البنك الأهلي المصري يرفع حدود الإيداع لبطاقات الخصم المباشر عبر ماكينات الصراف الآلي    آفاق الاستثمار في مصر: الصناديق الخاصة ورأس المال الجريء.. ندوة بمكتبة الإسكندرية    ما هي أول 5 قطاعات تتصدر تداولات جلسة اليوم بالبورصة؟    رئيس الجهاز المركزي للتنظيم والإدارة ورئيس هيئة الدواء يبحثان تعزيز التعاون وتطوير الهيكل التنظيمي    قيادي بحزب حماة الوطن: العدوان على سوريا جزء من مشروع خبيث لتقسيم المنطقة    رسميا.. مصر تشارك في كأس الخليج للشباب    الهرم المقلوب.. فى الكرة المصرية    أثليتك: مانشستر يونايتد يرفع عرضه لضم مبيومو    أثليتك: نيوكاسل يحاول ضم ويسا بعد انسحابه من سباق إيكيتيكي    الطقس غدًا.. استمرار ارتفاع الحرارة وتحذير من الشبورة    بعد 20 ساعة.. انتشال جثة إحدى الشقيقات الثلاث من نيل أسيوط (فيديو وصور)    "ضربة نوعية".. "حماية المستهلك" يضبط مخزنًا لإعادة تدوير الأجهزة الكهربائية    تكريم أم كلثوم ودعم القضية الفلسطينية فى ليالى مهرجاج قرطاج    وفاة الفنانة زيزي مصطفى والدة الفنانة منة شلبي    خالد الجندي: تقديم العقل على النص الشرعي يؤدي للهلاك    ما هو حكم اختراق واستخدام شبكات الواى فاى بدون إذن أصحابها؟ أمين الفتوي يجيب    حالة الطقس اليوم في السعودية.. الأجواء مشمسة جزئيًا في ساعات النهار    أشرف صبحي يلتقي بوزير الإسكان والمرافق والمجتمعات العمرانية    أوكرانيا تسعى إلى زيادة إنتاج الأسلحة محليا مع تحويل واشنطن صفقة منظومات باتريوت سويسرية لدعم كييف    إعلام إسرائيلى: اعتراض صاروخين أطلقا من شمال غزة باتجاه مناطق الغلاف    أحمد سيد أحمد: "مدينة الخيام" الإسرائيلية فخ لتهجير الفلسطينيين وتفريغ غزة    نائب وزير الصحة والسكان تبحث مع رئيس جامعة المنيا خفض معدلات الولادة القيصرية ووفيات حديثي الولادة    بيان رسمي من وزارة الصحة والسكان بشأن واقعة وفاة 5 أطفال بمحافظة المنيا    احذر ماء الليمون- 4 علامات تجعله مشروبًا خطرًا على صحتك    انهيار أرضي في كوريا الجنوبية ومصرع 4 أشخاص وإجلاء ألف آخرين    وسط إقبال كثيف من الخريجين.. 35 ألف فرصة عمل في الملتقى ال13 لتوظيف الشباب    «التعليم» تعلن الخريطة الزمنية للعام الدراسي الجديد 2025-2026    ضبط 3 متهمين غسلوا 90 مليون جنيه من تجارة المخدرات    بدائل الثانوية.. كيفية التقدم لمعاهد التمريض بالأزهر - نظام 5 سنوات    شيخ الأزهر يوافق على تحويل "فارس المتون" و"المترجم الناشئ" إلى مسابقات عالمية بهدف توسيع نطاق المشاركة    غالبًا ما تدمر سعادتها.. 3 أبراج تعاني من صراعات داخلية    7 أقسام علمية متخصصة.. «الأكاديمية العربية» تطلق كلية العلاج الطبيعي بفرع العلمين الجديدة    متابعة مكثفة للبرنامج العلاجي الصيفي لتنمية المهارات الأساسية للطلاب بأسيوط    "معلومة مؤكدة".. أول رد رسمي من الأهلي حول الاجتماع مع وكيل مصطفى محمد    القاهرة الإخبارية: ارتفاع حصيلة شهداء كنيسة العائلة المقدسة بغزة إلى 3    أحمد عبد الوهاب يكتب: قراءة في أسباب تدهور «اقتصاد الضفة»    كشف ملابسات فيديو جلوس أطفال على السيارة خلال سيرها بالتجمع - شاهد    إعداد القادة: تطبيق استراتيجيات البروتوكول الدولي والمراسم والاتيكيت في السلك الجامعي    دبلوماسي إثيوبي يفضح أكاذيب آبي أحمد، ومقطع زائف عن سد النهضة يكشف الحقائق (فيديو)    بين التحديات الإنتاجية والقدرة على الإبداع.. المهرجان القومي للمسرح يناقش أساليب الإخراج وآليات الإنتاج غير الحكومي بمشاركة أساتذة مسرح ونقاد وفنانين    في 6 خطوات.. قدم تظلمك على فاتورة الكهرباء إلكترونيًا    سحب قرعة دوري الكرة النسائية للموسم الجديد ..تعرف علي مباريات الأسبوع الأول    للعام الثالث.. تربية حلوان تحصد المركز الأول في المشروع القومي لمحو الأمية    "IPCC" الدولي يطلب دعم مصر فى التقرير القادم لتقييم الأهداف في مواجهة التحديات البيئية    محافظ الفيوم يطالب بتسريع وتيرة العمل بملفي تقنين الأراضي والتصالح في مخالفات البناء    الأونروا: 6 آلاف شاحنة مساعدات تنتظر على حدود غزة.. والآلية الحالية لا تعمل مطلقا    هل الخوف فطرة أم قلة إيمان وعدم ويقين بالله؟.. محمود الهواري يجيب    ليفربول يقدم عرضا ضخما إلى آينتراخت لحسم صفقة إيكيتيتي    وفاة والدة النجمة هند صبري    احتفالاً بالعيد القومي لمحافظة الإسكندرية.. فتح المواقع الأثرية كافة مجانا للجمهور    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الخميس 17-7-2025 في محافظة قنا    فيلم الشاطر لأمير كرارة يحصد 2.7 مليون جنيه في أول أيامه بدور السينما    كابتن محمود الخطيب يحقق أمنية الراحل نبيل الحلفاوى ويشارك في مسلسل كتالوج    إغلاق حركة الملاحة الجوية والنهرية بأسوان بسبب سوء أحوال الطقس    نائب وزير الصحة يعقد الاجتماع الثالث للمجلس الأعلى لشباب مقدمى خدمات الرعاية الصحية    رئيس غرفة مقدمي الرعاية الصحية: بروتوكول تعاون مع الصحة لتفعيل مبادرة "الألف يوم الذهبية" للحد من الولادات القيصرية    مقتل 50 شخصا إثر حريق هايبرماركت في الكوت شرق العراق    دعاء في جوف الليل: اللهم إنا نسألك العفو والعافية في الدنيا والآخرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أبوالعلاء المعري.. رهين اليُتم والعمى ص11
نشر في فيتو يوم 02 - 04 - 2013


الملحق
فقد أباه فى سن مبكرة ثم سرعان ما ماتت أمه
أبوالعلاء المعري.. رهين اليُتم والعمى
اتهموه بالكفر والإلحاد فظل صامدا وترك تراثا أدبيا أبرزه "رسالة الغفران"
كان يقول : "أحمد الله على العمي كما يحمده غيري على البصر"
أبوالعلاء المعري.. شاعر وكاتب عربي جريء التفكير، وُلد في معرّة النعمان القريبة من «حلب» في سورية، أصيب بالجدري عندما كان في الثالثة من عمره.. ما أدى إلى فقدانه البصر في إحدى عينيه، وما لبث أن فقد عينه الأخرى ،وبعدها فقد والده فى سن مبكرة،فغدا "رهين اليتم والعمى"،ورغم ذلك تجاوز محنته وأصبح أحد أبرز فلاسفة وشعراء العرب.
عاش المعري.. في بيت علم وفضل ومجد ورئاسة.. فجده سليمان بن أحمد «قاضي المعرة»، كما وَلِىَ قضاعة «حمص»، ووالده كان شاعرا، وتولى قضاء المعرة خلفا لأبيه بعد موته، وأخوه الأصغر عبدالواحد.. كان شاعرا أيضا.
محنة فقد البصر في سن مبكرة على شدتها وقسوتها لم توهن عزيمة المعري، ولم تفت في عضده، ولم تمنعه عن طلب العلم، وتحدى تلك الظروف الصعبة، فصرف نفسه كما يقول «سمير حلبي» إلى طلب العلم، ودراسة فنون اللغة والأدب والقراءة والحديث، فقرأ القرآن الكريم على يد أبيه وعلى جماعة من اللغويين والنحاة ب «معرة النعمان»،ثم سرعان ما توفى والده فصار يتيما.
لم يقف المعري عند «حلب»، بل شغفه بالعلم والأدب انطلق به إلى طرابلس الشام، ليروي ظمأه من العلم في خزائن الكتب الموقوفة بها، كما وصل إلى أنطاكية، وتردد على خزائن كتبها، ينهل منها، ويحفظ ما فيها.
تمتع المعري بحافظة قوية، فكان آية في الذكاء المفرط، حتى إنه كان يحفظ ما يقرأ عليه مرة واحدة، ويتلوه كأنه حفظه من قبل.
يروى أن بعض أهل حلب سمعوا به وبذكائه وحفظه على صغر سنه فأرادوا أن يمتحنوه، فأخذ كل واحد منهم ينشده بيتا، وهو يرد عليه ببيت من حفظه على قافيته، حتى تفد كل ما يحفظونه من أشعار، فاقترح عليهم أن ينشدوه أبياتا، ويجيبهم بأبيات من نظمه على قافيتها، فظل كل واحد منهم ينشده، وهو يجيب عليهم، حتى سبقهم جميعا.
عاد أبوالعلاء إلى معرة النعمان، بعد أن قضى شطرا من حياته في «الشام» طلبا للعلم، وما لبث أبوه أن توفي، فامتُحن باليتم وهو في الرابعة عشرة من عمره.. فرثاه قائلا:
أبي حكمتْ فيه الليالي ولم تزل رماح المنايا قادرات على الطعن
مضى طاهر الجثمان والكرى وسُهد المنى والجيب والذيل والردن
وبعد وفاة أبيه.. عاوده الحنين إلى الرحلة في طلب العلم، ودفعه طموحه وهو اليتيم الأعمى إلى التفكير في الارتحال إلى بغداد، فاستأذن أمه في السفر، فأذنت له، بعد أن شعرت بصدق عزمه على السفر، فشد رحاله إليها في العام «398 ه 1007م».
اتصل أبوالعلاء في بغداد ب «خازن دار الكتب» عبدالسلام البصري، وبدأ نجمه يلمع في سمائها، حتى أضحى من شعرائها المعدودين وعلمائها المبرزين، ما أثار عليه ضغائن أقرانه ونقمة حساده، فأطلقوا ألسنتهم عليه بالأقاويل، وأثاروا حوله عواصف الاتهامات بالكفر والإلحاد، وحرضوا عليه الحكام والفقهاء.
وبالرغم من ذلك.. وقف أبوالعلاء صلدا صامدا، ولم يدفعه ذلك إلى اليأس والانزواء والانطواء، إنما كان يتصدى لتلك الدعاوى بقوة وحزم، ساخرا من حساده، ومشدداً على إيمانه بالله، ورضاه بقضائه، فقال:
خُلق الناس للبقاء فضلّت أمة يحسبونهم للنفاد
إنما ينقلون من دار أعمال إلى دار شقوة أو رشاد
شارك أبوالعلاء بقصائده الحماسية في تسجيل المعارك بين العرب والروم، كما أبدى تهكمه على فساد عصره واختلال القيم والموازين فيه، فكشف عن كثير مما ظهر في عصره من صراعات فكرية ومذهبية، ورصد ظهور بعض الطوائف والمذاهب والأفكار الدينية والسياسية.
سريعا..تجاوز المعرى بقوة وإباء،محنتى اليتم والعمى، فاعترف أهل بغداد بفضله ومكانته، فكانوا يعرضون عليه أموالهم، ويلحون عليه في قبولها، ولكنه كان يأبى متعففا، ويردها متأنفا، بالرغم من رقة حاله، وحاجته الشديدة للمال ، وكان يقول :
«أنا أحمد الله على العمى.. كما يحمده غيري على البصر».
تكالبت عواصف الهموم على فؤاد أبي العلاء، واتخذ قرارا بالعودة إلى مسقط رأسه، ليجد في انتظاره مفاجأة صادمة لم يتوقعها، وهي وفاة أمه، وهو الحدث الذي غير كثيرا من مجرى حياته.
التاع قلب الفتى العشريني الكفيف،يتيم الأبوين، ورثى أمه بقصيدة تفيض لوعة وحزنا ووجدا وأسى.. منها هذا البيت:
لا بارك الله في الدنيا إذا انقطعت أسباب دنياك من أسباب دنيانا
ولزم داره معتزلا الناس، وأطلق على نفسه «رهين المحبسين»، وظل على ذلك نحو 40 عاما، لم يغادر داره إلا مرة واحدة، عندما دعاه قومه، ليشفع لهم عند صاحب حلب «أسد الدولة بن صالح بن مرداس»، وكان خرج بجيشه إلى المعرة بين «417» و«418» هجرية، ليخمد حركة عصيان أهلها، فخرج أبوالعلاء متوكئا على رجل من قومه، فلما علم «صالح» بقدومه إليه، أمر بوقف القتال، وأحسن استقباله وأكرمه، ثم سأله عن حاجته، فأجابه أبوالعلاء:
قضيت في منزلي برهة ستير العيوب فقيد الحسد
فلما مضى العمر إلا الأقل وهمَّ لروحي فراق الجسد
بُعثتُ شفيعا إلى صالح وذاك رأي من القوم فسد
فيسمع مني سجع الحمام وأسمع منه زئير الأسد
فرد صالح عليه قائلا: «بل نحن الذين تسمع منا سجع الحمام، وأنت الذي نسمع منه زئير الأسد، ثم أمر بخيامه فوضعت ورحل عن المعرة».
استطاع المعري أن يقدم نموذج المفكر والأديب، الذي توافق أفعاله أقواله، وتتطابق أشعاره مع أفكاره ومعتقداته، وقد كانت حياته منذ اعتزاله في داره في المعرة، لدى عودته من بغداد وبعد وفاة أمه، ترجمة صادقة لقناعاته، التي عاشها بإخلاص مميز ونادر، وهي بكل تأكيد حالة فريدة في الأدب العربي والإنساني عموما.
شاءت الأقدار أن يعيش المعري بين العامين «973م 1057م».. وهي فترة أوان سخونة الحضارة العربية الإسلامية وأفولها، بعد قرنين زاهيين «التاسع والعاشر الميلادي الثالث والرابع الهجري».. عدّهما العلامة «هينز» قرني النهضة العربية الإسلامية.
ولحسه المرهف وتبصراته الثاقبة.. أدرك المعري بؤس حال المسلمين، وتفاهة ما هم فيه وعليه يتكالبون، كما لم يشكُ الزمان ويندبه لأنه لم يعطه ما يستحق كما فعل المتنبي فقد نبذه، لأنه رآه لا يستحق، بل موضع شبهة.. وفي ذلك قوله:
إن رابنا الدهر بأفعاله فكلنا بالدهر مرتاب
وهو موقف أسبقه على الحياة التي لم ير فيها إلا عناء موصولا غير جدير بالمجاهدة، حتى إن النواح والغناء كانا عنده سواء:
غير مُجدٍ في ملتي واعتقادي نوحُ باك ولا ترغّم شاد
ومن أهم الآثارالأدبية التى تركها أبوالعلاء :
-«رسالة الغفران».. التي ألهبت خيال كثير من الأدباء والشعراء على مر الزمان، والتي تأثر بها «دانتي» في ثلاثيته الشهيرة »الكوميديا الإلهية».. وسنتحدث عنها لاحقا بقدر من التفصيل.
-«سقط الزند».. وفيه شعر أبي العلاء في شبابه، والذي جعله جديرا بأنه يوصف ب «خليفة المتنبي».
-«لزوم ما لا يلزم» «اللزوميات»: وهو شعره الذي قاله في كهولته، وأجاد فيه، وأكثر بشكل لم يبلغه أحد بعده.. نحو 13 ألف بيت.
-الفصول والغايات: «في تمجيد الله والمواعظ».
-عبث الوليد: شرح نقدي لديوان «البحتري».
-«معجز أحمد»: شرح ديوان «المتنبي».
-رسالة الملائكة.
وتنفرد «رسالة الغفران» بمكانة خاصة من بين آثار المعرى، لكنها لم تكن معروفة قبل العام «1899» عندما نشر المستشرق الإنجليزي «نيكلسون» أنه ظفر بمخطوطات عربية، أهمها «رسالة الغفران»، ثم قدم بعد عامين وصفا للمخطوطة، وبعد عامين.. نشر ملخصها.
لكن اكتشاف النسخة الخطية في مكتبة «كوبريللي زادة» في إسطنبول، ومقابلتها بكل النسخ التي عثر عليها، بينت حقيقتها، حيث نشر النص المحقق في العام 1950، وأعيد طبعه مرات كثيرة.
ومن المرجح.. أن «رسالة الغفران» أمليت في أواخر الربع الأول من القرن الخامس الهجري، فهي من آثار أبي العلاء في الشطر الثاني من حياته، أملاها في صميم عزلته بمعرة النعمان، وقد بلغ الستين من عمره، وتتكون من مقدمة وقسمين رئيسيين:
المقدمة في جملتها.. من الأمالي اللغوية والأدبية، وقد ساقها أبوالعلاء بأسلوب الألغاز، وهو فن بديعي، وُلع به أصحاب الصنعة الأدبية في عصره، أما القسم الأول.. فيبدأ بخبر وصول رسالة «ابن القارح» المفتتحة بتمجيد الله، ومن هذا التمجيد.. كان المنطلق إلى العالم الآخر.
وإذ يذكر النُدامي ما قاله شعراء الدنيا الفانية في الخمر ونشوتها وكؤوسها وأباريقها.. يجيء ذكر الأعشى، فيتمنون لو أنه كان بينهم، فلا يكادون يعربون عن هذه الأمنية، حتى يمثل أمامهم «الأعشى» شابا أحور العينين، ويعجبون لوجوده في الجنة، وقد مات كافرا، ويسألونه: بم غفر الله له، فيجيب بأن قصيدته الدالية التي نظمها في مدح الرسول الكريم، قد شفعت له، فأدخل الجنة على ألا يشرب خمرا، لأنه كان في طريقه إلى الرسول الكريم ليسلم عليه وينشده القصيدة، فصدته قريش.. وينظر «ابن القارح» في رياحين الجنة، فيرى قصرين منيفين، عليهما لافتتان باسم «عبيد الله بن الأبرص» و«زهير بن أبي سلمى»، وإذ يسألهما بم غفر الله لهما، وقد ماتا في الجاهلية؟ يجيب عبيد أنه نال ثواب بيته: «من يسأل يحرمون وسائل الله لا يخيب»، ويجيب زهير بأنه كان في الدنيا ينفر من الباطل، وكذلك قوله:
فلا تكتمن الله ما في نفوسكم.. ليخفى ومهما يُكتم الله يُعلم
يؤخر فيوضع في كتاب فيدخر.. ليوم حساب يعجل فينقم
ثم يرى في أقصى الجنة بيتا حقيرا.. وفيه رجل عليه نور أهل الجنة، يخبره بأنه «الحطيئة».. وصل إلى الشفاعة بالصدق في قوله:
أرى لي وجها قبح الله خلقه.. فقُبح من وجه وقُبح حامله
ويعجب الشيخ لِمَ لمْ يُغفر له بقوله:
من يفعل الخير لا يعدم جوازيه لا يذهب العُرف بين الله والناس
وبعد ذلك يلتقي بالخنساء.. وهي قريبة من النار، فتخبره أنها أحبت أن تنظر إلى «صخر»، فرأته كالجبل الشامخ والنار تضطرم في رأسه.
ويلقى ابن القارح في النار إبليس اللعين، ويدور بينهما حوار عنيف، ثم يسأل عن الشاعر بشار بن برد، فإذا هو أمامه يُسام سوء العذاب، ولكن عذابه لم يصرف «ابن القارح» عن مساءلته في أخباره ومناقشته في شعره.
ويفعل ذلك مع من لقي من شعراء النار أمثال «امرؤ القيس عنترة العبسي علقمة عمرو بن كلثوم الحارث اليشكري طرفة بن العبد أوس بن حجر» حتى إذا قضى من محاورتهم انطلق عائدا إلى الجنة.
ومن الملاحظ.. أنا أبا العلاء في تصويره عالمه الآخر.. متأثر بما في البيئة الإسلامية من وصف للحياة الآخرة، كالجنة والنار في القرآن الكريم، والمرويات الإسلامية عن الثواب والعقاب، والشفاعة في كتب الحديث الشريف والتفسير، وقصة المعراج، ثم ديوان الشعر العربي في الجاهلية وصدر الإسلام، بما فيه من وصف للمتع والملذات وفنون اللهو والطرب والمتعة.
وقد نقل كل ذلك أبوالعلاء إلى جنته، فضلا عن الأساطير العربية التي عُرفت في البيئة الإسلامية.
حفلت رسالة الغفران بلون جديد، لم يعرفه النثر العربي من قبل، خاصة هذا الإخراج التمثيلي الذي عرض فيه مشاهد عالمه الأخير، كما أنها تسجل صدى انفعاله بالدنيا، وتجربته وعزلته وإنسانية معاناته للحياة، وتؤصل فهمنا للحرية ولحرية الأيب بوجه خاص.
الرسالة.. كشفت المجاهدة الطويلة القاسية لأشواق بشرية، كما كشفت عن كل ما كان يعانيه ويكابده، وقد حشد في جنته كل ما خطر على باله، وتمثلته بشريته المحروقة المكبوتة من صنوف المتع الحسية والملذات المادية، التي لم يسترح منها إلا بموته في العام 449 ه.
وكما لم تلن الحياة لأبي العلاء يوما ،بسبب العمى واليتم والفقر، فإنها كانت قاسية عند النهاية، فقد اعتلّ شيخ المعرة أياما ثلاثة، لم تُبق من جسده الواهن النحيل، إلا شبحا يحتضر في خشوع وسكون، حتى أسلم الروح في الثالث من ربيع الأول العام 449 هجرية، الموافق العاشر من مايو 1057 ميلادية، عن عمر بلغ 86 عاما.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.