وهناك بالقطع أهمية بالغة لأن يقرأ الحاكم ويتثقف حتي.. يحافظ علي صورته كرمز للوطن فيتجنب خدم وكلاب كل العصور والمشتبه بممارستهم الفساد والبلطجة!!.. إنها صرخة الاستغاثة المدوية التي أطلقها الراحل الكبير الدكتور يوسف إدريس عندما شعر ككل المثقفين المُلتزمين برياح «عصر الجهل الساداتي/ المباركي» تضرب مصر وتُقوِّض كل ما أُصطُلِح علي تسميته «القوة الناعمة».. بدأ السادات عهده بعداء سافر للثقافة والمثقفين، بل لمجرد القراءة..إذ صرخ فيمن حملوا إليه تقارير رسمية للإطلاع عليها عقب توليه الرئاسة آمراً «ابعدوا عني هذه التقارير.. هي دي اللي موتت عبد الناصر.. لم يقضِ عليه سوي كثرة القراءة»!!.. سخر السادات من المثقفين وسماهم الأفندية ووصفهم ب»الأراذل»، وكان من الطبيعي أن يُقَرِّب إليه الأفاقين وعديمي المواهب.. و»المبطوحين» أي مَن بهم عورات ونقاط ضعف ظاهرة أو خفية تضمن وضعهم «تحت السيطرة».. كان ذلك واضحاً في اختياراته لكبار المسئولين في الصحافة والثقافة والإعلام.. ذلك الثالوث المسئول عن تشكيل العقل الجمعي للوطن أو قوة مصر الناعمة.. وهناك العديد من الحكايات المُضّْحِكة المُبكِيِّة التي تُسَجِل إنحطاط معايير الاختيار.. عين وزيراً للثقافة لم يقرأ كتاباً في حياته.. وكان من الطبيعي أن يلجأ الوزير الجاهل لأحد الكتبة من خدم السلطة ليُدَبِج له المقالات التي تُوهِم الناس بأنه قاريء وكاتب!!.. تفرغ ذلك الكاتب المُستأجَر لشن حملة «مكارثية» قذرة تشوِّه وتخوِّن المثقفين المعارضين للمشروع الساداتي مُردداً عبارة «مصريتنا حماها الله» التي تحولت إلي نشيد للمرحلة ترددها الإذاعة والتليفزيون وكوادر الحزب الوطني !!.. وجاء مبارك ليكَرّْسَ عصر الجهل وهو الحاكم الذي لم يُضبط طوال حكمه متحدثاً عن كاتب أو كتاب.. وصدق عليه وصف الأبنودي لأحد الجهلاء «عنده جهل يُغنيه عن كل علم»!!.. واصل مسيرة سلفه في احتقار الثقافة وتبديد القوة الناعمة، وإخلاء الساحة للإخوان والسلفيين الوهابيين والجمعيات الدينية «الخيرية» للسيطرة علي البسطاء وحشو أدمغتهم بأفكار دخيلة متطرفة ومتخلفة وطائفية.. وزاد عليه إهمال المؤسسات الثقافية وفتح الباب لتهريب كنوز البلاد من آثار ومقتنيات لا تُقدر بثمن وبيع أرشيف مصر من الأفلام والأغاني والمصنفات الفنية لأغنياء النفط.. وكان عهده بحق أزهي عصور الجهل والفساد والإرهاب!!.. هذا هو الثمن الفادح الذي تدفعه الشعوب عندما تُبتلي بحكام لا يقرأون أو يفقهون.. وهناك بالقطع أهمية بالغة لأن يقرأ الحاكم ويتثقف حتي يعرف تاريخ بلاده ويتعرف علي تجارب الشعوب الأخري ويحيط بكل الأفكار والآراء التي يطرحها أهل الفكر وذوو العلم في مجتمعه ويتفاعل معها لصالح الجميع.. ويحافظ علي صورته كرمز للوطن فيتجنب خدم وكلاب كل العصور والمشتبه بممارستهم الفساد والبلطجة!!.. وربما يكون عبد الناصر الأقرب لهذا النموذج.. فقد كان ضابطاً مثقفاً وقارئاً محترفاً للتاريخ والإستراتيجية مما هيأ له إدراك قيمة وقامة مصر وتفهم دورها ومكانتها في الجغرافيا والتاريخ.. والأهم من ذلك أنه وعي جيداً الفارق بين عمله في المؤسسة العسكرية المنضبطة والمحكومة بالأوامر واجبة النفاذ، وبين الحياة المدنية بكل تعقيداتها ودروبها الوعِرة.. ومن هنا تميزت اختياراته لمساعديه ووزرائه من المدنيين فاصطفي الأبرز والأكفأ والأكثر احتراماً في مختلف المجالات سواء في الصحافة أو الصناعة أو السياسة الخارجية أو الثقافة وكان كبيراً يعامل الكبار.. ولكن خطيئته الأعظم تمثلت في ترك أمور الجيش في عهدة جهلاء غير مؤهلين من أهل الثقة ورفاق السلاح وخاصة عبد الحكيم عامر وصلاح نصر اللذين زجا بالقوات المسلحة في متاهات الحياة المدنية مما أساء إلي هذه المؤسسة الوطنية العظيمة وأبعدها عن الحرفية والجاهزية القتالية فضلاً عن ارتكاب أخطاء جسيمة علي مستوي الحريات وحقوق الإنسان لينتهي الأمر بالنكسة وتعثر التجربة الناصرية التي قدمت نموذجاً فريداً في التنمية والعدالة الإجتماعية.. وقاتل الله الجهل والجهلاء!!..