد صفحة جديدة من أروع صفحات النضال الشعبي في تاريخنا لم تتوقف حتي كانت هزيمة العدوان، وانتصار مصر الذي غير وجه التاريخ. عشت هذه الأيام الصعبة والمجيدة التي لايمكن أن تغيب عن ذاكرتي مهما طالت السنوات، ومهما تعرضت كباقي أيام انتصارنا لحروب المتآمرين وهجمات العملاء التي استهدفت ذاكرتنا الوطنية، والتي أرادت أن تجعل من تاريخنا أياماً للهزيمة وصفحات من الانكسار!! ولسنوات طويلة بعد ذلك كان العالم كله يأتي إلينا في هذا اليوم من كل عام ليحتفي بالنصر العظيم الذي فتح أبواب الحرية لشعوب طال استعبادها، وفتح أبواب استعادة الدول المقهورة للسيطرة علي ثرواتها بعد نهب طال من قوي الاستعمار والاستغلال الدولي. ولسنوات طويلة كان الاحتفال بعيد النصر »23 ديسمبر» يأتي ليذكرنا بمجد استعادة قناة السويس لأحضان الوطن، وبإرادة هذا الشعب العظيم التي لا تقهر، والتي وقفت وراء عبدالناصر وهو يعلن أننا سنبني السد العالي بأموال القناة التي استرددناها. ثم وهو يرفض الاستسلام لعدوان آثم من أكبر قوتين استعماريتين في هذا الوقت ومعهما إسرائيل. وكان صمود »بورسعيد» الأسطوري هو الصخرة التي فشل أمامها العدوان. وهو مفتاح النصر الذي تحقق بعد أن انحازت شعوب العالم كلها »بمن فيها فرنسا وبريطانيا» إلي جانب الحق، لتنتصر مصر وتعود القناة ونبني السد ونفتح لأنفسنا أبواب التقدم، ونفتح لاشقائنا في الوطن العربي وفي كل الشعوب المقهورة أبواب الاستقلال. وإذا كانت الحروب ضد »الذاكرة الوطنية» قد استطاعت في سنوات سابقة أن تجعل الاحتفال بالنصر التاريخي في حرب 56 »موضة قديمة»!! وإذا كان الثأر من ثورة يوليو وعبدالناصر قد قاد البعض إلي الوراء لكل إنجاز وطني ولكل انتصار حققته مصر.. فإن الموقف الآن يفرض علينا أن نصحح الأوضاع، وأن نعيد لانتصارات الشعب ما تستحقه من إجلال وتقدير، وأن ندرك أن أكثر من جيل تعرض لعمليات تزييف التاريخ يستحق منا الآن أن نقول لهم الحقائق. وأن شعباً يخوض الآن أقشي المعارك ضد الإرهاب ومن أجل البناء يستحق أن نقوي عزيمته بأن آباءه وأجداده قد واجهوا نفس المصاعب، وصمدوا وانتصروا. تحية لبورسعيد في عيد انتصارها وانتصار الوطن في حرب 56، تحية للمدينة التي قدمت ملحمة أسطورية في الصمود والمقاومة حتي استحقت أن تكون »ستالينجراد العرب» ورمز التحرر الذي أنهي عصر الاستعمار القديم. تحية للمدينة التي تعاني منذ سنوات من ظروف اقتصادية صعبة آن الأوان لكي تنتهي مع مشروعات تنمية قناة السويس التي ينبغي أن تحيل بورسعيد إلي مركز أساسي للتجارة العالمية. وتبقي ذاكرة الوطن في حاجة لأن نحتفل بكل انتصاراتنا العظيمة ويبقي 23 ديسمبر يوما خالداً في تاريخ الإنسانية كلها، ويبقي يوماً فارقاً تحولت فيه »بورسعيد» إلي رمز لكل شعوب العالم المناضلة من أجل الحرية والاستقلال، وتحولت فيه مصر إلي طليعة لعالم جديد ينهي عهود الاستعمار والاستغلال. حتماً سيعود الاحتفال بعيد النصر ليكون عيداً قومياً، ولو كره من يعتبرون استعادة القناة جريمة، وبناء السد العالي كارثة، وصمود »بورسعيد» العظيم ذنباً لايمكن أن يغتفر. كل عام ومصر بخير.. تحتفل بانتصاراتها، وتستعيد للذاكرة الوطنية أيامها المجيدة.