كلمة الخطاب مصطلح جديد فى الفكر المعاصر، تتميز بقابليتها للتنوع والضبط، إذ تسمح بإجراء تحليل دقيق لأنواع الكلام فى تعبيرها الصريح عن جملة النوايا والأفعال والأقوال المتناثرة. فالخطاب السياسى أو الإعلامى أو الدينى أو الأدبى يمثل منظور هذه الفئات، فى ممارستها لنشاطها، كاشفا عن مبادئها وتوجهاتها، مما يتيح الفرصة لقياسه على أصول المهنة وقواعدها المعترف بها من ناحية، وتقييم درجة تماسك الخطاب وكفاءته وصوابه فى إطار محدد من ناحية أخرى. ومع أن الخطاب الأدبى وهو موضوعنا الأثير يمتلك سلطته الخاصة، وهى أشد تأثيرا وأبقى فاعلية من كثير من الخطابات الأخرى، لأنه يمتص عناصرها الصافية، ويقدم رؤية متكاملة لها، فإنه يكتسب قيمته من قدرته على التفاعل الجدلى الحى مع السلطات المناوئة له. يجنح الأدب دائما إلى رفع سماء الحرية إلى آفاق متصاعدة، تماما مثلما يتوهم الناظر للسماء أنها خيمة ذات سقف منظور، فإذا ما ارتفع تبين وهمه وامتدت فوقه بلا نهاية، وربما لعبت السلطات السياسية والدينية والمجتمعية دور تثبيت هذا الوهم وترويع الإبداع حتى لا يخترق الحواجز. بينما هى فى الحقيقة خدع بصرية سرعان ما تكشف التجربة التاريخية هشاشتها، وإن كانت ضرورية لانتظام حياة المجتمعات وإدارة شئونها، بيد أنها كثيرا ما تسىء استغلال نفوذها وتتواطأ فيما بينها بشكل صامت كى تجسد عقبة محسوسة فى وجه الانطلاق الجامح لطاقات المبدعين. وليست مسيرة الإنسانية فى تجربتها السياسية وصولا إلى الصيغة الديمقراطية المرنة سوى المحصلة الحضارية لهذا الجدل. كما أن حساسية القضايا الدينية، واختلاف الشعوب فى موقفهم منها تمثل مع بعض الإشكالات الأخلاقية تحديات عسيرة على التجاوز فى منظور الحضارة المعاصرة، لكنها تشهد دائما سلسلة من المعاناة المحتدمة لتدجين السلطة ومنع طغيانها، وإذا كان تاريخ الثقافة العربية على عكس ما يحلو لبعضنا أن يتخيله يحفل بوقائع هذا الطغيان للسلطات جميعا فإن ذلك كان طبيعيا فى العصور الماضية، متلائما مع منطق التاريخ، ومتوافقا، إن لم يكن أفضل مما كان يحدث فى الثقافات الأخرى. وإذا تذكرنا مصائر بعض الكتاب القدماء الذين طحنتهم رحى السلطة عندما تعرضوا لبطشها أدركنا هذا المنطق، مثلما حدث لابن المقفع فى القرن الثانى الهجرى حيث قتل ومُثل بجثمانه بطريقة بشعة وهو لما يزل فى السادسة والثلاثين من عمره. وكان جرمه محاولة اللعب فى مربض الحكم، بعد أن قضى عمره يصوغ قوانين السلطة عبر رموز الحيوانات فى «كليلة ودمنة» لكنه تورط فى كتابة عهد للأمير على عمه بالوفاء لولايته، وإلا فنساؤه طوالق وعبيده أحرار إلى غير ذلك من الشروط القاسية، مما أهدر دمه، وكذلك بشار بن برد الذى قال فى الخليفة المهدى هاجيا وزيره ومعرضا بسلطته: «بنى أمية هبوا طال نومكم إن الخليفة يعقوب بن داوود ضاعت خلافتكم يا قوم فالتمسوا خليفة الله بين الزق والعود» لكننا بدلا من أن ننساق فى تاريخ اضطهاد الفكر الأدبى نتوقف عند نموذج حى لانتصاره، لواحد من شيوخ المعرفة الشعرية والفكرية فى الثقافة العالمية، وهو أبوالعلاء المعرى الذى كتب «رسالة الغفران» ليرد بها على تيار تهديد الأدباء والشعراء وتكفيرهم، إذ تلقى المعرى رسالة من أحد الشيوخ المتحاملين عليهم، يُدعى ابن القارح، يخبره فيها إنه «مغتاظ من الزنادقة والملحدين، الذين يتلاعبون بالدين، ويرومون إدخال الشبه والشكوك على المسلمين، ويتظرفون فى ذلك مثل أبى نواس. والمشكلة لدى هذا الشيخ الطاعن فى السن والأدب، أنه كان فى شبابه ممن يضمرون قدرا من الشك والتحرر، على ما تقتضيه قلة التجربة، لكنه بدلا من التسامح يأخذ فى إحصاء من يرميهم بالزندقة من العلماء والأدباء فلا يكاد ينجو منه أحد من كبار المبدعين فى العصر الذهبى الأول للثقافة العربية، يذكر من الشعراء مثلا بشار بن برد وأبا نواس وابن الرومى وأبا تمام والمتنبى، ويبدو أنه بتوجيه رسالته إلى المعرى يكاد يشير إليه هو الآخر بأصبع الاتهام. فضلا عن عدد كبير من فلاسفة الإسلام ومتصوفيه مثل الحلاج والراوندى وغيرهما. عندئذ يتخذ المعرى فى الرد على خطابه استراتيجية بارعة، إذ لا يناقشه بالمنطق ولا يقارعه الحجة بالدفاع عن هؤلاء، فسلاح الجدل غير مقنع لمن أصابهم داء التعصب، وإنما يشرع فى وجهه أمضى سلاح أدبى وهو التخيّل، حيث يتصور غريمه فى رحلة إلى العالم الآخر؛ إلى الجنة، فلا يلقى فيها سوى هؤلاء الشعراء، فإذا ما عبرها إلى النار وجد الفقهاء والمتشددين ممن لم يفعلوا شيئا يبرر غفران ذنوبهم. إنه يجر صاحبه المتشدد اللدود إلى منطقة مبهمة عذبة، تتفجر فيها روح الشعرية، وتنطلق إليها أفئدة الظامئين للخلود، لتصيب من لذائذ الفن وبهجة الحس والعقل والشعور ما يعكس موازينه، ويرد عدوانه على الشعور والأدب والحياة. لكن اللافت لنظر المدقق أن المعرى يفعل دائما ذلك محتميا بظل النص القرآنى البليغ، وتأويله القريب، بعبارة مقتصدة، واستشهاد صائب، وهذه هى نقطة القوة فى تصوراته وأخيلته؛ تجانسها التام مع المخيلة العربية الإسلامية واتساقها الصحيح المدهش مع معطياتها القريبة؛ إذ لو كان هناك عالم فى العهد الوسيط يمكن أن يوصف بأنه شعرى حقا، ينتصب ملاذا للحرية، وعزاء للحرمان، وإشباعا للأشواق، لكان عالم الجنة، ومن ثم فإن تصويره انتصار للفكر الإبداعى وأهله. لكن شيخ المعرة الشجاع عندما كان يبلور رؤيته لصراع العقل الإنسانى مع اللاهوت كان يقول بجرأة توشك أن تكون انتحارية فى عصره، وحتى فى عصرنا أيضا: «هذه الحنيفة والنصارى ما درت ويهود جارت والمجوس مضللّة اثنان أهل الأرض ذو عقل بلا دين، وآخر دَيِّن «لا عقل له» ولأن القول يتقلب على أحوال الإنسان، ويتراوح بين لحظات الصدق والعنف والانتصار، فقد أصبح شعر المعرى تجسيد العذاب المفكر وحيرة الفنان تجاه دراما الوجود الإنسانى. العوالم الموازية: إذا انتقلنا فى انخطافة بارقة إلى العصور الحديثة وجدنا اختلافا جوهريا فى موقف الخطاب الأدبى تجاه السلطات المعاندة له؛ فقد عرفت الثقافات العالمية، ومنها العربية، كيف تنزع رداء الألوهية عن السلطة، وتعرى جسد الإنسان في فعل جمالى مبدع، لكن بؤرة الصراع الجدلى بين المبدع وجمهوره ظلت ماثلة فى المسافة الخاصة بحرية التأويل فى الشأن الدينى، لم تعد تجدى ثنائية ابن رشد فى التمييز بين الخاصة والعامة، لأن ثورات الاتصال المتتالية أعطت الجميع حقوق المعرفة، وألقت عليهم بمسئولية الحكم. هنا تفرد الخطاب الأدبى بآليات فنية مراوغة، جعلته يتمتع بهامش واسعة للمناورة، بأكبر مما يتاح للخطاب الفلسفى على تخصصه، أو الإعلامى على شيوعة، نشير منها إلى ثلاث آليات: أولها: انشطار الذات المبدعة إلى مؤلف فردى، دأبت المناهج النقدية على إخلاء سبيله وإعفائه من المسئولية، إما بافتراض غيابه أو موته، بمعنى إخراجه من حلبة البحث والمحاكمة، وإما بإشراك الوعى الجماعى معه، باعتباره ممثلا للضمير العام، ومؤلف آخر ضمنى مفترض، وهو ذات ورقية، مسئولة عن الخطاب الأدبى، يسهم القارئ فى تشكيلها، ويتحمل بفهمه نتيجة لذلك مسئوليته عن رؤيتها. والآلية الثانية تتمثل فى مجموعة من التقنيات الفنية التى طورتها الأشكال الأدبية المختلفة من شعر وسرد ومسرح، وفنون الصورة والفنون الرقمية المحدثة، بحيث تمكنها من تفادى صدمة الخطاب المباشر، بامتلاك كفاءة تعبيرية عالية من خلال الرمز والإيحاء والتكثيف، وتركيب الدلالة من مستويات عديدة مثل طبقات السماء التى تسمح لكل ذى قدرة على الرقى صعدا فى فهمها، بما يجعلها تنقل لكل قارئ ما يقوى على تحمله ويستمتع به، دون أن تصدم شعوره، إذ تعمل على تمثيل وعيه العميق بالحياة والكون من حوله، وتجسيد هواجسه الحميمة تجاههما، وتوليد معان كان يُسرّها فى نفسه ولا يقوى على البوح بها حتى يجدها ماثلة له فى أبهى تجلياتها الجمالية. أما الآلية الثالثة التى تسمح للخطاب الأدبى بتجاوز حواجزه السلطوية فهى ناجمة عن طاقة الإقناع الوجدانى والعدوى العاطفية والسحر التعبيرى الذى يمارسه فن القول أو التصوير الجميل؛ إذ يبعث فى المتلقى نشوة الإبداع وحسّ الكشف عن المجهول، ويستثير إمكاناته فى الفهم والتذوق، وغالبا ما نشهد قدرة الأعمال الخلاقة على تحرير قارئها وإتاحة الفرصة لاكتشاف إنسانيته ومضاعفة وجوده.