رغم أن اسم صندوق النقد الدولي يمثل حساسية بالغة لكثير من المصريين الذين ارتبط الصندوق عندهم بالضغوط الاقتصادية التي غالبا مايدفع ثمنها المواطن العادي الذي يري في روشتات الصندوق نوعا من الدواء المر الذي يتجرعه ولا يكاد يسيغه .. إلا أن الحوار مع د.حازم الببلاوي المدير التنفيذي لصندوق حاليا ووزير المالية ورئيس وزراء مصر الأسبق يحمل الكثير من الأخبار السارة التي قد تجعلنا كمصريين نعيد تقييمنا ورؤيتنا لدور صندوق النقد الدولي في مساعدة الاقتصاديات العالمية خاصة الآخذة في النمو مثل مصر لعبور مرحلة التحديات الوعرة التي تقابلها بين الحين والآخر حتي ولو من باب المشورة الفنية وليس من باب القروض التي أصبحت الحكومات المصرية المتعاقبة منذ ثورة 25 يناير تتعامل معها بحساسية شديدة. في بداية حواري اريد أن أسألك كمسئول دولي كبير تعمل في هذه المنظمة الدولية العريقة هل كان صندوق النقد الدولي هو الخيار الوحيد أمام الدول الصناعية الكبري أم كان من الممكن تأسيس نظام بديل أقل قسوة علي الدول الصغيرة؟ لو عدنا قليلا إلي الوراء لوجدنا أن الحرب العالمية الثانية نشأت إلي حد كبير بسبب صراع طويل بين الدول الصناعية الكبري التي كان كل منها يخطط لكسب أسواق علي حساب الأخري فكانت كل دولة تضع إما قيودا علي التجارة أو من خلال التلاعب في سعر عملتها بتخفيضها عن قيمتها الحقيقية فكان التخطيط الذي فكر فيه الكل في ذلك الوقت الحاجة لنظام حر ومستقر للتجارة ومن هنا جاءت فكرة تأسيس صندوق النقد وكانت الفكرة أن يضم 3 مؤسسات: بنك يمول اعادة الاعمار وهو البنك الدولي ومؤسسة لضبط الأوضاع النقدية والمالية ومؤسسة للتجارة وقد وافق الكونجرس الأمريكي وقتها علي البنك ومؤسسة التمويل ورفض مؤسسة التجارة ففكر المسئولون وقتها في فكرة بديلة وتم انشاء مؤسسة الجات التي تحولت فيما بعد لمنظمة التجارة العالمية وعندما بدأ الصندوق عمله حدثت مفاجأة غير متوقعة عندما وجد العالم أن اوربا التي تم تأسيس المنظمتين من أجلها كانت قد استردت عافيتها بسرعة في غضون خمس سنوات أو أكثر قليلا من انتهاء الحرب 1945 فوجد البنك الدولي نفسه بلا عمل فاتجه للدول النامية عكس الصندوق الذي بدأ يتعامل مع الدول النامية متأخرا عن البنك الدولي مع اختلاف ظروف الدول النامية عن ظروف الدول الصناعية الكبري وهو ما أوقع الصندوق في البداية في مشاكل بسبب عدم خبرته بظروف الدول النامية. مصر والصندوق هل هناك حوار متوقع بين مصر وصندوق النقد الدولي خلال الفترة المقبلة؟ الحوار بين الصندوق ومصر لم يتوقف في اي فترة من الفترات وهناك مشاورات سنوية تتم في موعدها كما نتبادل الزيارات للتعرف علي المعطيات الجديدة في الاقتصاد المصري وإجراء مناقشات مع المسئولين في البنك المركزي وذلك ضمن عملية التمهيد لإجراء المشاورات السنوية حول الاقتصاد المصري. ويعتبر تقييم الصندوق هو أحد العوامل المساعدة علي استعادة ثقة المستثمرين في المناخ الاقتصادي في مصر وهو يتم بناء علي امكانيات الواقع الاقتصادي لمصر دون تهويل او تهوين كما تعتمد عليه كبري الشركات الاستثمارية عندما تقرر التوجه بمحافظها المالية تجاه اي بلد للاستثمار فيه. وما أبرز النقاط التي يتم بحثها خلال هذه المشاورات؟ هناك تفاهم كبير بين المسئولين المصريين ومسئولي صندوق النقد الدولي بشأن التحديات التي تواجه الاقتصاد المصري خاصة ما يتعلق بالدين المحلي والذي لابد من خفضه بنسبة كبيرة فالوضع الأمثل للدين المحلي لدول العالم يجب ألا يتجاوز 60 % من اجمالي الناتج المحلي الاجمالي بينما يصل في مصر إلي مستوي 90% .ولكن علي الرغم من التحديات والصعوبات التي يواجهها الاقتصاد المصري إلا أن هناك مايدعو للتفاؤل إذا تم اتخاذ اجراءات الاصلاح الاقتصادي بجدية والتزمت بها الحكومة والمواطن. هل هناك أمثلة لقرارات تري علي الحكومة المصرية اتخاذها في الوقت الحالي؟ الحكومة نجحت في عبور الخطوة الاولي في برنامج اصلاح الدعم وهي الخطوة الأصعب والأخطر،إلا أن عليها استمرار متابعة تنفيذ خطوات الاصلاح حتي تنجح وتحقق النتائج المرجوة منها.فالحكومة المصرية أمامها فرصة جيدة للتقدم ولكن بشرط أن تواجه القضايا الصعبة بجدية مثلما تم التعامل مع قضية الدعم في المرحلة الاولي. محدودو الدخل ولكن ألا تري أن المساس بالدعم الآن قد يسبب لمصر بعض المشكلات خاصة اننا بصدد قضية تمس محدودي الدخل وهم السواد الاعظم من الشعب؟ قضية الدعم تحتاج إلي التعامل معها من خلال برنامج واضح ومناسب وقد يكون قاسيا إلي حد ما ،إلا انه لابد أن تلتزم به الحكومة ولو لمس الناس في مصر جدية الحكومة سيقفون خلفها ويساندونها حتي مع قسوة القرارات خاصة أن الشعب المصري الآن علي دراية كاملة بالتحديات التي تواجه بلاده وعلي استعداد للتضحية حتي يعود الاقتصاد للنمو بشكل جيد وهو ماسينعكس بعد ذلك علي حياة المواطنين وهناك كثير من القضايا في مصر تتطلب جرأة في اتخاذ القرار واقتحام المشكلات ووضع الحلول اللازمة لها حتي لا تتفاقم بمرور الزمن مثل قضية ايجارات المساكن القديمة وقضية الدعم خاصة أن انخفاض أسعار البترول وتقبل المواطن للخطوة الاولي في دعم الطاقة يمكن أن يساهم في إصلاح دعم الطاقة بصورة كبيرة. هل تتوقع طلب مصر الحصول علي قروض من الصندوق خلال الفترة المقبلة وما رد الصندوق في حال تم تقديم الطلب؟ الحكومة المصرية لم تتقدم للصندوق بطلب اي قروض حتي الآن وإذا ما تقدمت سوف يأخذ الصندوق طلبها بمأخذ الجد وذلك بعد دراسة البرنامج الذي ستتقدم به فالصندوق رهن اشارة مصر وهذا دوره وواجبه تجاه أي دولة تطلب المساعدة. ما القضايا التي تري أن علي الحكومة المصرية التصدي لها بقوة خلال المرحلة المقبلة وما في رأيك الخطوات التي يجب علينا اتخاذها لدفع عجلة النمو الاقتصادي؟ مصر دولة ذات موارد محدودة بالنسبة الي عدد السكان الضخم الذي يتزايد سنويا بمعدلات كبيرة وتحتاج مصر الي اتخاذ اجراءات قوية في هذا الصدد فلا بد من إدراك أن بناء الدولة ليس نزهة وطريق النجاح الذي تسعي اليه مصر لابد ان يبدأ بعملية شد الحزام وبعدها سيتحسن الوضع كثيرا وإذا أرادت الحكومة بناء هذا الوطن فعليها ان تكون قدوة في السلوك والانضباط ،فلايمكن ان تكون نسبة مساهمة الايرادات الضريبية في الموازنة 16% فقط من الناتج المحلي في حين ان النسبة المتعارف عليها في الدول الكبري تصل الي 35 %. نعم مصر تسير بوجه عام في الطريق الصحيح وقامت بخطوات جيدة علي الصعيدين الأمني والاقتصادي، غير ان ذلك لا ينفي أن هناك تحديات كثيرة وأن العديد من المشكلات تحتاج وقتاً طويلا لحلها، خاصة المشكلات الاقتصادية والاجتماعية التي تراكمت علي مدي طويل من الزمن، وجاءت الأحداث التي شهدتها مصر خلال السنوات الخمس الماضية لتفاقم من الصعوبات القائمة، لكن اقتحام الملفات الشائكة مثل تقليل دعم الطاقة وغيرها يصب في الطريق الصحيح بشرط عدم التوقف عن محاولة الوصول لحل المعادلة الصعبة بالدخول في هذه الملفات مع تقليل آثارها الاجتماعية خاصة علي الطبقات الفقيرة ومن اجل ذلك لابد من بناء أولويات صحيحة وعمل توازنات دقيقة حتي يقوم بالتضحية من يجب عليه أن يضحي. الإصلاح الاقتصادي اجابة سيادتك تقودني لسؤال جديد عن المحاور الاساسية التي تراها ضرورية لمصر الآن حتي يبدأ المواطن في جني ثمار أي اصلاح اقتصادي وكيف تقيم المشروعات القومية الكبري التي تم تنفيذها خلال السنوات القليلة الماضية؟ بالنسبة للمشروعات القومية طويلة الأجل أو قصيرة الأجل فلابد من دراستها بشكل مستفيض قبل تنفيذها أما المحاور الرئيسية لأي حلول تضعها الحكومة لعلاج المشاكل الاقتصادية فلابد ان تشمل اولا حل مشكلة السكان واصلاح التعليم وبث حالة من التفاؤل والشعور بأهمية النجاح لدي المصريين.كما أنه علينا ادراك أن القطاع المالي هو الاكثر تأثيرا في الحياة الاقتصادية او النشاط الاقتصادي،ولا يمكن تحقيق أي معدلات إيجابية للنمو الصناعي دون وجود قطاع مالي قوي ومستقر ومنضبط وملتزم بالمعايير الدولية،والعالم كله يتجه الآن إلي وضع قواعد موحدة للمعايير المصرفية وعلي جميع الدول الالتزام بها حتي يمكنها التعامل مع بعضها البعض علي اسس ومعايير واضحة. من خلال موقعك المهم في الصندوق هل تعتقد أن شروط الصندوق الكثيرة والصعبة علي كثير من الدول ومنها مصر هي السبب في تراجع طلب الدول علي قروض الصندوق؟ بداية أود التأكيد علي أنه لا توجد دولة ترغب في النمو يمكن أن تترك فرص التمويل المتاحة لها ولا تطرقها أو تستغل كل الفرص التمويلية المتاحة لها بشرط أن تتناسب هذه الشروط مع ظروفها الاقتصادية .وبالنسبة لمصر فهي لديها برنامج قوي للاصلاح الاقتصادي ومن مصلحتها ان تنسق مع مؤسسات التمويل الدولية،وأود التنويه في هذا الصدد إلي أن المناقشات التي أجرتها الحكومة مع صندوق النقد خلال اجتماعات الربيع المشتركة مع البنك الدولي كانت جيدة،وأن الجانب المصري نجح في عرض مشاكله الاقتصادية ورؤيته للاصلاح،وقد لاقت هذه الرؤية ترحيبا من جانب المسئولين والخبراء في صندوق النقد. ورؤية الجانبين متفقة علي ضرورة تخفيض عجز الموازنة ،وان نسبة خفض هذا العجز سنويا تتوقف علي مدي التزام الحكومة ببرنامج الاصلاح ومدي الكفاءة في تنفيذه. الشروط المجحفة دعني أسألك بصيغة مباشرة هل يلزم الصندوق الدول التي تتعامل معه بشروط مجحفة يدفع ثمنها محدودو الدخل؟ صندوق النقد هو جهة تمويلية واستشارية،ولايلزم الدول بإجراءات معينة،الصندوق هنا مثله مثل الطبيب الذي يكتب روشتة واسلوب العلاج وعلي المريض ان يأخذ به او لا يأخذ به وفقا لقناعته وحاجته للشفاء وفي حالة مصر لا خلاف علي التشخيص والعلاج ولكن الاختلاف بين كل مريض وآخر يكون حول جرعة الدواء التي يمكن للمريض تحملها . كيف تقرأ من خلال موقعك أزمة العملة الصعبة في مصر وكيف يمكن مواجهتها؟ أزمة العملة الصعبة وتحديدا الدولار في مصر يمكن التغلب عليها من خلال حزمة من الاجراءات المتكاملة يجب ان تتخذها الحكومة ومصر تحتاج حاليا الي قدر كبير من الانضباط المالي والالتزام بالسلوكيات الاقتصادية السليمة،فالاصلاح الاقتصادي لا يتحقق فقط بإصلاح العجز في الميزانية،وانما لابد من حزمة اجراءات مكملة تتضمن علي سبيل المثال مكافحة التهرب الضريبي والجمركي واصلاح منظومة الدعم حتي نضمن وصوله لمستحقيه ونحقق العدالة الاجتماعية،كما يجب اصلاح منظومتي التعليم والصحة. حماس كبير هل عدم الاتفاق بين مصر والصندوق طوال هذه المدة جاء في صالح مصر لتكتسب قدرة تفاوضية اكبر أم العكس اذ ربما تكون شروط الصندوق في 2016 اكثر تشددا من شروطه عقب ثورة 25 يناير التي صاحبها حماس كبير من المؤسسات الدولية لتقديم يد العون لمصر؟ عقب ثورة 25 يناير وتولي المجلس العسكري برئاسة المشير محمد حسين طنطاوي نائب رئيس الوزراء ووزير الدفاع وقتها مقاليد الامور في مصركان موقف المشير واضحا حيث لم يكن متحمسا لتوقيع اتفاقية أو الاقتراض من صندوق النقد ولكن مع الظروف الاقتصادية العصيبة التي كانت تمر بها البلاد وافق بشرط أن أقوم أنا كوزير مالية في ذلك الوقت بالحصول علي موافقة كل من رئيس مجلس الوزراء وكان وقتها الدكتور عصام شرف، ومحافظ البنك المركزي وقتها فاروق العقدة وبعد الحصول علي الموافقات اللازمة كما طلبها المشير طنطاوي عرض الأمر علي مجلس الوزراء الذي وافق بالأغلبية علي حصول مصر علي قرض من صندوق النقد الدولي إلا أن الحكومة تغيرت وتوقف السعي لإبرام اتفاق ولا اعتقد أن حماس الصندوق ورغبته في مساعدة الاقتصاد المصري قد قل أو فتر خلال السنوات الماضية. هل تعتقد أن مصر مهيأة في الوقت الحالي لتطبيق نظام ضريبة القيمة المضافة؟ العالم كله يتجه حاليا الي تطبيق ضريبة القيمة المُضافة فهي تحقق عدالة أكثر وإيرادات أعلي، لكن تنفيذها يحتاج الي اقتصاد منظم ومؤسسات حديثة،وعلي الحكومة التصدي بقوة للتهرب الضريبي لأنه يعد مشكلة كبيرة في مصر ولابد من مواجهته فالبلد يحتاج الي موارد كثيرة ليعوض ما تم فقده في الأعوام الماضية حيث خرجت أموال كثيرة أو تم تهريبها كما تراجعت عوائد السياحة. هل هناك استراتيجية محددة من الصندوق للتعامل مع دول منطقة الشرق الأوسط تختلف عن تعامله مع بقية دول العالم؟ الأوضاع في صندوق النقد تتغير وفقا للمتغيرات والأحداث الدولية،واصبح هناك اهتمام واضح بمساندة الدول الفقيرة،بالاضافة إلي تنامي الدور الذي تلعبه الدول الأكثر نموا مثل الصين وتركيا واندونيسيا والبرازيل.أما بالنسبة للشرق الأوسط فأصبح منطقة مليئة بالمشاكل المتعلقة بالامن والاستقرار وغسل الأموال ولذلك أصبحت هناك ضرورة بالالتزام بالمعايير المصرفية الدولية .