منذ وجد الانسان علي الارض صاحبته الحروب. فقد قتل قابيل هابيل من اجل الفوز بالمرأة التي يريدها.. وكانت هذه اول جريمة علي وجه الارض. وتنابعت موجات البشرية علي كوكب الارض، وخلال هذه الحقب الطويلة لم يخل عصر من الحروب. والمعني انه لا فرق بين الانسان البدائي القديم الذي لم يكن يعرف شيئا عن الحضارة، وبين الانسان المعاصر الذي عرف اسرار الذرة والالكترون وارتاد الفضاء. الحرب سمة من سمات العصر الحديث، كما هي سمة من سمات العصور القديمة. ويكفي ما فعلته الحربان العالميتان الاولي والثانية في العالم فقد قتل الملايين من البشر، وشلت الحياة الاقتصادية وساد الفساد والخراب معظم دول العالم، وتربعت الانظمة الشمولية والدكتاتورية كالفاشية والنازية والشيوعية وفرضت نفوذها علي العالم. وإذا عدنا الي عصرنا الراهن نري الحروب الاهلية قد تسلطت علي عالمنا العربي، والارهاب يبسط اجنحته في ربوعها، واصابع الاستعمار الغربي والامريكي واطماعه القديمة تطل من خلالنا علي اوطاننا العربية.. فنري الدمار والخراب والضحايا والدماء ووراء ذلك مؤامرات تقسيم الشرق من جديد بما يخدم المطامع الامريكية واسرائيل!. كل ذلك يحدث ونحن غارقون في جدال بيزنطي سقيم حول اطلاق الذقون او اعفائها! وتقصير الجلاليب أم تركها تمس الاقدام! ماذا جري لعقولنا؟ لماذا لا نري هذه الاحداث الجسام تحدث في بلادنا. دون بقية دول العالم؟ لماذا نري غباء التطرف في بلادنا ولا نراه في اوروبا او امريكا اللاتينية؟ لماذا أرضنا العربية؟ واذا كان فيلسوف مثل الفيلسوف الالماني هيجل كان يري ان الحرب اشبه بالحجر الذي يلقي في البحيرة الآسنة فيمنعها من التعفن، فربما كان ذلك يصلح في عصر غير عصرنا الذي يمكن لاخطاء غير محسوبة ان يتعرض لحرب عالمية ثالثة لا تبقي ولا تذر! ولعل اجمل وأروع رواية ادبية ظهرت في هذا العصر.. هي رواية الحرب والسلام لعبقري الرواية الروسية تولستوي. ويروي تولستوي في هذه الرواية الرائعة ما تسببه الحروب من كوارث. فأحد ابطال روايته- الامير اندرو يمقت الحرب ويكره شخصية نابليون بعد ان كان مبهورا بها، عندما اكتوي بنار الحرب، وعرف معني الدمار والدماء والخراب وتفاهة المجد الحربي. لقد حارب نابليون في استرلتز وعندما سقط في الميدان، وتفقد نابليون ساحة المعركة، وظن ان اندرو قد مات.. قال عنه ان متيته ميتة نبيلة! وعندما عرف انه مازال علي قيد الحياة هنأه علي بطولته، ولكن الامير يدرك او هام امجاد حروب نابليون. ومازلت اذكر ذلك اليوم البعيد، يوم ان قابلت عميد الادب العربي الدكتور طه حسين، وسألته: بعض الناس يقولون ان الحرب ضرورة لانعاش امراض النظم الاقتصادية، فلم يخل جيل من الاجيال من الحرب، فهل الحرب ضرورة من ضرورات الحياة؟ ابتسم الدكتور طه حسين وقال لي: هل نبدأ حديثنا بالحرب؟ ان الحرب والسلام ربما يكونان من اختصاص الساسة، لكن الامل الذي يتمناه كل الناس هو السلام، حتي تستريح الاجيال من اهوال الحرب وحسبنا نحن اننا عشنا حربين عالميتين! أبوالعلاء والمرأة كلما قرأت شعر شاعرنا الفيلسوف أبوالعلاء المعري يقفز الي ذهني تساؤل عن سر كراهيته للحياة، رغم انه يملك هذه الطاقة الشعرية العالية. تري هل كان صدي لعصره المليء بالتناقضات والشك والانحدار؟ ولماذا يري ان مكان المرأة الطبيعي هو البيت الذي تصلح له.. هل كان لا يشعر بأية عاطفة نحوها؟ اغلب الظن ان زهده في الحياة لا يرجع الي هذه الاسباب فلم يكن الناس في عصره او الشعراء في زمنه يتسمون بهذا التشاؤم الذي كان يتسم به ابوالعلاء. ونحن نري في العصور المزدهرة في التاريخ بعض الادباء والشعراء والفلاسفة من المتشائمين والناقمين علي الحياة. ويري كاتبنا الكبير علي ادهم في دراسة عميقة له تحت عنوان: ابوالعلاء وفلسفة التاريخ ان ابا العلاء ينفرد بين شعراء العرب قاطبة بميزة واضحة لا سبيل الي نكرانها، وهي انه اقربهم في مستوي الفكر والثقافة الي فكره الغرب في العصور الحديثة.. وكأن فكره الجوال قد نقله من عصره الي افق الفكر الاوروبي الحديث، ومن يدمن قراءة المعري يلحظ اوجه الشبه بينه وبين امثال شوبنهاور وليوباردي وفينجر وانا تول فرانس وكارليل وغيرهم من اعلام الفكر الغربي، بل ان هناك مشابهة قوية بينه وبين شكسبير نفسه، ويقول علي ادهم: وفي اعتقادي ان هذه المشابهة البارزة لم تجئ عفوا وقد يمكن الاستعانة علي فهمها بشيء يسير من التحليل التاريخي، ولا ريب ان في كل عبقري جانبين.. احدهما عالمي والاخر زمني محلي. ومعروف ان أبا العلاء ولد في معرة النعمان، وكان موهوبا في الشعر ودرس علوم عصره، وفقد بصره وهو في الخامسة من عمره علي اثر اصابته بالجدري مما جعله ينظر للحياة نظرة متشائمة، ورحل الي طرابلس واللاذقية للاستزادة في العلم، وعاد الي بلدته بعد سن العشرين متسلحا بكل علوم عصره، بجانب موهبته الشعرية الخارقة، الا انه كان يري ان الحياة لا تستحق الالتفات اليها، فهو محروم من رؤية الناس والطبيعة من حوله، وفقد حنان الاب الذي مات وهو في الرابعة عشرة من عمره، وتحملت امه مشقة رعايته مما جعله يعزف عن الزواج ويقول كلمته الشهيرة : هذا جناه أبي عليّ ........وما جنيت علي أحد ومعروف ايضا ان ابا العلاء ذهب الي بغداد يلتمس فيها العلم، وانه قوبل هناك بحفاوة بالغة حيث ان شهرته سبقته اليها وأمضي هناك عاما ونصفا وقرر العودة الي بلده، وقبيل الوصول اليها جاءه نبأ موت امه، فحزن حزنا كبيرا، وعاش حياة زاهدة، وحرم علي نفسه أكل السمك واللحوم واكتفي بأكل العدس والتين! والسؤال الذي يطرح نفسه: هل لم يعرف ابوالعلاء الحب؟ والشعراء بطبيعتهم يتحدثون عن الحب وعن المرأة حتي لو لم يجدوه يتخيلونه. ان شاعرنا الكبير صلاح عبدالصبور في دراسة له عن «المنحني الشخصي في حياة ابي العلاء» يري ان ابا العلاء قد مر بتجربة عاطفية وهو في بغداد.. ويقول: فأبو العلاء اذن حين قارب الاربعين لم يزدد علما بشيء، لا باللغة التي أتقنها، ولا النحو الذي احاط به، ولا المذاهب الدينية والفلسفية التي تأمل فيها فأطال التأمل، والتجربة المصيرية التي غيرت حياته اذن ليست تجربة فكرية ولكنها تجربة شخصية. ويعلل ذلك بتحليله لبعض اشعار المعري ويستنتج من ذلك: ويبدو لي عندئذ ان أبا العلاء عرف المرأة في بغداد عاشقا، وفكر في ان يتزوج، ولكن بدت له احوال آثر معها السلامة من كل ذلك، ودخل في عزلته الشاملة. ويقول: يبدو لنا أبو العلاء في حديثه عن المرأة في اللزوميات عاشقا مهزوما، قنع من الدنيا بأدني نصيب، وقطع صلته بالحياة، في توالدها وتكاثرها حين آثر ألا يجني علي احد كما جني ابوه عليه. وحين يرفض الانسان توالد الحياة وتكاثرها، فكأنه يرفض الحياة جملة وتفصيلا.