طالب الدكتور صلاح فضل، أستاذ الأدب والنقد بجامعة عين شمس المثقفين الذين كان يدافعون عن نظام «مبارك» قبل ثورة 25 يناير بالتكفير عن خطاياهم والاعتذار عن مواقفهم السابقة. وقال: إن النظام السابق تجاهل حقنا في الديمقراطية وأدار ملف التوريث بصلف وعناد، وتعامل بمنطق «دع الآخرين يصرخون في الهواء». حول رؤيته للثورة والمد السلفي وقضايا أخري كان ل«روزاليوسف» هذا الحوار: بداية هل كنت تتوقع قيام ثورة 25 يناير؟ - لم أتصور أن الثورة قريبة إلي هذا الحد وأنني سأعيش حتي أري كل من أفسدوا الحياة السياسية وهم يرتدون الملابس البيضاء في مزرعة «طرة»، وبقدر ما كانت دهشتي لقيامها كانت فرحتي عارمة لأننا أخيرًا وضعنا أقدامنا ومعنا العالم العربي علي بداية الطريق الصحيح. فقد كان الجميع يتحدثون عن قيام ثورة لكن بصيغ مختلفة بعضهم تخيلها زحفا للعشوائيات علي أصحاب القصور، والبعض الآخر تصور أنها ستكون في شكل انفجار بعد أن تجاوز النظام كل الحدود وهوما كانت تطلق عليه أجهزة الإعلام الأمريكية بالفوضي الخلاقة غير أنني في الواقع وربما كل أبناء جيلي لم يخطر ببالهم أن الشرارة الأولي لهذه الثورة ستنطلق من العالم الافتراضي علي صفحات «الفيس بوك» قبل أن تنتقل إلي الشارع، فالجميع كان يتخيل أن الشباب يلهون ويغازلون الفتيات ويطالعون الصفحات الإباحية علي الإنترنت دون أن يدركوا أن هذه الوسيلة ذاتها ستكون مدخلهم إلي الحرية، وأن يتطور الأمر وينزلوا من مكاتبهم وحجراتهم الأنيقة ليتحملوا عصي الشرطة الغليظة في شوارع العاصمة والمدن الأخري. كنت شخصيا أري بوادر الضيق وأكتم أضعافها وأتصور أننا ننفخ في قربة مقطوعة عندما نحرض علي الديمقراطية ونبشر بها وندعو إلي قلب المنضدة علي من يسيئون إلي لعبة السياسة ويشوهون سمعة مصر. وأذكر في هذا الصدد أنني دخلت المجالس القومية المتخصصة في منتصف التسعينيات عندما دعيت أن أكون عضوا في المجلس الأعلي للثقافة وطلب مني تقديم ورقة لتكون موضوعا لإحدي الدورات، فقدمت ورقة بعنوان «ثقافة الديمقراطية» أبشر فيها بأن مستقبل مصر والوطن العربي لا يمكن أن يمضي باستقامة نحو التقدم والازدهار، إلا إذا وضع علي شريط بالديمقراطية.. وكان المشرف العام حينئذ علي المجالس الدكتور عاطف صدقي فنظر إلي بعتاب قائلاً: لكن الاقتراحات تعرض علي رئاسة الجمهورية ولا يمكن أن نرسل إليهم مثل هذا الكلام الذي تقول فيه: إن الاستمرار في الحكم أطول من الفترات المعتادة فيه عدوان علي الآخرين في حقهم لتولي السلطة، وأن تداول السلطة هو الذي يعطي للسياسة شرعيتها ويصحح أخطاءها فقلت له: لقد قصدت أن يقرأ رئيس الجمهورية هذا الكلام فضحك وأشار بحذف الورقة كلها من محضر الجلسات. وبالرغم من ذلك لم أتصور أن الثورة قريبة إلي هذا الحد وأنني سأعيش حتي أري كل من أفسدوا الحياة السياسية. بعد موقعتي «الجمل» و«الجلابية» كمثقف ما هو تحليلك لهما؟ - لقد أحسست بالرعب يوم الأربعاء المشؤم في لحظتين الأولي: عندما اخترقت حي المهندسين بسيارتي في طريقي لاجتماع عاجل للمكتب التنفيذي لحزب الجبهة الديمقراطية عصرا والذي شاركت في تأسيسه فصدمت باللافتات المطبوعة والمؤيدة لمبارك وهي تزحف من ميدان مصطفي محمود إلي ميدان التحرير والقبضات التي تهدد سيارتي، وأنا اخترق هذه الجموع وشعرت أن لهجة الابتزاز العاطفي التي وظفها مبارك وساعده عليها بعض المثقفين في خطابه الذي أثار عواطف العامة قد آتت ثمارها، لكن ما أن رأيت مئات اللافتات المكتوبة بعناية شديدة والحشد الجماهيري المنظم أدركت أنها طلائع الثورة المضادة وفي الليل جلست مثل باقي الملايين العرب أمام شاشة الجزيرة ورأيت قذائف اللهب ترمي ناحية المتحف المصري بعد الموقف الهزلي الكاريكاتيري الخاص بالجمال والحمير أدركت أننا وصلنا إلي ذروة الملهاة.. المأساة وأذاعت الجزيرة صوت أم كلثوم أنا إن قدر الإله مماتي.. لا تري الشرق يرفع الرأس بعدي.. قلت في نفسي هذا موت مصر الحقيقي فتغلبت علي شعوري بالتباعد تجاه صديقي جابر عصفور وزاهي حواس وأرسلت لهما رسالتين أناشدهما أن يهبا لإنقاذ المتحف إغاثة لمستقبل مصر، لكن صمود الشباب في هذه اللحظات أنقذ ثورة مصر ومستقبلها. حرصت في حواراتي مع شباب حزب الجبهة بعد ذلك أن أعرف من الذي صمد وعرفت أنهم عدة مئات من كل الأطياف من شباب حزب الجبهة أنفسهم والإخوان المسلمين الذين أخفوا انتماءاتهم عمدًا كي لا يحدثوا فرقة ويقدموا ذريعة للنظام. أما الوضع بالنسبة لموقعة الجلابية فيختلف فلم تعد الغوغائية تخيف أحدًا ولا تهدد الثورة وهي مجرد تعبيرات عشوائية عن عواطف عدائية مكبوتة لأصحاب المصالح الذين أضارتهم الثورة وبعد أسبوع واحد فقط عندما أشهد اليوم دخول آخر فلولهم إلي السجن ابتسم بارتياح. المصريون أصحاب حضارة عريقة، لكن أعمال الشغب والبلطجة لا تتفق مع هذا الإرث الحضاري. - كنت أشعر بشيء من الألم عندما أري هذه المظاهر وأفسرها بأن المؤامرة الأمنية في خطة «جمال» و«العادلي» طبقا لما رواه مصطفي بكري من خلال إخراج البلطجية من السجون للرد علي رفض الشعب فكرة التوريث وتم استدعاء هذه الخطة علي عجل للرد علي ثورة 25 يناير، لكن عندما تذكرت ما كان يحدث في مثل هذه الظروف في بعض البلاد الأوروبية والأمريكية اللاتينية خلال الانقلابات والأعاصير واختلال قيادة عجلة الأمن من يد السلطة وارتفاع نسبة الجرائم إلي ألف في المائة في المتوسط أي عشرة أضعاف وأقيس ما يحدث لدينا مما تعودنا علي قراءته من جرائم في السنوات الأخيرة أشعر بالاطمئنان. وأن هذا طبيعي بل وصلت إلي نتيجة أن المصريين أكثر تحضرا من الأمريكان والأوربيين. إنهم بدون كوابح الأمن الرسمي تصدوا بتلقائية لما يحدث من خلال تنظيم اللجان الشعبية للحفاظ علي بيوتهم وتسيير مركباتهم في الشوارع وردع المجرمين الهاربين من السجون الذين كانوا يمارسون سطوتهم علي الناس وكان أي طفل صغير يستطيع أن يخيفهم ويجبرهم علي الفرار.. ويمكن القول أن ما فقدناه خلال الثورة يعد ثمنا رخيصا لحرية مصر وتقول الإحصاءات إن الشهداء الذين فقدناهم أكثر بكثير مما كنا سنفقده في حوادث الطرق. ما رؤيتك للمثقفين الذين تحولوا بعد الثورة من مؤيدين للنظام السابق إلي أشد معارضيه، خاصة بعض من حضر لقاءه الأخير معهم؟ - كنت أشفق عليهم، أري صورهم وهم فخورون بتبجح شديد بلقاء الرئيس الذي أهان وطنه ورفض طيلة سنوات طويلة أن يمنح هؤلاء المثقفين دقائق من وقته الثمين خلال قرابة عشرين عاما يوزع جوائز الدولة في الفنون والآداب عليهم.. وأتصور أن حميتهم للحرية وإيمانهم بالديمقراطية وسعيهم لمثل هذه المظاهر الكاذبة لا يؤرق ضمائرهم وأعتقد أنهم منقوصو الوعي أو علي الأقل مخدوعون في ظنهم بأن لقاء مبارك لهم يزيدهم شرفا أو لمعانا في الوقت الذي كانوا يعرفون فيه أن الدولة قد وصلت إلي ذروة شيخوختها وأن الفساد قد بلغ النخاع من عظامها وأن هذا الرمز يسخر من طموحاتهم في الحرية ويكيد لمستقبلهم عندما يصر علي تجاهل حقهم في حياة ديمقراطية ويمارس بعناد إجرامي تدبير ماكينة التوريث بصلف ولا يستجيب لأي نداء ولا يتورع أو يستشعر أي قدر من الحياء كان منطقه أن تفعل ما تريد وتدع الآخرين يصرخون في الهواء كأنهم كلاب تعوي في الطرقات. وما زلت أكظم غيظي الشديد عندما منحت جامعة القاهرة سوزان ثابت الدكتوراة الفخرية نفاقا وزلفي وتكريسا عنيدًا مباشرًا لمشروع التوريث الذي تتبناه. وتطوع عدد من المثقفين بالدفاع عن موقف جامعة القاهرة دون أن يخجلوا من الدفاع عما لا يمكن الدفاع عنه. وأحسب أن عليهم الآن أن يراجعوا أنفسهم ويكفروا عن خطاياهم.. كما أحمد لمن اعتذر عن هذه المقابلة موقفه النبيل ومع أنني لم ادعي، إلا أنهم كانوا يعرفون مقدما أنني سأرفض، إلا أنني تمنيت أن ادعي إليها وأرفض ليس لأسباب صحية، لكن لأسباب سياسية. كيف تري قيام بعض المثقفين بالتبرؤ من جائزة مبارك وعلي رأسهم الروائي بهاء طاهر؟ - جائزة مبارك هي جائزة الدولة المصرية وقام مجموعة من أعضاء مجلس الشعب وعلي وجه الخصوص النائب محمد أبوالعينين الذي أطلق علي مبارك خلال حديث تليفزيوني سمعته: «الزعيم العظيم» هم الذين غيروا اسم الجائزة من جائزة النيل إلي جائزة مبارك.. ولم ينشط مبارك منذ إنشائها كي يسلمها إلي أحد لأنه كان يحتقر المثقفين ويخاف منهم ويكشف ضيق أفقه عندما كان يدخل معهم في جدل أو نقاش أثناء دورات معرض الكتاب كان يقول لهم: «بلاش الكلام المجعلص» أو بمعني «كلموني كلام أفهمه» إذا حاول أحد منهم أن يستخدم فكرة أنيقة أو مصطلحا فلسفيا.. فقد كان يعاني من عقدة النقص والجهل المركب إذا دخل في حوار مع أحدهم ولذلك تفادي تكريمهم، وتفادي اللقاء الحر بهم وأقام حواجز بينه وبينهم خاصة عندما ألحوا في مطالبتهم بالديمقراطية والحريات وضرورة المحاسبة والمساءلة المجتمعية وبالتالي كانت الجائزة مصرية خالصة يرشحه لها هيئة عليا ويصوت عليها المفكرون والمثقفون دون أي معيار سياسي وبالتالي لا معني لعملية رفضها.. وموقف بهاء طاهر يحمد عليه ولا يؤخذ عليه لأنه حافظ علي استقلال رأيه ونزاهة موقفه طيلة ارتباطه بالحياة الثقافية وحضوره جلسات المجلس الأعلي للثقافة. هل تؤيد عقد قمة ثقافية عربية في مثل هذه الظروف؟ - لقد سبق ودعيت من قبل الجامعة العربية لمناقشة هذا الموضوع وقال الدكتور مصطفي الفقي إنه صاحب فكرة عقد القمة الثقافية العربية، بينما قال محمد سلماوي إنه طرح الفكرة عندما كان في زيارة للقذافي، لكني قلت إنني لا أوافق علي الإطلاق لعقد قمة ثقافية عربية لأن هؤلاء الرؤساء الذين نريد أن نطلب منهم حل المشكلات الثقافية هم السبب الرئيسي في تفاقم المشكلات الجوهرية للأمة العربية وهم سبب حرمانها من شرف أن تكون دولا متقدمة وأهملوا البحث العلمي وأهدروا كرامتها وبالتالي لا يمكن أن نلتمس عندهم حلاً لمشكلاتنا الثقافية وأعظم خدمة للثقافة العربية أن ينصرفوا عنها ويتركوا مسرح الحياة العربية واستشهدت بقول الشاعر: لا أزود الطير عن شجر قد يكون المر من ثمره وابتسم السيد عمرو موسي واستأذنني في أن يستشهد ببيت الشعر السابق وسرت نغمة المعارضة بين الحضور، لكنهم انتهوا إلي ضرورة تكوين لجنة لإعداد مشروع جدول أعمال القمة الثقافية وبقيت في نفسي رافضا لهذه الفكرة لأن هؤلاء الحكام جعلوا سمعة الوطن العربي في التراب. هناك انزعاج في الشارع المصري لخروج الجماعات السلفية للمشاركة في العمل السياسي.. ما رأيك؟ - مشكلة هؤلاء السلفيين أنهم جهلاء لا يعرفون شيئًا عن الشريعة الإسلامية ولا عن التاريخ والحضارة الإسلامية، ولا عن السف الذين يزعمون الانتساب إليهم ومعظمهم عمال أو موظفون لم يدرسوا بانتظام في أي معهد علمي تابع للأزهر أو المؤسسات التي تتيح لأبنائها التفقه في الدين وهم رافضون للحياة وبلواهم الحقيقية الجهل وضيق الأفق والتعصب وليس لهم أي صلة بالسياسة ومعظمهم يرفضون حتي الآن إدخال التليفزيون إلي بيوتهم ولم يقرأوا كتابًا في الفكر أو الأدب أو الشعر أو الفلسفة وإذا قرأوا لن يفهموا شيئًا وما يقولونه أباطيل تشق عن جهل مطبق وعجز عن فهم النصوص التي يلوكونها، وبالتالي فإن أي حوار مفتوح مع هؤلاء يكشف عن جهلهم ويفضح عجزهم. هناك العديد من الأسماء التي رشحت نفسها لانتخابات رئاسة الجمهورية.. فمن تختار؟ - ليست المشكلة في الأشخاص، لكن ما يهمني أن من يتولي المسئولية يسهم في التحول الديمقراطي بشروط ومواصفات حقيقية بعيدا عن التزوير والتدليس وابتزاز عواطف الناس وتزييف وعيهم، لكن أقبل بارتياح جدا ما يتوافق عليه أغلبية المصريين حتي لو لم يكن محققا للنموذج الذي أريده.. أما إذا استخدم عصا المال أو الدين أو التزوير أو الخديعة فيكون قد اعتدي علي النموذج الديمقراطي الصحيح. هل تؤيد ترشح المرأة لانتخابات رئاسة الجمهورية؟ - من حقهن الترشح وأظن أن أيا منهن تملك الإمكانات الشخصية والمجتمعية التي يمكن أن تكون منافسة حقيقية علي المنصب وهن يردن إثبات الحق وهذا جميل ومطلوب وليس لدي مانع أن تتولي امرأة رئاسة الجمهورية. بصراحة هل أنت متفائل أم متشائم بمستقبل مصر؟ - دعني أتأكد أولا من أن يتم التحول الديمقراطي بسلاسة دون أن تختطف السلطة ولا يتم الاعتداء علي الديمقراطية وقتها سأكون أكثر اطمئنانًا.