ثيودورا الراقصة العارية التي اصبحت إمبراطورة متدينة تأوي رجال الدين في جناحها الخاص لحمايتهم من بطش زوجها ! وزوجها الإمبراطور جوستانيان يخلد ذكراها ببناء دير للقديسة كاثرينا تحت سفح الجبل المقدس في سيناء مريم تركت عمها الراهب لتحترف الدعارة لكنها عادت إلي الصواب بعد أن شمت الرائحة التي تميز الرهبان في الزبون المتنكر الذي جاء لهدايتها ! لكن المعجزة الأكبر اكتشاف أقدم وأهم نسخة من الكتاب المقدس في الدير دون أن يعرف الرهبان قيمتها الدينية ! مخطوطة سيناء اشتراها قيصر روسيا بتسعة آلاف روبل وباعها السوفيت بعد الثورة الشيوعية إلي بريطانيا بمائة ألف استرليني ! كنت مراسلا عسكريا أغطي مراحل إنسحاب إسرائيل من سيناء عندما فرضت علينا ظروف الطقس غير الملائم للطيران قضاء ليلة في استراحة دير » سانت كاترين « تصادف أن تكون ليلة كريسماس بالتوقيت الغربي ( 25 ديسمبر ) في نفس الأجواء التي نعيشها الآن. ومن حسن الحظ أن رهبان الدير يتبعون الكنيسة الشرقية التي تحتفل بميلاد المسيح في الأسبوع الأول من يناير وإلا ما وجدنا أحدا خارج أماكن الصلاة يقدم إلينا شربة ماء أو قطعة خبز أو ثمرة فاكهة. شيد الدير عام 545 علي سفح جبل موسي بجدران عالية ومتينة من صخور الجرانيت فيما يشبه القلعة خوفا من هجمات اللصوص والمتشددين دينيا وقطاع الطرق. وما أن فتح المسلمون مكة حتي أرسل رهبان الدير وفدا إلي النبي محمد طالبين الحماية فمنحت لهم في رسالة بخاتمة لا تزال نسخة منها في الدير بعد ان حصل أحد السلاطين العثمانيين علي الأصل. وهناك من يعتقد أن رسول الله زار الدير في رحلة الإسراء إلي القدس ويدلل علي ذلك باثر خف الجمل الذي امتطاه ولايزال مطبوعا بشكل واضح علي الصخور هناك. وشيد الرهبان مسجدا في مكان ظاهر ليكون علامة مودة مع من حولهم من مسلمين. لكن أمتع ما تسمع من الرهبان وتقرأ في خزانة وثائقهم النادرة حكايات نساء مسيحيات انتقلن من الدعارة إلي الطهارة ليسبقن في العشق الألهي رابعة العدوية. لنبدأ بثيودورا التي القيت تحت قدميها من أبيات شعر الغزل الفاجر من شعراء زمانها ما لم تنله إمرأة أخري من أنوثة وسخونة ورعونة. واحد منهم توقف طويلا عند جسدها قائلا : « نهدان يسكنهما القمر.. عينان منجم عميق للكحل.. شفاة نبع من النبيذ.. شعر متحرر يسرح الليل فيه مترنحا.. وجسد من زجاج شفاف.. يكشف عن جنة محرمة من غابات التفاح «. لكن رغم كل الكلمات الموحية المغرية لم ينجح علي ما يبدو في وصفها بما تستحق. ولدت ثيودورا قبل 1500 سنة في سوريا العتيقة.. نزحت مع والديها الفقيرين إلي بيزنطية علي شاطئ البوسفور.. عمل والدها حارسا للدببة في مسرح صيفي.. وما أن بلغت سن العشرين حتي صعدت المسرح وراحت ترقص رقصا جنسيا رشيقا.. مثيرا.. ليتبعها في كل ليلة عشيق سرعان ما تطرده لتستقبل عشيقا آخر أكثر نفوذا وثراء. علي أنها تركت المسرح لتلتحق برجل منحها الكثير هو بينتا بولس الذي أصبح حاكما في أفريقيا لكنه سرعان ما هجرها مللا منها فراحت تتسول في الطرقات بلا نقود وبلا مأوي حتي فتح لها راهب زاهد باب التوبة وكانت قد تجاوزت سن الأربعين. تغطت بالحشمة والحكمة وحفظت أسرار الكتاب المقدس وهو ما مكنها من أسر قلب رجل مهم سيعرفه التاريخ فيما بعد باسم الإمبراطور جوستنيان وكانت سببا في شهرته. كان جوستنيان وقتها عضوا في مجلس الشيوخ الذي يحرم زواج النبلاء من العامة ورفضت عمته الإمبراطورة تغيير القانون وزواجه من « تلك الفاجرة « علي حد وصفها. لكن ما إن ماتت الإمبراطورة حتي ورث جوستنيان عرشها وأزال كل ما يمنع زواجه من ثيودورا بل وتوجها إمبراطورة في كنيسة القديسة صوفيا أرفع ما في بلاطه من أوسمه. وكنيسة صوفيا اصبحت جامعا في استنبول بعد أن سقطت الإمبراطورية البيزنطية وقامت الإمبراطورية العثمانية لكنها الآن متحف يجمع بين المسيحية والإسلام. لم تتردد ثيودورا في رعاية رجال الدين الذين أرشدوها إلي الصواب حتي انها وفرت الحماية لبطريرك القسطنطينة من بطش زوجها وأخفته في جناحها الخاص وأعتقد وقتها أنه مات ولكن أمره انكشف بعد مرور اثني عشر عاما عندما توفيت الإمبراطورة. علي أن ثيودورا كانت تنفرد بشجاعة غير عادية مما جعلها تجبر زوجها علي مقاومه المتمردين في قصره بعد أن كان علي وشك الفرار قائلة : « أهرب أيها الإمبراطور إنك غني وسفنك مستعدة والبحر هادئ ولكني سأبقي هنا مؤمنة بالمثل القائل : « إن اللون البنفسجي هو أفضل الأغطية للكفن « فتراجع مستردا قواه وتمكن من القضاء علي العصاة وسحقهم وسجنهم. وفي كتابه عن الدير « اكتشاف الكتاب المقدس « يضيف الباحث اللاهوتي جيمس بنتلي : إن ثيودورا حكمت إحدي وعشرين سنة دعمت خلالها إخلاصها لرجال الدين واستقبلت في قصرها رهبانا من كنائس مصر وسوريا وقبرص والحبشة وروسيا. وترجمت الكتاب الذي نستند إليه مرجعا آسيا محمد الطريحي ونشرته في القاهرة عام 1995. وبعد أن عانت ثيودورا من السرطان توفيت في عام 548 ويمكن مشاهدة صورتها منقوشة بالفسيفساء علي جدران كنيسة فيتالي في روما وهي مغطاة برداء طويل بنفسجي اللون مطرز بالذهب ومرصع بالأحجار الكريمة ويتناثر اللؤلؤ علي شعرها مثل نجوم السماء لكن سيرتها ستصبح أكثر جاذبية من تلك اللوحة في « دير سانت كاترين «. قرر جوستنيان بناء الدير تخليدا لذكراها وتصور أن قمة الجبل مكانا مناسبا لكن صعوبة توصيل المياه إليه غيرت مكانه إلي السفح ليحمي الكنيسة المبنية في موقع الغابة المحروقة التي كانت إحدي علامات التجلي والنبي موسي يتحدث إلي الله. وفي سقف بهو الدير نقشت عبارة : « في ذكري إمبراطورنا التقي جوستنيان وإمبراطوريتنا لترقد روحهما في سلام «. واهدي جوستنيان للدير 200 من مصر و200 من مقاطعة ويلز في بريطانيا لخدمة الرهبان ومايزال أحفادهم هناك ويسمونهم « دشبيلجا « وهم ليسوا بدوا وإن تزوجوا من البدو. لكن الدير لا يعرف باسم ثيودورا وإنما يعرف باسم القديسة كاثرينا التي حفرت سيرتها بدمائها في طريق الزهد منذ أن تنفست الحياة. ولدت كاثرينا باسم ذوروثيا وهي ابنة ملك ورثت عنه المال والجاه وورثت عن أمها الهدوء والجمال.. درست الفلسفة والطبيعة والفلك والطب بما جعلها تستنكرالوثنية السائدة من حولها.. وجاءت إليها السيدة العذراء في أكثر من رؤيا.. فآمنت بالمسيحية.. وعمدت باسم كاثرينا. وما أن عرف الإمبراطور مكيسمانيوس بأمرها حتي طلب من زوجته فاوستينا استدعاء خمسين عالما وفيلسوفا لاختبارها وكشف حقيقتها وبعد أيام من المناقشة أعلنوا صدقها بل وتمردوا علي عبادة الأوثان مثل سحرة فرعون الذين آمنوا برب موسي وخروا له ساجدين. حاول الإمبراطور إغتصابها لكنها نجت منه وهو ما ضاعف من غضبه فسجنها وجلدها وعذبها واعدمها بعجلات مسننة التروس فدعت ربها في محنتها فتحطمت العجلات بعد أن قطعت رأسها وتصر بعض الروايات علي أنها نجت وقامت علي قدميها فأطاح الإمبراطور رقبتها بالسيف وتدفق الحليب من شرايننها ولم يكن عمرها يزيد عن 19 سنة. بعد 500 سنة علي وفاتها شاهد راهب في سيناء ملائكة يحملون جثمانها ويطيرون به إلي قمة جبل الدير فصعد الراهب إلي مكان الرؤية ليجد الجثمان فحمله إلي الدير ودفنه فيه ومن يومها سمي الدير باسمها وهناك يحتفلون بذكري رحيلها في يوم 8 ديسمبر من كل عام. ويؤكد الرهبان أن عظامها تنتج زيتا يجمعون قطراته ويبيعونه إلي زوار الدير بأثمان باهظة وهو ما ضاعف من شهرة الدير وتدفق الهدايا الثمينة إليه. وفي عام 1229 شيد ملك فرنسا كنيسة كرسها لها وتبرع دوق نورماندي بمبالغ طائلة إلي الدير وقدم الرهبان أحد أصابعها إلي مدينة روان واخذوا بعدها يزورون المدينة كل عام لجمع التبرعات من الذهب والفضة لدعم الدير. - وعندما سيطر الأتراك علي القسطنطينة عام 1453 وبسطوا نفوذهم علي سيناء أجبروا رهبان الدير علي دفع الجزية ( 700 قطعة ذهب ) فتبرع ملك فرنسا ( لويس الحادي عشر ) وملكة أسبانيا إيزابيل سنويا بأربعة أضعاف الجزية. وحسب ما نقل عن الرحالة الذين زاروا الدير منذ تشييده فإنه «كانت تنبعث من الرهبان ممن لم يغتلسوا رائحة خاصة قدستها المسيحية في أوائل القرون الوسطي وهو ما تثبته الرواية الجميلة للقديسة مريم المصرية». كانت مريم ابنة شقيق الراهب إبراهام الذي رعاها بعد وفاة والدها ولكنها انحرفت عن الطريق وأصبحت عاهرة. حاول كبير الرهبان إعادتها إلي الصواب وتوسل إليها ولكن دون جدوي. ارتدي ثياب الجنود ودخل عليها علي أنه زبون يرغب في المتعة الحرام.. بل.. أكثر من ذلك تناول كأسا من الشراب. دخلت عليه مريم وراحت تداعبة واضعة يدها حول عنقه وما أن قبلته حتي انبعثت منه رائحة الزهد والتقشف فتذكرت مريم تلك الحياة التي عاشتها من قبل في الدير. في تلك اللحظة شعرت مريم وكأن رمحا اصاب روحها فأطلقت صرخة عالية وانخرطا في النحيب بما غسلها من الذنوب وأعادها إلي خدمة الرب لتصبح شفيعة الخاطئات وطالبات التوبة والمغفرة. ونسب إليها أن الشيطان ظهر لها متنكرا في هيئة ملاك النور قائلا لها: « أنظري إلي إنني أخاطبك ». فأجابت مريم : « أنظر إلي إنني غير جديرة بالمكانة التي يبعث فيها إلي بملاك النور فتش عن شخص آخر «. وفي الحال اختفي الشيطان. لكن.. المعجزة الملموسة وجود مكتبة للدير بها 3000 مخطوطة نادرة ترجع إلي ما قبل تشييده.. وأغرت تلك المكتبة النادرة كثيراً من الباحثين اللاهوتيين في الحصول علي ما فيها من كنوز غيرت في المعتقدات المسيحية. لقد قادت الصدفة قسطنطين تشيندروف للعثور علي أقدم نسخة من الكتاب المقدس تعرف بالمخطوطة السينائية في عام 1859 وصفها بأنها « جوهرة أبحاثي «. وحسب ما جاء في مذكراته فإن كثيرا من المخطوطات الثمينة كانت ملقاة في سلة مهملات القاعة الرئيسية للدير مما يعني أن الرهبان وقتها لم يملكوا الخبرة الكافية للتعامل مع ما تحت أيديهم من ثروة تاريخية ودينية. في مساء 4 فبراير من ذلك العام قام تشيندروف بجولة في الدير وفي نهايتها اصطحب راهبا يونانيا شابا إلي استراحته لتناول المرطبات وفوجئ به يقول : إنه شاهد وقرأ النص اليوناني من الكتاب المقدس وأخذ من إحدي زوايا كهفه رزمة مربوطة بشريط قماش أحمر وطرحها أمامه. في رسالته إلي زوجته أنجليكا يكتب تشيندروف وهو يقفز في الهواء فرحا : « إن صفحات هذه المخطوطة فريدة من نوعها في العالم وبما ان مخطوطة الفاتيكان ومخطوطة الإسكندرية المحفوظتين في لندن خاليتين من النص الكامل للعهد القديم فإن تضمن هذه المخطوطة للعهدين معا مهمة للمعرفة المسيحية وليس هناك شك في أن مخطوطة سيناء أقدم منهما واكتشافها يمثل حدثا مهما وبطبيعة الحال ليس في الدير من يدرك قيمة هذه المخطوطة التي تحتوي أيضا علي النص الكامل لرسالة برنابا التي عدت مفقودة «. وبعد أن وسط تشيندروف قيصر روسيا لدي الباب العالي في تركيا وافق الرهبان علي أن يحمل المخطوطة إلي مدينة بطرسبرج لاستنساخها وطبعها وإعادتها للدير وكتب تعهدا بذلك مشيرا إلي أن المخطوطة مؤلفة من 346 صفحة. وصدرت الطبعة الأولي من المخطوطة في خريف عام 1862 في الذكري الألفية للقيصرية الروسية وأهداها تشيندروف للقيصر قائلا : «إن هذا الاثر المقدس من أيام أول إمبراطور مسيحي له مكانة مثل مكانة الكنز المقدس في سفح الجبل الذي شاهد فيه موسي وجه الله وتسلم منه الوصايا العشر». وبعد مفاوضات شاقة وافق الدير علي إهداء المخطوطة الثمينة للقيصر مقابل هدايا ثمينة ومبلغ من المال لا يزيد عن 9 الآف روبل أو ما يعادل وقتها 1850 جنيها استرلينيا ليتواصل نهب ونزيف ثروات مصر التاريخية من الآثار الفرعونية إلي المخطوطات الدينية لكن العيب فينا فنحن لا نعرف قيمة ما تحت أيدينا منها إلا بعد أن تكون قد هاجرت إلي غيرنا. وما أن انتصرت الشيوعية في روسيا بعد الثورة البلشوفية عام 1917 حتي سمحت القيادة الجديدة للبلاد ببيع العديد من المخطوطات النادرة إلي الغرب. في عام 1923 عرضت روسيا بيع مخطوطة سيناء بمئتي جنية استرليني وقام الوسيط وهو بائع تحف يدعي باتينج هاوزن بالاتصال بالسير فردريك كيفين في المتحف البريطاني لتبدأ أكبر عملية مساومة حول اثمن كتاب مقدس في العالم انتهت إلي 100 الف استرليني. مولت الحكومة البريطانية نصف الصفقة واستجاب الجمهور إلي دعوتها لتمويل النصف الآخر ووصلت المخطوطة إلي لندن يوم 27 ديسمبر عام 1933 بالقطار وحمل الوفد الروسي المخطوطة إلي مقر الحكومة البريطانية ومنها بالتاكسي إلي مقر المتحف البريطاني في بلوم سبري وهناك وجدوا جمهورا غفيرا رفع قبعاته إحتراما للكتاب المقدس. وفي أقل من شهر واحد كانت إيرادات المتحف من المخطوطة تغطي ثمنها. إن دير سانت كاترين أكبر من مزار سياحي يشاهد الأجانب معماره أو يتفقدون قاعاته أو يقرأون سيرته أو يرتجفون من سماع معجزاته أو يشعرون برهبة وقدسية البيئة المقدسة من حوله. الدير ثروة من المعرفة يمكن أن يلحق بها مدرسة عليا للأبحاث اللاهوتية تكشف عما فيه من مخطوطات لم تعرف من قبل ويمكن إعادة طبعها وترجمتها إلي لغات مختلفة تأتي بعائد كبير علي الدير يغنيه عن التبرعات. وتمتد ثروة الدير إلي الايقونات القديمة التي يمكن استنساخها وقد احتفظ بها من الهجمات القديمة التي حرمت التصوير في المسيحية واجبرت الكنائس علي تدمير ما لديها من ايقونات وصور للقديسيين. وربما كانت البداية إعلان وزارة الآثار عن ترميم مكتبة الدير وهو قرار يستحق التقدير ولكن لابد أن يصل ما في تلك المكتبة من معرفة إلي العالم كله. ولو لم نفعل ذلك بأنفسنا سيقوم بذلك اللصوص والمهربين نيابة عنا.