د. فوزى فهمى هل تشعر أن الديمقراطية ماتت؟ أردف المتسائل موضحاً سؤاله بقوله: بمعني أننا فقدنا الإيمان بإمكانية تحققها فعلاً، وأقنعتنا بأنها لم تكن سوي أسطورة؟ صحيح ان التساؤل قد وجه إلي مفكر ينتهج منهج البحث عن خفايا ظواهر تتجلي كمعضلات، لإجلاء الأسباب المنتجة لأعراضها، التي تتبدي بوصفها دلالات اختلال، وصحيح أيضاً ان السؤال المطروح يتضمن حكماً علي الديمقراطية، لكن الصحيح كذلك أن المتسائل باحث متخصص في العلوم الاجتماعية، قد يمتلك قرائن تؤيد وجهة نظره، إذ نراه وكأنه يذكر من يسأله بنتائج تجارب ديمقراطية جري تحري سلامتها، فكشفت عن عطالتها في تحقيق أهدافها، لذا راح المتسائل واثقاً يؤكد: نحن ندرك الآن أن الديمقراطية الحقيقية لم توجد يوماً، لكنه بادر مستدركاً معلناً: إن الديمقراطية ليست فقط محض اقتراع، وإنما مشاركة حقيقية في العملية السياسية. إن مبادرة الاستدراك، تكشف عن أن المتسائل بوصفه باحثاً متخصصاً محكوم بمنهج العلوم الاجتماعية، الذي لا ينتهي إلي مطلقات، لذا فإنه قد اصطفي من كل تعريفات الديمقراطية، ما يطلق عليه: »التعريف ذو التوجه العلمي للديمقراطية«، الذي يفترض أن الاشتغال الدائم للمشاركة الفعالة، بين أجهزة الحكم والمواطنين في العملية السياسية، يعد المعيار الملزم لإقامة الديمقراطية الحقيقية، وبغيابه تفقد الديمقراطية دلالة معناها. يدلل المتسائل علي ذلك بإمعانه النظر في واقع الديمقراطية بمجتمعاتها المتطورة، بحثاً عن استحقاقات الديمقراطية الحقيقية، التي تتجلي في تلازم المشاركة والأفكار المتناقضة للأحزاب، إذ في المشهد السياسي المتنوع، يتمتع المواطنون بالحق في الاختيار، لكن تستوقف المتسائل ظاهرة سائدة في المجتمعات الديمقراطية، تعم المنحي العام للمشهد السياسي، تتبدي في اختفاء التنوع والتناقض من نظام الأحزاب، إذ ليس هناك سوي تناقضات متشابهة، ويؤكد المتسائل أن إحدي الحقائق البارزة التي اضطلعت بمسئولية الانحراف إلي ذلك المفترق الذي جمح بالديمقراطية عن استحقاقاتها، تتحدد في أن الديمقراطية باتت بقبضة الأسواق، وبذلك تغير المشهد السياسي، وبتغيره تغيرت إمكانات أي بلد، إذ أصبح من غير الممكن لبلد ما أن ينتهج سياسة مغايرة، حتي لو كان ذلك خيار شعبه، ويعاود المتسائل ليطرح تساؤلاً جديداً: أليس هذا سبباً لما نشهده من تقدم للشعبوية اليمينية؟ تعددت تساؤلات باحث العلوم الاجتماعية البولندي »سلاومير سيركاوسكي«، الموجهة إلي المفكر الكندي الشهير »تشارلز تيلور«، التي جاءت في مجموعها تشخيصاً للخيبات المسببة لزوال حدود الديمقراطية، إذ يقرر الباحث أن العالم يشهد في ظل تلك الخيبات »شراء أسواق الرأسمالية لحياتنا، بما تخلقه من حاجات استهلاكية«، وغدا العالم تحت حكم تلك القولبة انه »لم يعد بحاجة إلي الديمقراطية«، كما لأنه لم تعد هناك بدائل واضحة، أو سياسة، أو مشاركة، أمسي مسيطراً علي الناس أمام هذا العجز هاجس الأمن الشخصي، لذا جري »تغليب الحفاظ علي الذات، والأمن الشخصي علي عامل المشاركة«، حتي تبدي الأمر بمثابة عودة إلي مبدأ »الإنسان علي أخيه ذئب ضار«. إن المفكر المتألق عالمياً »تشارلز تايلور« في رده علي سائله أبدي قناعته بأن الديمقراطية مازالت علي قيد الحياة باقية، مستخدماً لإقناع سائله، فكر المضاهاة بوصفه فكراً عقلانياً يعتمد علي مقارنة الأشباه والاختلافات، وذلك بأنه التقط من الأحداث الراهنة برهاناً يؤكد صحة قناعته، ليضاهي به ادعاء موت الديمقراطية بالحضور الفوري الطاغي للديمقراطية، وفقاً لتعريفها الجوهري بأنها تحقق وتحمي قدرة المواطنين علي تقرير مصيرهم، بغطاء كاسح من المشاركة، وذلك حين أشار إلي اللحظة التي قام فيها الشعب المصري باسترداد السلطة من حكامه السابقين في 52 يناير، التي أطلق عليها تايلور »مرحلة ميدان التحرير«، بوصفها مرحلة حاملة لمشهد رهان المضاهاة بحضور جوهر الديمقراطية، وسطوع المشاركة الشعبية الفاعلة، حيث كان يحركها كما يقرر تايلور فهمها الجيد للقضايا والتحديات الماثلة، كما يؤكد أيضاً أنه يمكن لهذه المرحلة أن تمتد، لكن التحدي الأبرز أمام الديمقراطية، هو أن تبقي ديمقراطية، بمعني أن تتطابق مع مفهومها، ولا تتناقض معه، اتساقاً مع منطلقاته، خاصة من ناحية نسبة المشاركة، حيث يعترف الرجل أن الديمقراطيات الغربية مازالت حاضرة، في حين أن نسبة المشاركة تسجل انخفاضاً ملحوظاً مقلقاً. لكن »تايلور« يحدد خطرين حقيقيين علي الديمقراطية، أولهما: تغذية الشعب بأنواع الأوهام جميعها التي تدفع إلي الفهم الخاطئ للمعضلات الفعلية، ويضرب مثلاً بحزب بالولايات المتحدة، يسمي »حزب الشاي«، حيث ثمة سلطة غواية بوهم مطلق يتحكم بأنصاره، يتبدي في شعورهم بانحدار حال بلادهم، لأنها لم تعد تملك القوة العظمي، وتتأسس عقيدتهم علي مبدأ أنه »يتحتم علينا العودة إلي قيمنا الأصلية«، وبذلك تمتنع رؤيتهم للأسباب الحقيقية لمشكلتهم، وأيضاً يتأكد عجزهم عن تصور الحلول اللازمة، ويشكل هذا الوهم الخطر الأكبر علي الديمقراطية، أما الخطر الثاني فيتبدي في غياب »التوتر الحيوي« بين الشعب وبقية الأطراف، الذي كان في الماضي وراء النقاش الفعلي الحاد بين أطراف المجتمع، بل كان السبب في ارتفاع نسبة المشاركة، وذلك ما يخلق الشعور بأهمية الاقتراع، وجدوي المواطنة. يقر »تايلور« بحقيقة أن الدفة تميل اليوم لصالح الأحزاب اليمينية الشعبوية، علي حساب الديمقراطية الاجتماعية، نتيجة تفتت الرؤية الجماعية لاهتمامات الناس، حتي أن ناخبي اليسار التقليديين يصوتون لهذه الأحزاب، كما يشير كذلك أنه في ظل الرأسمالية الاستهلاكية بأسواقها، انزلقت منها ظاهرة تسمي »المعلو-إمتاعية«، حيث يستهلك الناس المعلومات كأداة للتسلية. يعترف »تايلور« أننا لا يمكن أن حقق شيئاً دون الديمقراطية، فلابد من وجود سلطة سياسية تضمن الحقوق، وأنه إن لم نرقب تطور الأمور يصبح الوضع كارثياً، فقد تجرنا بعض المجموعات الصغيرة إلي حروب رهيبة، كما حدث بالعراق، أو نترك النظام يسير في اتجاه دون تضامن، فيمحي العقد الاجتماعي ويغرق كثيرون في البؤس. إنه من الوهم أن نتجاهل السياسة بهذه البساطة. تري أليس الرجل علي صواب حتي لا تختزل حياة الناس لتصبح سلعة للاستهلاك؟