الجميع يتحدثون عن قوة مصر الناعمة ويتباكون علي ضياعها، ولكن أحداً لم يتطوع لشرح الأسباب!!..قوة مصر الناعمة تكمن في كل ما يُشكِل العقل الجمعي لهذا الوطن وهو عقل مُعَطَل إلي حد كبير بفعل فاعل؟!..نحن نتحدث عن التعليم والبحث العلمي والثقافة والصحافة والإعلام وحرية الفكر والتعبير..وكلها أدوات تكاد تكون خارج الخدمة حالياً..وذلك جزء من مشهد ما بعد 30 يونيو الذي سقطت فيه الثقافة من حالق وعُطِلَ العقل بينما اُفسِحَ المجال لقوي التخلف والظلام من السلفيين الوهابيين المدعومين بأموال ونفوذ القوي النفطية!!..والغريب أن السلطة تصورت أن هؤلاء يمكن أن يكونوا ظهيراً في مواجهة الإرهاب رغم أنهم الحاضنة الأم لكل الافكار والجماعات المتطرفة..ولكم أن تتصوروا حصاد الاستعانة بطاعون الوهابيين لمواجهة سرطان الإرهاب!!.. وأزعم أن آخر حضور فاعل لعقل مصر أو قوتها الناعمة كان انتفاضة المثقفين ضد حكم الإخوان عندما اعتصموا بمبني الوزارة رافضين تسرب الاحتلال الإخواني إلي قلب ووجدان الوطن..وكان الاعتصام بداية زخم ثوري تُوِّجَ بنجاح الموجة الثورية الثانية في 30 يونيو..صحيح أن كبار موظفي الوزارة الذين تربوا وسُمِنوا في حظيرة فاروق حسني ركبوا الموجة وعادوا إلي مقاعدهم سالمين، ولكن ذلك لا يقلل من دور وفاعلية الخلايا الثورية داخل كيان الوزارة المترهل والمريض..غير أن المأساة بلغت ذروتها بتصعيد موظف «أزهري» لمنصب وزير الثقافة..ربما يبدو الرجل مهذباً وقد يكون مُخلِصاً ولكن ذلك لا يفيد المُنتَج الثقافي القائم علي الخَلّق والإبداع..فالموظف عبد الروتين ومحافظ بطبيعته وأميل للجمود الفكري ومقاومة التغيير، وهو نقيض المفكر والمُبدع الباحثين عن الأفضل عبر القدرة علي الحلم وإعمال الخيال..وعندما ينجح الكَتَبَة في إزاحة الكُتاب ويتمكن الموظفون من إبعاد المُبدعين فقل علي الثقافة السلام وترحم علي عقل مصر واصرخ مُردداً صيحة المُبدع الفلتة يوسف إدريس في وجه عصر الجهل الساداتي / المباركي « دعونا نتثقف يا ناس»!!.. وإذا كان هذا هو حال الثقافة فإن التعليم لا يقل سوءاً وتلك أزمة قديمة متجددة يعيشها ويكتوي بنارها كل بيت ويدفع ثمنها الجميع..أما البحث العلمي فحدث ولا حرج..فنحن لا نحترم العلم ولا البحث العلمي ونماطل في تعيين النابغين من حاملي الماجستير والدكتوراه، بل إن جامعة القاهرة العريقة ألغت المكافأة «الفضيحة» التي كانت تمنحها للطالب الذي يحصل علي الماجستير أو الدكتوراه..(مكافأة الماجستير المُلغاة تبلغ 400 جنيه بالتمام والكمال!!)..أما جُلّ الباحثين الواعدين وخاصة في السياسة والاقتصاد والاجتماع، فقد جذبتهم أضواء وملايين الفضائيات وطلقوا البحث والدرس في مرحلة انتقالية بالغة الحساسية نحتاج فيها بشدة لمن يُنير الطريق ويضبط اتجاه البوصلة ويحدد الخطوة التالية!!..وليست الصحافة بمعناها الواسع الذي يشمل مختلف وسائل الإعلام، بحال أفضل إن لم تكن أسوأ بما لا يقاس..وما يدعو للسخرية والأسي أنه رغم تقصير الصحافة في كشف أخطاء السلطة وفشل سياساتها وخاصة في مجالات الاقتصاد والعدالة الاجتماعية وحقوق الإنسان، وهذا واجب وطني ومهني يتحول لفرض عين في غياب أو تغييب البرلمان، فإن الحكومة والنيابة لا تكفان عن ملاحقة الصحفيين وإذلالهم!!.. والمؤكد أنه لا يمكن حسم المواجهة مع الإرهاب وإنجاز المشروعات الكُبري بمواصلة قتل السياسة وتعطيل عقل الامة والاعتماد فقط علي أهل الثقة والانضباط العسكري والعضلات الامنية..بل نحتاج فوراً إلي برلمان يحمي مصالح الفقراء ويؤكد مدنية الدولة..ونحتاج أيضاً إلي استعادة ثقة الشباب غير المتسلقين ومصالحتهم..ففي مواجهة الأخطار الاستثنائية يظل الشباب المنتمي هم الحل وكلمة السر..