سعر الفراخ فى أسواق المنوفية اليوم السبت 21-6-2025.. الفراخ البيضاء 82 جنيه    جامعة الدول العربية تدين العدوان الإسرائيلي على إيران وتدعو للتهدئة    قاض أمريكي يأمر بالإفراج عن الطالب الفلسطيني محمود خليل بعد اعتقاله 3 أشهر    هاري كين: نخوض كأس العالم للأندية في بيئة غير معتادة    ديمبلي يزف بشرى سارة لباريس سان جيرمان قبل مواجهة سياتل ساوندرز    النشرة المرورية.. سيولة وانتظام بحركة السيارات في القاهرة والجيزة    خبير تربوى يوجه نصائح لطلاب الثانوية العامة لتحقيق التفوق بامتحان العربى    ربة منزل تقفز برضيعتها من الطابق الأول بسبب مشادة كلامية مع شقيق زوجها بسوهاج    إعلام إيراني: مقتل 15 ضابطا وجنديا من قوات الدفاع الجوي منذ بدء الحرب مع إسرائيل    عبد العاطي: التبادل التجاري بين مصر وتركيا بلغ 9 مليارات دولار عام 2024    قبل فتح باب الترشح.. اعرف المستندات المطلوبة للترشح لانتخابات مجلس النواب    «الأرصاد» تعلن حالة الطقس غدًا الأحد 22 يونيو| إنفوجراف    انطلاق امتحان الكيمياء لطلاب الثانوية الأزهرية الشعبة العلمية بكفر الشيخ    انخفاض سعر الذهب اليوم في مصر ببداية تعاملات السبت    أنشطة معهد الأورام في اليوم العالمي للتوعية بأمراض الدم    دفعة جديدة من أطباء المعاهد التعليمية تصل مستشفى الشيخ زويد المركزي    تعرف على مصروفات المدارس لجميع المراحل بالعام الدراسي الجديد 2025/2026    بوتين يلتقي أمين عام منظمة «أوبك»    انقطاع المياه اليوم ل12 ساعة عن هذه المناطق    موعد مباراة إنتر ميلان ضد أوراوا ريد دياموندز في كأس العالم للأندية    آسر ياسين.. سفاح السينما والدراما    «الكتاب الإلكتروني».. المتهم الأول في أزمة القراءة    أسعار الحديد والأسمنت اليوم السبت 21-6-2025 بعد تجاوز الطن 37 ألف جنيه    الخريطة الكاملة ل الإجازات الرسمية المتبقية في مصر 2025 بعد إجازة رأس السنة الهجرية    سلاح ذو حدين| وراء كل فتنة.. «سوشيال ميديا»    بسبب الإصابة.. استبعاد حسن كادش من معسكر المنتخب السعودي في الكأس الذهبية    طريقة عمل البليلة باللبن في خطوات بسيطة    جيش الاحتلال يعتدي ضربا على 6 فلسطينيين بينهم سيدة في الضفة    روبي تتألق في إطلالة مبهرة قبل صعود حفل افتتاح موازين    كشف كواليس سقوط طفلة من الطابق الثالث بالجيزة    مؤمن سليمان يقود الشرطة للتتويج بالدوري العراقي    ترامب عبر "تروث": سد النهضة الإثيوبي تم تمويله بغباء من الولايات المتحدة    «وحش ويستحق الانتقاد».. إسلام الشاطر يشن هجومًا لاذعًا على محمد هاني    نائب الرئيس الأمريكى: الوقت بدأ ينفد أمام الحلول الدبلوماسية بشأن إيران    حكم صيام رأس السنة الهجرية.. دار الإفتاء توضح    «الصدمة الأولى كانت كريم وابنه».. «أحمد» يروي ما حدث في شارع الموت بمنطقة حدائق القبة    ترامب عن سد النهضة: بُني بتمويل غبي من الولايات المتحدة    كروفورد عن نزال القرن: "في 13 سبتمبر سأخرج منتصرا"    رغم فوائدها الصحية.. ما هي أبرز الأسباب التي تمنع الولادة الطبيعية؟    تفاصيل جديدة في واقعة العثور على جثة طبيب داخل شقته بطنطا    رسميًا.. موعد صرف معاشات شهر يوليو 2025 بالزيادة الجديدة.. هل تم تبكيرها؟    تقدم ملموس في الوضع المادي والاجتماعي.. توقعات برج العقرب اليوم 21 يونيو    منظمة حقوقية تكشف أحدث حصيلة لضحايا إيران من ضربات إسرائيل    جيش الاحتلال: اعتراض طائرة مسيرة فى شمال إسرائيل تم إطلاقها من إيران    بعد زيادته رسميًا.. سعر الدولار مقابل الجنيه المصري اليوم السبت 21 يونيو 2025    حدث في الفن| القبض على فنانة بتهمة حيازة المخدرات ورقص منى إش إش    بالصور- خطوبة مينا أبو الدهب نجم "ولاد الشمس"    القنوات الناقلة مباشر لمباراة بايرن ضد بوكا جونيورز في كأس العالم للأندية.. والمعلق    تكليف مهم من نقيب المحاميين للنقابات الفرعية بشأن رسوم التقاضي    وفاة رئيس لجنة امتحانات الثانوية بسوهاج في حادث.. وتحرك عاجل من نقابة المعلمين    الدفاعات الجوية الإيرانية تعترض صواريخ إسرائيلية فوق مدينة مشهد (فيديو)    ترامب يمهل إيران أسبوعين للتوصل إلى اتفاق بشأن برنامجها النووي    "أعملك إيه حيرتنى".. جمهور استوديو "معكم" يتفاعل مع نجل حسن الأسمر "فيديو"    منها المساعدة في فقدان الوزن.. لماذا يجب اعتماد جوزة الطيب في نظامك الغذائي؟    خطيب الجامع الأزهر: الإيمان الصادق والوحدة سبيل عزة الأمة الإسلامية وريادتها    أسرار استجابة دعاء يوم الجمعة وساعة الإجابة.. هذه أفضل السنن    حسن الخاتمه.. مسن يتوفي في صلاة الفجر بالمحلة الكبرى    الإسلام والانتماء.. كيف يجتمع حب الدين والوطن؟    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



صائد الرءوس‏!!‏
نشر في الأهرام اليومي يوم 12 - 07 - 2010

وضع أمامي رأسا بشريا في حجم الكف‏,‏ انتابتني رعدة اكتسحت وجودي‏,‏ لكن صديق سنوات بعثتي شرح لي ندرة هديته التي اختصني بها‏,‏ تقديرا لعلاقتنا بمناسبة رحيله الي وطنه الأكوادور‏ ثم استرسل في الكشف عن كيفية اعداد الرأس البشري حتي يصل الي هذا الحجم الصغير‏,‏ ومع ذلك عكست تعبيراتي الامتناع عن القول والفهم‏.‏ لم أبرأ من حالتي الا عندما تخلصت من ذلك الرأس‏.‏
لكنني بعد ذلك حاولت الفهم من صديقي‏,‏ وفق أي مشروعية تجري ممارسة اغتيال صاحب الرأس واقتنائه أفصح الصديق أن الاستباحة قد شرعتها ثقافة قبائل الأمازون في أمريكا اللاتينية من قديم الزمان‏,‏ حيث خولت لهم اقتناص الرءوس في صراعهم من اجل امتلاك القدرات الروحية والجسدية لأصحابها‏,‏ فالرأس المقطوع فور اقتنائه‏,‏ يصبح دلالة احتكار مالكه واستحواذه علي طاقات صاحبه وقدراته‏.‏
وأشار الصديق موضحا انه بتأثير مرور الزمن شحب الاعتقاد في تواصل قدرات صاحب الرأس المقطوع‏,‏ بل بعد ذلك خضعت عملية اقتناص الرءوس لمنطق التجارة‏,‏ وغدت سلعة رائجة‏,‏ يتهافت الأجانب الوافدون علي شرائها بالنقود‏,‏ او المقايضة عليها بالسلاح‏,‏ ثم كشف الصديق عن انه سادت صناعة موازية‏,‏ تتخذ من جلود الحيوانات مادة لصياغة رءوس تشبه البشر لتباع للسياح‏,‏ لكنه اقر مقسما ان الرأس الذي اهداه الي‏,‏ رأس بشري حقيقي ورثه عن أجداده‏.‏ تري كيف تحررت بعض القبائل من قيود المعهود‏,‏ واكتشفت بطلانه؟ هل أدركوا ان الموت يضع حدا لكل الحدود‏,‏ أو تري ان ثمة مؤثرات متلاحقة متزاحمة بددت ذلك الاعتقاد؟‏!‏
مرت سنوات العمر‏,‏ ولم يمت من ذاكرتي مشهد الرأس البشري المخيف‏,‏ لكنه انطلق فجأة‏,‏ فارضا استعادة معايشة رنين تلك التجربة الانفعالية الخاصة الماضية‏,‏ وذلك في أثناء متابعتي لسرد يحكي عن المغامر تايلور‏,‏ أحد مواطني الولايات المتحدة التي غادرها‏,‏ ثم ظهر للمرة الاولي في أمريكا اللاتينية في إقليم الأمازون عام‏1944,‏ ليعيش بين احدي القبائل الهندية البائسة‏,‏ وقد تبدي من مظهره فقره‏,‏ وكأنه تكرار لحال القبيلة ينفي أي مغايرة بينهما‏,‏ ويؤكد تشابهما‏,‏ حتي ان الأطفال راحوا يطلقون عليه الامريكي الشمالي الفقير‏,‏ لكن المسئولين كانوا يعاملونه باحترام‏,‏ تجنبا لأي مشكلات مع دولته‏,‏ اما تايلور فقد كان لايبدي أي مضايقة من فقره‏,‏ مبررا ذلك بأنه قد قرأ في احد اهم مراجعه التأسيسية‏,‏ انه ليس من العار ان تكون فقيرا‏,‏ مادمت لاتحقد علي الأغنياء‏.‏ خرج تايلور يوما الي الغابة‏,‏ وإذ فجأة قد انتصب في مواجهته قفزا‏,‏ احد سكان الغابة‏,‏ وصاح بالإنجليزية‏:‏ هل تشتري رأسا؟‏,‏ ثم أظهر له الرأس البشري الذي يحمله بين يديه‏,‏ عارضا بيعه‏,‏ عطل ذلك الاختراق المفاجئ استيعاب كل منهما لاستقبال الآخر‏,‏ فتخلخل الموقف‏,‏ وفقد إمكانات تطويره‏.‏ ارتبك الهندي وانزعج‏,‏ وفي محاولة للتنصل من الموقف‏,‏ قدم الرأس البشري هدية الي مستر تايلور‏,‏ وانصرف معتذرا‏.‏ حمل تايلور هديته فرحا‏,‏ وعاد الي كوخه‏,‏ وراح يتأمل الرأس البشري باستمتاع‏,‏ محدقا في اللحية‏,‏ والشارب‏,‏ والعينين‏,‏ حيث تبدتا له تتبسمان وتشكرانه علي احتفائه‏.‏ صحيح ان تايلور يتمتع بثقافة واسعة‏,‏ تدفعه الي التأمل والتفكير الرفيع‏,‏ لكن الصحيح ان ثقافته في هذا الموقف قد انهزمت وكأن ثمة انفصاما ذاتيا قد أزاح ثقافته بعيدا‏,‏ إذ راح يفكر في المصالح سواء اكانت صغيرة أم كبيرة التي ستعود اليه من وراء استثمار حيازته لهذا الرأس البشري‏,‏ فقرر ان يهدي الرأس البشري الي خاله‏,‏ مستر رولستون‏,‏ المقيم في نيويورك‏,‏ الذي يتجلي هوسه امام كل مايتعلق بشعوب أمريكا اللاتينية‏.‏
بعد وصول الرأس البشري بأيام قليلة الي نيويورك‏,‏ جاءت الي تايلور رسالة من خاله‏,‏ يطلب فيها خمسة رءوس بشرية‏,‏ واستجاب تايلور بإرسالها‏,‏ ثم عاود الخال طلب عشرة رءوس اخري‏,‏ ولم يمض شهر حتي أرسل يطلب عشرين رأسا بشريا جديدا‏,‏ صحيح ان توالي هذه الطلبات يعني التهديد الدائم للبشر الأحياء في الغابة بالانقراض المحتوم‏,‏ لكن الصحيح من جانب آخر أنها تفرض ضرورة السعي الي مضاعفة قدرات تايلور الفعلية لتصبح قوة مسيطرة قاهرة‏,‏ وهو مايصيب الحقوق الإنسانية لسكان الغابة في الصميم‏,‏ بتأثير هذا الاستثمار غير المسئول‏,‏ الذي أسس له تايلور وخاله رولستون شركة‏,‏ التزم فيها طرفها الاول بجمع الرءوس البشرية وإرسالها الي نيويورك‏,‏ والتزم طرفها الثاني ببيعها هناك بأغلي سعر يمكنه الحصول عليه‏.‏ شهدت الأيام الاولي لنشاط الشركة‏,‏ أشكالا من المعارضة تصدي لها بعض الأهالي‏,‏ رفضا لذلك العنف العاري والمضاد لحياة الناس‏,‏ لكن تايلور الذي يحوز دعم بلده وتقديره‏,‏ وبقدراته السياسية الانتهازية‏,‏ راح يشحن خطاب تبريره دفاعا عن هذه التجارة بالتبشير‏,‏ بأنها ستقضي علي الفقر‏,‏ والرثاثة الاجتماعية‏,‏ وتجلب الرخاء للمواطنين كلهم في وقت قصير‏,‏ واستطاع بذلك الاستبراء من بشاعة مشروعه وانحرافه‏,‏ ان يحصل علي إذن التصدير اللازم للرءوس البشرية‏,‏ وحصل ايضا علي امتياز به لمدة تسعة وتسعين عاما احتكارا‏.‏ صحيح ان الشر صار مواجها للناس بوصفه حربا غير معلنة علي حياتهم‏,‏ ومستقبل وطنهم‏,‏ لكن الصحيح كذلك ان تايلور صانع الشر راح يوارب ويناور بكل الأقنعة لترويج مشروعة بمساعدة أطراف وقوي‏,‏ مورطا الجميع بالوقوع في شباكه بالخديعة‏,‏ إذ صدر بيان حكومي يلزم الشعب بالإسراع في انتاج الرءوس البشرية‏,‏ ثم تعالت اصوات تتنطع بالديمقراطية تحقيقا للمساواة‏,‏ بدعوي حق جميع المواطنين في اقتناء تلك الرءوس‏,‏ وأقبل الناس علي الاقتناء بإغراءات المستقبل‏,‏ أو تقيدا ببعض المنافع‏.‏
ظهرت دلالات تعرقل استمرار مشروع الموت من أجل الثراء‏,‏ تجلت في أن الموتي ميتة طبيعية باتوا أقل مما تتطلبه حاجات السوق‏,‏ لذا اتخذت اجراءات لتعويض هذه الخسارة‏,‏ فجري تعديل قانون العقوبات‏,‏ حيث اصبحت عقوبة الاعدام شنقا او رميا بالرصاص عقوبة موحدة‏,‏ لكل انواع الجرائم‏,‏ من أكبرها حتي اقلها شأنا‏,‏ حيث تحصل الشركة علي رأس المحكوم عليه‏.‏ وعلي جانب اخر‏,‏ وضعت مصفوفة محرضات اجرائية فاعلة‏,‏ لتسريع الموت كخيار وحيد أمام المرضي‏,‏ اذ لايعالج المصابون بأمراض خطيرة‏,‏ ويمنحون مهلة اربعا وعشرين ساعة لترتيب احوالهم‏,‏ ثم يموتون بعد ذلك‏,‏ أما اذا استطاعوا نقل العدوي الي اسرهم‏,‏ فإنهم يمنحون مهلة قد تصل الي شهر‏,‏ في حين ان مرضي الوعكات الصحية والأمراض الخفيفة‏,‏ يستحقون احتقار الوطن لهم‏,‏ والبصق في وجوههم لرفضهم الموت وعدم التضحية من أجل مجد وطنهم‏.‏ صحيح أنه في ظل تزايد نشاط مشروع الموت من أجل الثراء‏,‏ اتسع المجال لأعمال مكملة له‏,‏ مثل صناعة التوابيت التي ازدهرت بفضل المعونة الفنية التي قدمتها الشركة‏,‏ لكن الصحيح كذلك ان الشركة قد احكمت سيطرتها علي ادارة شئون الموت بالمدينة‏,‏ بديلا عن تنمية تدعم استحقاقات الناس في الحياة والعدالة‏,‏ بوصفها واقعا يوميا إجرائيا‏,‏ يمارسه المجتمع ليقود به حياة الناس وتصرفاتهم‏,‏ ويحكمه في ذلك وازع أخلاقي‏,‏ يحرص علي قداسة القيم‏,‏ تحقيقا للخير العام والإنصاف‏.‏ لكن تايلور الذي من مصادر مشروع الموت المجاني للناس وموارده‏,‏ استطاع ان يصبح من أصحاب الملايين التي تدر عليه ملايين أخري‏,‏ لم يؤرقه ذلك الفراغ الأخلاقي‏,‏ واستغيابه لضميره عن إدراك مسئولية حصد مصائر الناس‏,‏ مبررا ذلك بأنه قرأ في أهم مراجعه التأسيسية‏,‏ أنه ليس من العار أن تكون مليونيرا‏,‏ مادمت لاتحتقر الفقراء‏.‏ تري أي وقاحة تلك التي تتعري‏,‏ وتمارس الكذب الفاضح لتستجلب الثراء الفردي علي حساب الاتجار في البشر بإهلاكهم الشامل دون الإحساس بالعار؟
بلغ نجاح شركة مشروع الموت انه لم يصبح من المتبقين مع تايلور‏.‏ سوي بعض أعوانه من المسئولين والصحفيين وزوجاتهم‏.‏ ولأن تايلور يكره الخسارة‏,‏ حيث أصابة هوس الثراء‏,‏ ولأن انتهاء الآخر يعني له استحالة الثراء‏,‏ لذا كان العلاج الوحيد الممكن امامه هو ان يشن حربا علي القبائل المجاورة‏,‏ فقصفت مدافعه القبيلة الأولي‏,‏ فاستسلمت‏,‏ وقطعت رءوسها بمهارة نادرة خلال ثلاثة أشهر‏,‏ وتبعتها الثانية حتي القبيلة الخامسة‏,‏ وتسارعت الثروات من جديد‏,‏ لكن صار مستحيلا العثور علي قبائل مجاورة لشن الحرب عليها‏,‏ وإذ بالواقع يفصح عمليا عن الحالة المتنبأ بها عقليا‏,‏ نتيجة مشروع الموت الجماعي الذي داهم واقتنص استحقاقات الناس في الحياة‏,‏ وأعفي نفسه من تحمل مسئولية لاعقلانية تلك الجرائم المرعبة‏,‏ فقد تجلت حالة المدينة تعكس الوجه التدميري للمشروع‏,‏ فقد دب الذبول والعطب في كل شيء‏,‏ وتدهورت الأوضاع‏,‏ وازدادت سوءا‏,‏ وانحسر الحلم الواعد بالخير العام الذي روج له تايلور للقضاء علي الفقر للجميع‏,‏ وانعدمت أي آفاق في مدينة أجساد مواطنيها ملقاة بلا رءوس‏.‏ وعلي الجانب الآخر‏,‏ فإن وطن تايلور قد تزايدت بإلحاح طلباته من الرءوس اللاتينية المقطوعة‏,‏ وفي ضوء الاعتذارات التي لم تصدق‏,‏ باتت الشركة معرضة لانهيار مفاجئ‏.‏ وفي أثناء عودة رولستون من البورصة في نيويورك مذهولا من الصراخ ورعب المساهمين‏,‏ قرر ان يرمي بنفسه من النافذة‏,‏ ثم عند فتحه الطرد الذي وصل اليه بالبريد‏,‏ إذ يطالعه وجه تايلور المقطوع في ابتسامة خادعة‏,‏ وكأنه يقول‏:‏ سامحني‏,‏ لن اعود الي فعل ذلك مرة أخري‏.‏
إن الأدب والفن بفضل خصائص صياغتهما يجعلانك تقترب وتعايش كل ماتنفر منه في واقعك‏,‏ لذا فإنني لم أتخلص من قصة المغامر الامريكي‏,‏ التي بعنوان مستر تايلور‏,‏ للكاتب الجواتيمالي الجنسية‏,‏ والمكسيكي الإقامة أوجستو مونتيروسو‏(1921‏ 2003),‏ التي يطرح فيها علاقة الولايات المتحدة بأمريكا اللاتينية‏,‏ من خلال لاعب جديد تجسد في الشركات المتجاوزة للحدود‏,‏ التي تمثلها في قصته شركة تصدير الرءوس البشرية‏,‏ إذ كشف المؤلف ان الشركة الأمريكية قد عرت زيف ثقافة أصحابها‏,‏ عندما تخلت عن رشدها بممارسة الخروقات والانتهاكات لحقوق الإنسان‏,‏ وداستها بالأقدام‏,‏ وتجاوزت القيمة الجوهرية للإنسان وأبطلتها‏,‏ وألحقت بها الزوال‏,‏ واختزلت الإنسان وأحالته الي سلعة تجارية تخضع لتنافس الأسعار في أسواق بلا قيود‏,‏ بالمخالفة لمنطلقات كل الأديان والقيم‏,‏ وأدارت نوعا من الفوضي لا علاقة له بأي معايير‏,‏ استنفرت من خلاله الناس بعضهم ضد بعض للحصول علي الرءوس‏,‏ ودغدغت آمالهم‏,‏ وتلاعبت بهم‏,‏ وأضفت الشرعية علي العنف ودعمته‏,‏ لتحقق إبادة جماعية مبرمجة ضمن دوائر متعددة‏,‏ تحت مظلة مريبة ومثيرة في سياق غياب العدو المعلن‏,‏ إذ لم يكن لدي الشركة جنود أكفاء‏,‏ بل وظفت أسلحة المال إغراء وإفسادا‏,‏ فحذفت المستقبل واغتالته من خريطة وجود الناس في وطنهم‏.‏
لقد أدان الكاتب ايضا بعض النخبة التي عجزت عن تصور الخطر الاجتماعي الكامن في ممارسات الشركة‏,‏ او تلك التي انخدعت بزيف شعاراتها التي تخفي بها اهدافها‏,‏ او التي تهافتت امام اغراءاتها‏,‏ او من خضعت لغيرها من آليات الاستقطاب التي تشكل شبكة اختراق للحدود‏,‏ بالتدخلات‏,‏ والمخططات واختلاق الصراعات‏,‏ والتخاصمات تسويغا لوجود تلك المشاريع التسلطية بقوة مصالحها المهيمنة‏.‏ تري هل ذلك رهان الشركات القوية‏,‏ وممثلي المصالح‏,‏ الذين يسيطرون علي سياسة الولايات المتحدة لحماية مصالحهم‏,‏ كما يؤكد نعوم تشوموسكي‏,‏ في كتابه آمال وتوقعات الصادر عام‏2010‏ ؟‏.‏
المزيد من مقالات د.فوزي فهمي


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.