لايمكن بناء النهضة بدون ذاكرة التراث في الوقت الذي تكثر فيه الأعمال الإرهابية في معظم الدول العربية وتغتال الأبرياء وتشرد المواطنين، فإن هناك غربة أخري واغتيالًا آخر لا يقلان هولًا وضخامة عما يحدث للبشر؛ وهو تدمير كنوز التراث العربي وآثاره؛ وإن كانت الآثار الحجرية أقدر علي التحمل من رهافة أوراق المخطوطات القديمة التي تحتاج إلي معاملة أهل القفازات؛ وإن لم تفرق الهجمية بين أنواع الآثار فالكل تحت معاولها سواء! .. في هذا الحوار نطمئن علي ما تبقي من التراث المخطوطي العربي الذي مثّل عصارة ما أفرزته العقلية العربية طوال تاريخها مع واحد من حراس الثغور التاريخية العربية؛ د. فيصل الحفيان مدير معهد المخطوطات العربية التابع للمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم ......................................؟ لا شك أن الظلال الأمنية الموجودة في المنطقة العربية لها تأثير كبير، ليس علي الناس فقط وإنما أيضًا علي المخطوطات وهذا هاجس كبير في معهد المخطوطات العربية وفي المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم التي يتبع لها المعهد؛ وتجليات هذا الأمر ظاهرة في أنواع ومفردات النشاط الذي نقوم به؛ ومثلا أهم الأشياء التي قمنا بها مؤخرًا الكتاب الذي يتحدث عن التراث في أتون الحروب؛ هذا الكتاب استعرض من خلال البيانات والأرقام والمسح شبه الميداني؛ لأن الميداني في بلاد مثل العراقوسورياوفلسطين غير متاح؛ لكن اعتمدنا علي الكثير من البيانات من مصادر عديدة مثل اليونسكو وغيرها، وأقمنا دراسة حول حال المخطوطات قبل ما يحدث من صراعات خاصة في سورياوالعراق وبعده إضافة إلي قضية قديمة هي قضية فلسطين وإن كان شكل التهديد مختلفًا لأن المخطوطات لا تُدمر وإنما يُستولي عليها وهي الآن لا يستطيع أي باحث عربي الحصول عليها وإنما تقتصر علي الباحث الإسرائيلي؛ إنما في العراقوسوريا واليمن وليبيا فقد أصبحت مناطق ساخنة شديدة الخطورة علي التراث عموما ..................................؟ في سوريا مثلًا تم تدمير المكتبة الوقفية في حلب وهي مكتبة مهمة تحوي أصول آلاف المخطوطات لكن من حسن الحظ أن أغلب ما في المكتبة تم نقله قبل الحرب إلي مكتبة الأسد الوطنية بدمشق لكن بقيت في المكتبة الوقفية صور كثيرة ضاعت ودمرت في الحرب، وقد كانت مكتبة قيّمة إذ كانت جزءًا من المسجد الأموي في حلب وأخذت شكل المجموعات.. أما تلك التي صورت علي ميكروفيلمات رقمية حفظت، أما التي لم تصور في حينها والكتب النادرة في حلب فقد انتهت شأنها شأن الآثار التي تعرضت للتدمير جراء المعارك الدائرة هناك. .............................؟ المعهد عاش ثلاث فترات: فترة كان فيها بالقاهرة حتي أواخر السبعينيات وفترة انتقل إلي الكويت ثم عاد إلي القاهرة في مطالع التسعينيات.. وفي فترة الثمانينيات كانت شبه موات بمعهد القاهرة لأن المخطوطات الميكروفيلمية لم تنتقل إلي تونس أو الكويت؛ وكانت الأوضاع هنا سيئة بعد القطيعة إثر كامب ديفيد حيث كانت المخطوطات بلا عناية، ثم أنشأنا مشروعًا اسمه تجديد المخطوطات الميكروفيلمية ولا يزال المشروع مستمرًّا لأن المخطوطات الميكروفيلمية الموجودة منذ أواخر القرن الماضي صُورت من أماكن مختلفة ومتباعدة وتتم بالاختيار.. هذه المخطوطات تحتاج إلي رعاية وعناية باستمرار، وهذا ما لم يحدث؛ والآن نعمل علي معالجتها ميكروفيلميا، ثم ندخل في مرحلة الرقمنة وتوفير أكثر من نسخة لضمان بقائها إذا ما حدثت أخطار .......................................؟ بالنسبة لمحاولات استرداد مخطوطات بالخارج هناك قضية كبيرة ولجان عديدة أنا عضو فيها داخل الجامعة العربية لاستعادة الأرشيف العام الذي يضم الوثائق والمخطوطات والصور وبدأت خطوات جادة علي نطاق وزراء الثقافة والخارجية في الأمانة العامة للجامعة لاستعادة الأرشيفات المسروقة والمنهوبة والمنزوعة ولعلنا لا نغفل أن هناك بُعدين: تاريخي وحديث.. أما بالنسبة للمتاجرة في المخطوطات فقد تمت صياغة قانون في الثمانينيات بالكويت اسمه القانون النوذجي لحماية المخطوطات العربية؛ هذا القانون تم إقراره من وزراء الثقافة أواخر الثمانينيات حين اجتماعهم في الأردن، ثم قام المعهد بتعميم هذا القانون علي البلاد العربية؛ وبالطبع لا يملك المعهد الإلزام ولذلك أخذت به بعض الدول ولم تأخذ به الدول الأخري؛ وقامت دول بسن قوانين خاصة بها وأعتقد أن مصر أنشأت قانونا لحماية المخطوطات خاصا بها ........................................؟ هذا النتاج التراثي نتيجة لعقول معترف بها ليس منا فقط؛ بل من غيرنا أيضًا فعندما نتحدث عن الدرس اللغوي يتحدث الغربيون عن عظمة سيبويه مثلا أو ابن جني أو الفارسي وغيرهم، وفي علوم الطب كابن سينا الذي ظل يدرس حتي القرن التاسع عشر وابن خلدون في علم الاجتماع؛ وإن كان مبدأ المساءلة موجودًا لأنها هي التي توصلنا إلي الإفادة من التراث في خدمة الحاضر؛ إضافة إلي أن التراث يعطيك خصوصية ولا بد أن يستند الإنسان العربي إلي شيء حتي لا يكون بلا ذاكرة حين يريد بناء نهضته