حكم القيصر إيفان كان كل من ديمتري وفيرا شقيقين في صدر شبابهما, يعيشان مع أبيهما بيتر الذي يمتلك فندقا يتولي إدارته, يقع علي الطريق المؤدي إلي سجون سيبيريا. ولأن تصور الرجل كان قاصرا لذا لم ينتج معني ضرورة التواصل الاجتماعي في اتجاه التضامن والمشاركة مع الآخرين ممن حوله, وقبول المسئولية العامة تجاههم. بل أنتج معني وحيدا تجلي في مخاتلة الأحداث والحقائق, حتي لا يتحمل أية مسئولية في علاقته بالآخرين, مستهدفا الانفتاح علي الحسابات النفعية التي تحقق مصالحه الخاصة. ان هذا الموقف العاري من المنظور الاجتماعي, قد شكل لدي بيتر حالة من المصالحة السلبية في قبول الجور والمآسي الاجتماعية التي تصيب الآخرين, دون مشاعر إنسانية, واحساس بالمسئولية, استنادا إلي اقتناعه بنوع من السلام الضرير الذي يهجر المجتمع بأحواله, وينصرف عن البشر وما يصيبهم بترديد تسويغات خادعة, منها أن المرء لن يستطيع أن يحمل علي كتفه هموم الآخرين واعباءهم إضافة إلي متاعبه, وأيضا مقولته الدائمة ما شأني بهذا الموضوع؟ أنا لم أخلق العالم, فليرعه خالقه الكريم, وأبونا القيصر لكن ديمتري وفيرا لم يذعنا لرغبة أبيهما بتكرار أسلوب حياته, تطلعا إلي آفاق رؤية أوسع يصوغها الانخراط الواعي في مستويات الحياة الاجتماعية من حولهما, تفعيلا لخارطة المشاعر الإنسانية, والاحساس بالمسئولية العامة تجاه الآخرين. ان هذا الوعي قد استولدته أسئلة الواقع من حولهما, إذ كانت تتوقف عند فندقهما قوافل المعتقلين والسجناء من المعارضين لاستبداد القيصر, في طريقها إلي معسكرات موت الاحياء في سيبريا, فكانا يتأملان مسارات اهلاك البشر, عندئذ كانت تضج أسئلة الواقع: لماذا هذا المصير الفاجع والمعمم علي الناس؟ لماذا الاصرار علي جور الحقوق, والوأد لحرية الناس؟ لذا رفض ديمتري العمل مع أبيه في إدارة الفندق, أو اعتناق العدالة للجميع, في حين ظلت فيرا إلي جانب أبيها, لكنها اعتنقت منظومة قيم وأفكار تتمحور حول الحق والحرية التي تعني نقد المواقف وتغييرها, انطلاقا من المسئولية العامة, تطلعا إلي تحرير الواقع من حولها. ضاق الأب بتلك الآراء والاختيارات لابنائه واستنكف أنهم لا ينهجون نهجه في الحياة, فهو يؤكد أنه نجح في حياته بدون تلك الآراء, إذ المال عنده هو البديل لكل شيء. ويوما توقف فوج من السجناء عند الفندق, فرحب الأب بالكولونيل وجنوده, احتفاء بالعائد من الأموال, في حين راحت فيرا تطعم السجناء وتواسيهم, بوصفهم عشاقا للحرية عجزوا عن الحصول علي ما هو أفضل لمجتمعهم, وأصبحوا يتحملون ما هو أسوأ بضياع مصيرهم, وفجأة حملقت فيرا في شخص بينهم يخفي وجهه, فتعرفت فيه علي أخيها ديمتري فطلب إليها الا تخبر اباهما حرصا علي حياته وأخبرها أنه انضم إلي جماعة تتحزب لتحرير روسيا من قمع القيصر, وجنون استبداده, فتبرع لها بكل أموال تكاليف دراسته, وقد ألقت الشرطة القبض عليه, وسيذهبون به إلي قبر الاحياء في سيبريا, أصرت فيرا علي هروبه, وأن تحل مكانه, رفض ديمتري مشحونا بارادة من يعرف مصيره ولا يهابه لكنه شدد عليها أن تثأر له فأقسمت علي ذلك, ناولها ورقة بعنوان الجماعة في موسكو لتنضم إليها. تري هل كان ديمتري يدرك ان القيمة لا تتجسد إلا عندما يضحي الإنسان بحياته من أجلها؟ تهيأ الكولونيل للمغادرة فسلم كيسا من النقود إلي صاحب الفندق الذي راح يعد المال, لاهثا بشكره, لكنه فجأة لمح ابنه ديمتري خارجا من الباب وسط السجناء, فانهار الأب, وتعالت صرخاته تتساءل عن مصير ابنه, ووثب خارج قناعاته السابقة كافة, عارضا ان يشتري حريته بما يريدون, وراح يلقي بأموال الكولونيل علي الأرض, مستنزلا علي النظام الحاكم اللعنات والشتائم هل أدرك الأب معني ان ابنه دون أن تعميه مصالح شخصية ضحي بحياته لمواجهة سلطة مطلقة تبيح انتهاك حدود استحقاقات وطنه وحرية مواطنيه؟ لكي تنتقم فيرا التحقت بجماعة العدميين الذين يتأسس ميثاقهم علي أنه لكي يتمكنوا من حل التناقضات, فان عليهم التضحية بالبراءة والحياة, لذا جعلوا القتل مبدأ لهم, امتثلت فيرا وأقسمت بأن عليها ألا تحب أو تدع أحدا يحبها, الا تشفق علي أحد, ولا تطلب الشفقة من أحد ألا تتزوج ولا تدع أحدا يتزوجها حتي يأتي اليوم الموعود, ذلك لأن القيصر المطلق القوة يتصدي باصرار الجنون المتسلط رافضا مطالب الاصلاح من معارضيه, حتي بعد ان تعرض للاغتيال أكثر من مرة, وضاقت سجون روسيا بما وسعت, كما أصدر القيصر أوامره بأن يعرض علي الملأ عمليات اعدام معارضيه, في مشاهد درامية, ترويعا بالمصير المنتظر لأمثالهم, وأيضا أطلق سراح ابنه من محبسه الذي استمر فيه لمدة ستة أشهر, ليريه مشهد اعدام عدد من جماعة العدميين, ويبدو كأن كيان القيصر قد أفرغ من إنسانيته, وكذلك الأمراء من حوله, المهمومون بصنوف الملذات وبتفاصيلها, فهم يمثلون نظاما اجتماعيا مبهما, إذ يعلنون الازدراء للشعب ويرون أنه لا حقوق له, وان الرصاص هو استحقاقه, بل يؤكدون ان الديمقراطية الصحيحة هي أن يكون كل فرد فيها ارستقراطيا, وتتبدي مسوخ هذا النظام الشيطاني في مشاعر قادته, التي تطفح بغلو معقد يتجلي في أن يسير أحدهم بعربته في شوارع المدينة, ليري ملامح المقت وعلامات الكراهية نحوه, ترتسم علي وجه الناس, فيشعر بسلطته وبمكانته, بأنه رجل واحد ضد ملايين من البشر. كان ولي العهد يجادلهما بعمق قناعاته المناهضة للعنف والاستبداد, الحليفة للحياة الزاخرة بالديمقراطية والعدل, المنتصرة لاستحقاقات الشعب التي ينفيها القيصر والأمراء معا, فاكتسب كراهيتهم وارتاب علنا أبوه القيصر في أمره, لذا فإنه دوما ما كان يأمر بحبسه في سراديب القصر, لكنه كان يستطيع الهروب خارج القصر متخفيا. أتراه كان يبحث عن منهج يتبعه في مواجهتهم؟ ان جريمة هذا النظام المسخ تتحدد في ممارسة ذلك الطغيان الاجتماعي الذي أحال الحياة إلي قفر وجدب فغدا التنعم بالكراهية يلقي الدعم, وصار التنعم بالحب يقارب المستحيل, والشعور بالمسئولية العامة أصبح جرما يحاكم الناس عليه. هذه المهانة الجماعية التي تكرس للكراهية تصدت لها جماعة العدميين بمنشوراتها المروعة التي اخترقت مخدع القيصر, وقصور الأمراء, فأجج ذلك جنون القيصر وهياجه المستمر, وتعاظمت وحشيته وافراط قمعه, خاصة بعد أن أصبحت فيرا احدي قمم جماعة العدميين, بما أنجزته من اغتيالات لشخصيات نافذة فشكل وجودها هدفا مشتركا لملاحقتها من شرطة موسكو, وأوروبا كلها. صحيح أن سخطا شديدا كان لدي الناس, وأيضا لدي النخبة ضد القيصر ونظامه, لذا نجحت الهجمات التآمرية علي النظام من جماعة العدميين, لكن تري هل يمكن أن يكون ذلك ما شجع أليكسي ولي العهد علي الانضمام إلي العدميين, غير كاشف عن هويته, مدعيا أنه طالب بكلية الطب, ليواجه نظام أبيه القيصر بالتآمر عليه؟ صحيح أن القيود التي تحرم من الحب, تحرم الإنسان من أهم ما يميزه وهو الحق في الحب, وصحيح أن فيرا قد أقسمت علي عهد العدميين بألا تحب, لكن الصحيح أنها في لحظة أحست بالاستمتاع الحقيقي بفرحة الحب التي لا يعدلها أي بديل في الكون. لقد أحبت فيرا رفيقا لها من العدميين هو أليكسي ولي العهد المتخفي, حاولت ان تبعده عن الجماعة بتعليلات كثيرة, فلاقت منه إيمانا باستحقاقات الشعب, وكذلك حرصا مشوبا بغموض مشاعر مغزاها هو الحب, فراحت فيرا تقاوم ذلك الحب وتطارده حيث في داخلها يتعايش إلي جانبه ذلك القسم القيد. أتراها تستطيع مقاومة ذلك الحق والاستغناء عنه؟ اجتمع العدميون في مخبئهم يناقشون إعلان القيصر الأحكام العرفية, بإيعاز من الأمير بول رئيس الوزراء أحد أهم رءوس الفساد, حيث تتجلي تداعياتها في لجم تحركات العدميين وتعطيل خطط هجومهم, وفجأة يعلن أحد الرفقاء أنه اقتفي أثر أليكسي فاكتشف أنه دخل القصر القيصري بسهولة كأنه أحد سكانه, لذا فقد اتهمه بالتجسس علي الجماعة, فطالب الجميع بقتله, رفض أليكسي الاتهام الجائر, في حين راحت فيرا تدافع عنه بحرارة اليقين, وكأنها تحاول استبقاءه بعيدا عن القتل. تري أليس الحب هو ذلك الشعور الطاغي لدي المحب, بأن يحاول دوما أن يسعد من يحب؟ في أثناء نقاشهم اقتحمت الشرطة اجتماعهم, فوضع الجميع الأقنعة علي وجوههم, كأنهم ممثلون يتدربون علي أدوارهم. انتصب الجنرال مع جنوده موجها إليهم أمر القبض عليهم, فإذ بأليكسي يرفع القناع عن وجهه, كاشفا للجنرال عن هويته, فتراجع منحيا أمامه, مستمعا إلي تفسيره بأن تلك جماعة من الممثلين, وأن وجوده معهم أحد تجليات مغامراته المتكررة, فانصرف الجنرال بعد الاذن له انطوي الاتهام وتألق أليكسي إذ توج الحب علاقته بفيرا حين أسعدها بإنقاذها, عندما عاد أليكسي إلي القصر, واجه القيصر, ورئيس الوزراء الأمير بول معارضا الأحكام العرفية, مدافعا عن حق الشعب في حريته, فأعلن القيصر أن الشعب لا حقوق له, وانتفض صارخا مدافعا عن سلطته المطلقة, متسائلا كيف له أن يراجعه. اعترف أليكسي بأنه أحد العدميين المعارضين له, فأصدر القيصر أمرا باعتقاله, وأن يؤخذ إلي الساحة ليرموه بالرصاص متوعدا الشعب بعذابات ستحاصره ولن يطيقها واتجه إلي الشرفة, فإذ برصاصة ترديه أرضا ميتا. بعد أن توج أليكسي قيصرا نفي إلي فرنسا الأمير بول رئيس الوزراء المخطط لكل الخراب والشرور والكراهية, فإذ به يتصل بالعدميين, ويعرض عليهم أموالا لقتل القيصر أليكسي انتقاما مما فعله به, فتقبل الجماعة العدمية مطلبه وهي تعرف عن يقين دوره بالنسبة إليها لذا فان قبولها يجعلها وجها لوجه مع تناقضاتها. وتوكل الجماعة مهمة القتل إلي فيرا بأن تتسلل إلي القصر وتطعنه, وتلقي بالخنجر الملطخ بدمه من النافذة ليلتقطه العدميون المنتظرون وان لم تفعل فسوف يصعدون إليها لمساعدتها. ولأن الاشياء وحدها هي التي لا تمتلك طاقات محتملة, ولا انفعالات,. ولا ادراكا للحقوق, لذا فان فيرا عانت من جراء ذلك التكليف صراعا أثقل وجودها, فقد تسللت إلي القصر, والتقت أليكسي فتجلي في لقائهما فيض الحب الذي هو حق إنساني خاص, إذ لا يقدر أحد أن يحب بديلا عن أحد, أو يستشعر الحب نيابة عن أحد. طلب إليها أن تتزوجه فوافقت, وفجأة سمعت صيحات العدميين يطلبون اشارة قتلها له, فأخرجت خنجرها وطعنت نفسها, وألقت اليهم بالخنجر من النافذة ملطخا بدمائها لتنقذه, وعندما سألها أليكسي عما فعلته اجابته وهي تحتضر, أنها انقذت روسيا. أتراها أنقذتها من اغتيالاتها بنجاحها في استردادها إنسانيتها؟ لا خلاف أن أوسكار وايلد(6581 0091) في مسرحيته فيرا أو العدميون قد انطلق من القاعدة التي تؤكد أنه كلما ازدادت شدة شعور المواطنين بشأن جدارة نظامهم السياسي ومؤسساته, قل احتمال شعورهم بالثورة عليه, لذا فانه في مسرحيته ادان نظام الحكم الذي يستولد الكراهية في نفوس مواطنيه, ويشحذها بالافراط في اغتصاب استحقاقات الناس, وممارسة الوحشية والاستبداد, مستعذبا شذوذ الاستمتاع بتلك الكراهية لما تحققه من الاحساس بالتعالي المنفصل عن جموع الشعب, كما أدان أيضا جماعة العدميين لتعاليها علي الإنسان بانكارها المطلق للشفقة, والرحمة, والحب, وهو ما يعني الشر المحض الذي رهانه الانتقام, والمحكوم بايديولوجيا القتل المفتتن بالموت. لكن تري هل في القرن الحادي والعشرين, مازالت هناك أنظمة حكم تستولد كراهية مواطنيها, وتصر علي الاستمرار في السلطة, استعذابا واستمتاعا بتلك الكراهية, تعاليا علي جموع الشعب, مهما كان الثمن فاضحا وفادحا؟ المزيد من مقالات د.فوزي فهمي