صحيح ان الفقر ينتج الصراع والصراع ينتج الفقر، وصحيح أيضاً ان الصراعات الأهلية والدينية بوصفها عنفاً جماعياً تشكل الخطأ الأوسع والأخطر تشويهاً لمعطيات الاحساس بالوطن والعيش المشترك والأشد تخريباً لبنية الدولة الوطنية اجتماعياً، واقتصادياً، وسياسياً، لكن الصحيح كذلك ان ظاهرتي الفقر، وعموم صراعات العنف الداخلية في المجتمع، تشكلان التحدي الاكبر لمفهوم الدولة من حيث جدارة مسئوليتها وعدالتها، وفعالية سياساتها في مواجهة مخاطر تلك الظاهرتين، فإما ان تكون سياسات إيجابية لصالح مجتمعها، وإما ان تكون سياسات ذات توجه سلطوي فاسد ومستتر، لنظام يبتلع الموارد والثروات العامة لصالح نخبته، ويمارس بالنسبة الي الفقراء بعض التدابير الشعبية القاصرة والمؤقتة، المرتبطة بأريحية السلطة الحاكمة وإنعامها في بقاء هذه التدابير أو إلغائها وعلي الجانب الاخر تظل سلطة إدارة الشأن العام حكراً علي نخبة تمارس كل أنواع النهب المستتر، والهيمنة، والقهر، وإقصاء الحقوق بدكتاتورية متوارية مغلفة بوهم الحرية لمحاصرة وعي الناس، تتبدي في خطاب علني، يطرح افتراضات مبدئية عن الديمقراطية، والعدالة الاجتماعية، وحقوق المواطنة، لا يختلف عليها من حيث المبدأ، أو يشكك في مصداقيتها أحد وبالتمدد العنكبوتي لهذه النخبة الحاكمة، وسيطرتها بالتزوير علي مؤسسات التشريع، تقوض الضبط القانوني لممارساتها، وتتلاعب بمساحة الانتظار لتفعيل ما طرحته في خطابها المعلن عملياً، بل تواصل تمديدها حتي يتبدي المستقبل المأمول من الناس مخفياً في دهاليز شبكة أخطبوطية تتستر علي مخططاتها، تحتمي بقوتها الأمنية المهيمنة، ولا تكترث بالاستخدام الكفء للسياسات التي تؤمن السلام الاجتماعي بمستوياته المتعددة، بل تترك ساحاته خالية، إلغاء لعالم الناس وحقوقها برهانا علي الهيمنة المتسلطة، عندئذ يكون هذا النظام السلطوي قد ألغي مبدأ اجتماعية الحق، باغتصابه حقوق المجتمع، وإبطاله فعالية مبدأ المواطنة، باستبعاد الفقراء وإقصائهم عن استحقاقاتهم، وتهمشيهم بتركهم يواجهون مصيرهم بأنفسهم دون تمكين من حقوقهم، وعندما تغيب الحقوق، تغيب الديمقراطية، وتنغلق أبوابها، لأن الحقوق هي التي تنظم مشروعية الديمقراطية وضمانة وجودها. هناك سؤال يطرح عن علاقة الديمقراطية بالفقر، انطلاقا من أن القضاء علي الفقر أكبر تحد يواجه الديمقراطية لكن أياً ما كان هدف السؤال فإن الحضور القوي لفكرة ان مشكلات المجتمعات لا تستطيع ان تجد حلولاً فعالة إلا في انفتاح الحوار والتداول النشط، والمشاركة، والثقة، والالتزام بالمسئولية المجتمعية ولأن الديمقراطية تشكل اعتراضاً منهجياً جذرياً علي اي نظام سلطوي متسلط، يغيب الحقوق، ولا يعيش من اجل السياسة، بل يعيش علي حساب السياسة نهباً لاستحقاقات المجتمع، لذا فإن أي استقصاء للمحللين عن مدي إيجابية العلاقة بين الديمقراطية والفقر، تتبدي كثيرة ومتنوعة، نذكر منها علي سبيل المثال، الدراسة الشهيرة للمفكر الهندي الحاصل علي جائزة نوبل »أمارتيا سن«، التي بعنوان »الديمقراطية: الحل الوحيد للفقر« وكذلك الباحث الاقتصادي الأمريكي »جي آر. ماندل« في دراسته »العولمة والفقراء« ومع أنه يتخذ موقفاً منحازاً الي العولمة، فإنه في النهاية أقر ان النمو وحده لا يؤمن العدل، وان التضامن الحقيقي مع الفقراء يتطلب إدراك ان العدالة والنمو أمران ضروريان إذا ما كان السؤال يشير الي سخرية مضللة، فإن هناك أسئلة تواجهه، تطرح تحديات تشكل معايير مستهدفة: هل في ظل نظام قمعي نهاب للحقوق، يمكن ان تسمع مطالبات الناس بحقوقهم؟ تري في ظل أي نظام سياسي يمكن ان تتحقق العدالة وضماناتها؟ تري كيف يمكن زيادة النمو الاقتصادي دون مشاركة كل طاقات المجتمع؟ إن الديمقراطية ليست منهج إدارة سياسية فحسب، بل تستهدف التغيير الاجتماعي تحقيقاً لعدالة الاستحقاق لمجتمعها، بالتصدي لمتفاوتات الحقوق بين المواطنين، درأ لتصدع التلاحم الاجتماعي، وفتحا لتعددية الفاعلين الاجتماعيين والسياسيين دون إقصاء أو استبعاد.