ولكننا نحن في مصر، رغم أننا لدينا قانون لمنع الاحتكار وجهاز أنشأه هذا القانون لمقاومة الاحتكار، إلا أننا لا نسلم من هذا الاحتكار، ولدينا ممارسات احتكارية من وراء ظهر هذا القانون في ظل اقتصاد السوق من حق المستثمر ورجل الأعمال أن يبيع أو يشتري ما يشاء وأن يبرم ما يريد من الصفقات سواء كانت صفقات تنازل أو استحواذ.. ولكن للمجتمع أيضا حقوقا لابد أن تكون مضمونة تبدأ من حق معرفة كل شيء عن هذه الصفقات وتصل إلي حقه في منع احتكار رجل أعمال أو مجموعة من رجال الأعمال في نطاق أو مجال اقتصادي محدد، خاصة إذا كانت هذه الصفقات في مجال الإعلام. ومنذ أن انتهجت مصر نظام اقتصاد السوق ورجال الأعمال يمارسون كما يشاءون حقهم في البيع والشراء وإبرام صفقات التنازل والاستحواذ.. وإذا شعر أحدهم أن ثمة عقبات بيروقراطية تعطل أو تبطئ ممارسته لهذا الحق ينتفض غضبا.. لكن لم يحدث أن انتفض أحد غضبا لأن المجتمع لا يحصل أيضا علي حقوقه سواء حق المعرفة بما يحدث حوله أو حقه في الحماية من الاحتكار. المجتمع يفاجأ بصفقات تنازل واستحواذ هنا وهناك لرجال أعمال كبار لا يعرف عنها شيئا، ولو علي الأقل قيمتها المالية، وكيف تم تمويل هذه الصفقات.. بل ان مجتمعنا اعتاد علي أن يتعامل مع هذه الأمور كأنها نوع من القضاء والقدر لا يناقشها أو يتحدث عنها، رغم أنها توثر فيه وتحديدا في مستوي معيشته ونوعية حياته وفي وعيه أيضا، وهو الأمر الذي يترتب علي الصفقات الإعلامية تحديدا. لقد شهد المجتمع المصري في السنوات العشرة الأخيرة تأسيس كيانات اعلامية وصحفية عديدة ومتنوعة لم يعرف شيئا عن تمويلها وبالتالي لم يعرف شيئا تفصيليا عن أهداف تأسيسها.. وبعضها اتجه للتوسع في فترة ما رغم أنه لا يربح بل يحقق خسائر دون تقديم تفسير للرأي العام الذي يخاطبه صباح مساء.. ثم اتجه للانكماش فيما بعد دون تقديم تفسير أيضا.. وحتي إذا افترضنا أن كل رجل أعمال حر فيما يملكه، يخسر أو يكسب، رغم أن للحرية حدودا في أعتي النظم الرأسمالية، إلا أن حرية رجل الأعمال تقف عند حدود أو بوابة الاحتكار.. أي أن رجل الأعمال حر في إطار قواعد المنافسة في السوق أما عندما يتم خرق هذه القواعد أو حينما يشكل بتصرفاته حالة احتكارية فهنا لا يصبح حرا.. هنا يصير من حق المجتمع أن يقول له قف، وأن يمنعه من الممارسات الاحتكارية، بل وأن يحاسبه ويعاقبه علي ما قام به من ممارسات احتكارية.. هذه قاعدة معمول بها في كل النظم الرأسمالية وأعتي هذه النظم وعلي رأسها الولاياتالمتحدة. ولكننا نحن في مصر، رغم أننا لدينا قانون لمنع الاحتكار وجهاز أنشأه هذا القانون لمقاومة الاحتكار، إلا أننا لا نسلم من هذا الاحتكار، ولدينا ممارسات احتكارية من وراء ظهر هذا القانون خاصة في تجارة السلع الأساسية المهمة.. وأخشي أن يغري ذلك البعض لمحاكاة هذه الممارسات الاحتكارية في مجال الإعلام.. وهنا أنا أستند في مخاوفي هذه إلي شواهد عديدة بعضها غير مصري وبعضها مصري.. وبالنسبة للشواهد غير المصرية أذكر بما حدث في روسيا بعد انهيار الاتحاد السوفييتي واتجاهها نحو اقتصاد السوق.. فقد سيطر عدد محدود من كبار رجال المال والأعمال الجدد علي الاعلام الروسي وفرضوا احتكارا عليه، وعندما جاء الرئيس الروسي بوتين إلي الكرملين اكتشف خطورة هذا الاحتكار علي بلاده وسعي إلي تصفيته.. أما بالنسبة للشواهد المصرية فهي تتمثل في صفقات التنازل والاستحواذ التي تمت بالفعل في مجال الاعلام حتي الآن، أو حتي يتم التفاوض عليها. فنحن لا نعرف شيئا عن هذه الصفقات سوي أنها تمت أو أنه يتم التفاوض عليها.. لا نعرف قيمة هذه الصفقات.. ولا نعرف كيف تم تمويلها.. ولا نعرف أيضا لماذا تمت ناهيك عن النتائج التي سوف تترتب عليها.. ان من حق المجتمع أن يعرف قيمة هذه الصفقات وكيف تم تمويلها ومن حقه قبل ذلك كله ألا تصبح وسائل اعلامه في يد رجل أعمال واحد مهما خلصت نواياه وكانت طيبة، أو حفنة من رجال الأعمال حتي وان كانوا شديدي الاحترام.. نحن هنا لا نتحدث عن سمات شخصية وإنما نتحدث عن ضرورات مجتمعية يتعين توافرها في المجال الاقتصادي كله بما فيه مجال صناعة الاعلام. صناعة الاعلام في البلاد يجب أن تكون بعيدة عن الاحتكار.. فالاحتكار له مخاطره وأضراره ومثالبه عديدة، وهو نقيض للتعددية التي نقول أن مجتمعنا مثل بقية المجتمعات يتسم بها.. وحماية الاعلام من الاحتكار سيكون أحد المهام الأساسية للمجلس الأعلي لتنظيم الاعلام الذي أقر الدستور تأسيسه كمجلس مستقل غير خاضع سواء للحكومة أو مجموعة وشلة من شلل المصالح التي تكون العديد منها في مجتمعنا وتريد فرض هيمنتها وبسط نفوذها علي مؤسسات الدولة، ومن بينها هذا المجلس الذي لم يتم إنشاؤه بعد. مهمة المجلس الأعلي لتنظيم الاعلام ليس منح التراخيص للقنوات الفضائية والمحطات الإذاعية والصحف، أو ضمان الممارسات المهنية الصحيحة في مجال الاعلام، وإنما أيضا مهمته الحفاظ علي تنافسية الاعلام المصري من خلال تعدد منابره، وتنوع ملاكه.. وهنا يصير التعجيل بتأسيس هذا المجلس ضرورة، وهو الأمر الذي يقتضي الانتهاء من التشريع الذي يحدد كيفيةإنشائه وصلاحياته ويضمن استقلاله. وفي ذات الوقت يتعين أن يكون هناك اهتمام بدعم الاعلام العام أيضا (تليفزيون الحكومة والصحافة القومية)، وهي المهمة التي يؤخرها عدم تأسيس الهيئة الوطنية للاعلام الذي سوف تشرف علي تليفزيون الدولة والهيئة الوطنية للصحافة التي ستشرف علي الصحافة القومية. بذلك نستطيع أن نحمي مجتمعنا من خطر الاحتكار في الاعلام، بل وأيضا من خطر السيطرة غير المصرية علي اعلامنا.. أما إذا تقاعسنا كما فعلنا حتي الآن سوف نجد اعلامنا فريسة احتكار فرض عليه سوف نحتاج لخوض معركة ضارية لانقاذه منها، وسوف نجد أموالا أجنبية قد هيمنت علي اعلامنا الوطني.. انتبهوا يرحمكم الله.