لا تشعر بغربة في شوارع أثينا.. كأنك تسير في الإسكندرية التي يعرفها جيلي. بل إنك تحس بألفة للوجوه، والمباني، والمقاهي، والصخب، واشجار البرتقال، وتشتم عبق ثاني أقدم حضارات العالم، آتيا من «الاكروبوليس» الرابض علي قمة جبل، مثلما يملؤك عطر أقدم الحضارات قاطبة بين جدران معابد الأقصر وأسوان الجو هنا صحو، سماء صافية، وهواء منعش به لفحة برودة خفيفة، والشمس ترسل أشعة دافئة، كمشاعر المودة الصادقة التي استقبل بها الرئيس عبدالفتاح السيسي والوفد رفيع المستوي المرافق له منذ وصوله إلي العاصمة اليونانية ظهر أمس الأول. هذه هي الزيارة الأولي للرئيس السيسي إلي اليونان. لكنه ليس اللقاء الأول الذي يجمعه مع اليكسيس تسيبراس رئيس وزرائها «رئيس السلطة التنفيذية»، أو يجمعه بالرئيس القبرصي نيكوس انستاسيادس الذي حل ضيفا علي أثينا في نفس اليوم، وليس أيضا اللقاء الأول الذي يجمع بين القادة الثلاثة في قمة واحدة. في نوفمبر من العام الماضي، استضافت القاهرة أول قمة ثلاثية بين قادة الدول الثلاث، وجري الاتفاق علي ان تعقد هذه القمة دوريا كل 6 أشهر في واحدة من عواصم دولها. العاصمة القبرصيةنيقوسيا، كانت مقر القمة الثانية، في نهاية إبريل الماضي. وبعد عام وبضعة أيام من تدشين هذا المحفل الثلاثي علي مستوي القادة، التأمت القمة الثالثة أمس في أثينا. *** زيارة الرئيس السيسي لأثينا لها أكثر من بُعد بُعد ثنائي تركز علي العلاقات المصرية اليونانية وكان مجاله لقاءات وجلسات مباحثات استغرقت اليوم الأول من زيارة الرئيس لأثينا وشملت لقاء مع الرئيس اليوناني بروكوبيوس بافلو بولوس وجلسة موسعة امتدت علي مأدبة غداء، ثم جلستين من المباحثات مع رئيس الوزراء تسيبراس ولقاء مشتركا لهما بمنتدي الاعمال المصري اليوناني اعقبه مأدبة عشاء ثم امتدت اللقاءات في اليوم الثاني باجتماع مع وزير الدفاع اليوناني بانوس كامينوس لتختتم صباح اليوم بلقاء مع فانجيليس ميماراكيس رئيس البرلمان. بُعد ثنائي آخر للزيارة هو العلاقات المصرية القبرصية، وجري التباحث فيها في اللقاء الذي عقد صباح أمس بين الرئيس السيسي والرئيس القبرصي نيكوس انستاسيادس. البعُد الثالث للزيارة، كان القمة الثلاثية التي جمعت قادة الدول الثلاث، وأعقبها مؤتمر صحفي مشترك لهم، وإصدار إعلان أثينا عن نتائج القمة. *** ثمة تقدير لدور مصر وعلاقاتها التاريخية باليونان وإعجاب بما أنجزه الرئيس عبدالفتاح السيسي في غضون 18 شهرا من توليه المسئولية في مصر، عبر عنها بوضوح الرئيس اليوناني ورئيس الوزراء سواء أثناء المباحثات أو في المؤتمر الصحفي الثنائي للسيسي وتسيبراس أو في كلمة رئيس الوزراء اليوناني أمام رجال أعمال من البلدين. حرص الرئيس اليوناني في لقائه بالرئيس السيسي علي ان ينوه بالدور الذي تقوم به مصر في شرق البحر المتوسط والشرق الاوسط كركيزة للأمن والاستقرار، وسعيها لتسوية النزاعات في هذه المنطقة. وأبدي إعجابه بإنجاز مشروع قناة السويس الجديدة في زمن قياسي بأياد وموارد مصرية، وكذلك بالاجراءات التي اتخذت في مجال الاستثمار في مصر والفرص الواعدة بالسوق المصرية. كان رئيس الوزراء أكثر تفصيلا قال ان مصر تقوم بدور جوهري في مكافحة الإرهاب الذي يهدد المنطقة ودول العالم، وأنها في ذات الوقت قدمت هدية للعالم بأسره، عندما افتتحت مشروعها الضخم وهو قناة السويس الجديدة في أقل من عام الذي يفتح المجال لتعاون غير محدود بين مصر واليونان في مجال التجارة والاستثمار بمنطقة تنمية القناة وحركة الملاحة والنقل البحري. واشاد بالتطورات الإيجابية التي حققتها مصر علي الصعيد الاقتصادي برفع معدل النمو إلي 4٫1٪ في العام المالي السابق، وتوقع زيادته الي 5٫2٪ في العام الجديد. وقال ان هذه المؤشرات تبشر بجر اقتصادات أخري في المنطقة ومنها الاقتصاد اليوناني إلي مسار النمو في وقت قريب. وتساءل رئيس الوزراء اليوناني وهو يرد علي اسئلة الصحفيين في المؤتمر الصحفي قائلا: تخيلوا ماذا كان سيحدث لنا ولأوروبا، لو كانت مصر غير مستقرة؟ وجاءت الإجابة علي لسان السيسي: مشكلة اللاجئين الآن حجمها عدة مئات من الآلاف، وتصوروا ماذا كان سيحدث لو لم يكن هناك أمن واستقرار في مصر، كم من التسعين مليوناً كانوا سيتحولون إلي لاجئين؟! وعندما سئل تسيبراس عما إذا كانت اليونان تمثل جسراً لمصر إلي الاتحاد الاوروبي.. أجاب بدبلوماسية: إن مصر لا تحتاج لأي جسر إلي أوروبا، فلديها علاقات ممتازة مع معظم دولها. غير أن السيسي رد بوضوح وصراحة: نحن لا ننسي دور اليونان وكذلك قبرص وايطاليا في أعقاب ثورة 30 يونيو، فلم تكن هناك نظرة إيجابية من جانب الاتحاد الأوروبي ولا معرفة بحقيقة ما جري. وكانت الدول الثلاث هي صوت مصر المسموع في أوروبا لشرح ما حدث وما يحدث، وكان لهذا دور كبير في تفهم أوروبا فيما بعد للحقائق. *** علي أن أخطر ما أثاره السيسي في اليونان، هو تحذيره للعالم من مغبة ترك الأوضاع في ليبيا لمزيد من التدهور. قال: لقد سبق أن حذرت منذ عامين من عواقب الأوضاع في سوريا والعراق، ولم يتحرك المجتمع الدولي. والآن هناك خطر قادم من ليبيا. نحن في مصر نبذل جهداً كبيراً لتأمين الحدود البرية التي تمتد 1200 كيلو متر ونحتاج إلي دعم من الأوروبيين. ونبه الرئيس إلي ضرورة تضافر كل الجهود لمنع تدفق السلاح وجماعات الإرهاب إلي ليبيا عبر سواحلها التي تمتد ألفي كيلو متر، والتحرك بسرعة وبالشكل المناسب لدرء هذا الخطر المقبل. *** فيما يخص التعاون المصري اليوناني، وقع البلدان اتفاقية للتعاون في النقل الجوي ومذكرتي تفاهم للتعاون بين ميناءي دمياط والكسندروبولي وميناءي الاسكندرية وكابالا، واتفقا علي الإسراع بمفاوضات ترسيم الحدود البحرية علي أساس القانون الدولي، وتكثيف زيارات وفود رجال الأعمال والمستثمرين اليونانيين إلي مصر لبحث فرص الاستثمار في المشروعات الكبري وبالأخص مشروع تنمية قناة السويس. أما عن مباحثات القمة المصرية القبرصية التي سبقت انعقاد القمة الثلاثية، فقد تناولت القضايا المطروحة علي القادة الثلاث، وتبادل المعلومات والخبرات بين البلدين لمواجهة تهديد الإرهاب والاستغلال الأمثل للموارد الطبيعية للبلدين في مجال اكتشافات النفط والغاز بالبحر المتوسط، وفي هذا السياق عرضت قبرص أن يتم نقل كميات من الغاز الذي تنتجه إلي مصر ليتم تسييله في محطات التسييل بميناء دمياط أو ميناء إدكو لتحصل مصر علي ما تحتاجه لحين وصولها إلي الاكتفاء الذاتي، وتصدير الغاز المسال لأوروبا لحساب قبرص عبر ناقلات الغاز المسال. *** 3 ساعات تقريباً استغرقتها اجتماعات القمة الثلاثية اجتماع قادة مصر واليونان وقبرص لثالث مرة وبانتظام، رسالة إلي باقي دول هذا الإقليم المضطرب، بأن السلام والاستقرار والتعاون لا النزاع والصدام، هي الأسس التي يجب أن تسود علاقات دول شرق المتوسط. رسالة أخري حرص قادة الدول الثلاث علي إرسالها في أكثر من مناسبة، مفادها أن التعاون الثلاثي ليس موجها ضد دولة أخري (تركيا) ولا يقصي غيره من دول الإقليم. وبالتحديد - أوضح سامح شكري وزير الخارجية أن هناك اهتماماً من الجانبين اليوناني والقبرصي بالاستمرار في هذا الاطار من التعاون - نظراً لخصوصية العلاقات بين الدول الثلاث، لكن هذا لا يعني أننا نعيش في إطار منغلق. أهم ما أسفرت عنه هذه القمة هو تبني اقتراح الرئيس السيسي بتشكيل آلية دائمة لمتابعة تنفيذ مقررات القمم في مجالات التعاون الثلاثي في صورة مجلس مشترك. مباحثات القمة أظهرت مجدداً توافق الرؤي بين الدول الثلاث حول القضايا الإقليمية والدولية. هناك تصميم علي التعاون المشترك في مجابهة الإرهاب ووقف مصادر تمويله لا يقف - كما أوضح السيسي - عند البعدين العسكري والأمني، وإنما يشمل أيضا الجانب الفكري والاجتماعي. أيضا هناك اتفاق كامل علي العمل المشترك مع الجهود الدولية، للوصول إلي حلول سياسية للأزمة السورية والأزمة الليبية علي أساس الحفاظ علي وحدة البلدين والحيلولة دون توطين الإرهابيين فيهما. وفيما يتعلق بالقضية الفلسطينية.. يتطابق موقف كل من اليونان وقبرص مع موقف مصر بضرورة انخراط الطرفين في إيجاد تسوية عادلة تكفل إقامة دولة فلسطينية علي حدود 4 يونيو عام 1967 وعاصمتها القدسالشرقية. أما عن القضية القبرصية، فقد عبرت اليونان وقبرص عن تقديرهما لدور مصر في منظمة التعاون الإسلامي الذي حال دون إصدار قرارات تتعارض مع قرارات الشرعية الدولية والإجماع العالمي، وأكدت مصر دعمها لجهود التوصل إلي حل سلمي لهذه القضية علي أساس قرارات الأممالمتحدة يكفل توحيد شطري قبرص. في مجال التعاون الاقتصادي بين الدول الثلاث، تقرر تشكيل لجنة مشتركة للتعاون في مجالات المواني والسياحة الساحلية والصيد ومزارع الأسماك واستثمار الثروات البترولية والغازية لهذه الدول بالبحر المتوسط، وهي حزمة التعاون التي أسماها الرئيس القبرصي ب«الاقتصاد الأزرق» أي الذي يقوم علي المجالات المتعلقة بالبحر المتوسط. علي أن أهم ركائز التعاون بين الدول الثلاث، كما ظهر خلال المباحثات الثنائية أو الثلاثية، تستند إلي الكشف المصري الضخم وهو حقل غاز «ظهر» الذي يعد باكورة لاكتشافات محققة سيعلن عنها قريبا، واكتشافات محتملة عند بدء الحفر علي أعماق أبعد في قاع البحر المتوسط.. وتستند أيضا إلي قناة السويس الجديدة ومشروع التنمية في اقليم القناة الذي يعتبره اليونانيون فرصة هائلة للاستثمار في مصر. *** اليوم يغادر الرئيس السيسي أثينا والوفد المرافق له الذي يضم سامح شكري وزير الخارجية، د. أشرف سلمان وزير الاستثمار، طارق الملا وزير البترول، اللواء مصطفي شريف رئيس الديوان، اللواء عباس كامل مدير مكتب رئيس الجمهورية، السفير علاء يوسف المتحدث الرسمي باسم رئاسة الجمهورية. وقبل مرور 6 أشهر، تستضيف القاهرة القمة الثلاثية الرابعة، بعد اجتماعات تحضيرية يباشرها المجلس المشترك واللجنة الاقتصادية المشتركة لتنفيذ ما تم الاتفاق عليه ومتابعة المشروعات التي تقرر تدشينها، في ضوءحرص الدول الثلاث علي أن تكون اجتماعاتهم ذات صبغة عملية تتخطي إطار اللقاءات البروتوكولية. زيارة أثينا وهي الأولي للرئيس السيسي، ربما يعود منها، وهو يلمس أن لمصر أشقاء خارج الوطن العربي.