يُعدّ العالم الآخر وما فيه من أهوال وجنة ونار -حسب كل معتقد- من الموضوعات قليلة التناول في الأدب العربي والعالمي عموماً، والسبب فيه -كما أرى- يعود إلى أن الكتب الدينية المختصّة بكل معتقد تشرح ذلك العالم وتوضّحه بكل صُوَره؛ بين مستمسك بالنصّ الديني، ورجل دين يمتلك موهبة أدبية ونثراً جذاباً يستخدمه لتوضيح ما غمُض على القارئ؛ كما حدث عندنا وقام الإمام "المحاسبي" بكتابة مؤلفه الصغير الشهير "التوهّم"، والذي يعدّ آية في البلاغة والإيجاز، وعُمق التخيّل الذي يجعل أشد القلوب قسوة يرتجف وينتبه. إلا أن هذا لا يمنع أن الأدب عندما تناول هذا الموضوع بحذر بالغ، خرجت إلينا مؤلفات جميلة تستخدم مفردات العالم الآخر وما فيه، من خلال حدث ما، ولعل أقدم الأعمال الأدبية في هذا، تحفة "هوميروس" اليوناني "الأوديسة"؛ حيث نرى رحلة "أوديسيوس" البطل المغوار إلى العالم الآخر. "رسالة الغفران".. أبو العلاء المعرّي يردّ على "ابن القارح" "رسالة الغفران" من أشهر عيون الأدب العربي والعالمي أيضاً، وقد كتبها الشاعر العبقري أبو العلاء المعرّي الذي أثبت أستاذيته في عالم النثر، كما أثبتها من قبل في عالم الشعر.. وعلى الرغم من أنه ضرير؛ فإن تحفته هذه تبيّن كمّ الخيال المهول الذي يمتلكه، والذي يُبنى على قاعدة عريضة من الكتاب والسنة، وتدل على أنه قد هضم علوم عصره هضماً كافياً لكي ينتقل بسلاسة في سرده لرحلة خيالية قام بها أحد الأدباء، ويُدعى "ابن القارح" إلى العالم الآخر. وأصل الحكاية أن "ابن القارح" قد راسل شاعرنا برسالة يعدّد فيها مآثره، ويتحدّث فيها عن نفسه، ويبدو أن ردّ أبي العلاء المعرّي كان من خلال رحلة خيالية إلى العالم الآخر، وما فيه من نعيم وجحيم، وكان بطلها هو "ابن القارح"، الذي يتكلّم عنه "المعرّي" باحترام ظاهر يكاد يُشعرنا بأن "ابن القارح" هو أديب كل العصور، السابقة واللاحقة! هل هي سخرية يا تُرى؟ وتبدأ الرسالة بثناء "المعرّي" المستطاب على رسالة "ابن القارح"، بأنها كشجرة أصلها ثابت وفرعها في السماء، ويتتبعه من خلال تلك الرحلة العجيبة إلى الجنة والنار؛ حيث يُحادث مشاهير الشعراء.. وكل هذا في لغة قوية جزلة، تؤكد موهبة "المعرّي"، وتمكُّنَه من علوم اللغة بأكملها، وقد قامت د. عائشة عبد الرحمن (بنت الشاطئ) بتحقيق الرسالة تحقيقاً وافياً؛ فليرجع إليها من أراد. والجنة في "رسالة الغفران" هي مدينة الأفراح، والملذّات الحسّيّة، وفيها ينال المحرومون من المتع ما يفوق تخيّل العقل، أو كما يقول "المعرّي" في هذه الفقرة: "ويمرّ رفٌّ من إوز الجنّة، فلا يلبث "ابن القارح" أن ينزل على تلك الروضة، ويقف وقوف منتظرٍ لأمر، ومن شأن طير الجنة أن يتكلم، يقول: ما شأنكن؟ فيقلن: أُلهمنا أن نسقط في هذه الروضة فنغنّي لمن فيها ومن شرب، يقول: على بركة الله القدير. فَيَنتفِضْن، فَيَصِرْن جواري كواعب يرفُلن في وشي الجنة، وبأيديهن المزاهر وأنواع ما يلتمس به الملاهي؛ فيعجب، وحق له أن يعجب، وليس ذلك ببديع من قدرة الله جلّت عظمته". إلا أن تفوّق "المعرّي" ليس في وصف الجنة بشكل حسّي فقط؛ بل هو احتفاؤه بالشعر والشعراء؛ وكأنه يؤكد أن متعة السجال والنقاش بين شعراء الجاهلية والإسلام لا تقلّ أبداً عن مُتَع الجنة الحسية. أما عن زيارة "ابن القارح" للنار؛ فلا بد أن يقابل هناك العديد ممن حُكِم عليهم بالعذاب، ومنهم "أبو مرّة"، وهي كنية "إبليس".. ومرة أخرى يحدث سجال شعري بين "ابن القارح" وبين الكفار هناك؛ بل إن "بشار بن بُرد" -وهو شاعر في العصر الإسلامي- يدخل النار بسبب بيت شعر يقوله في "إبليس" يُعلن فيه أن الطينة البشرية لن تسمو أبداً لمقدار النار الكبير، وهو ما يجعل "ابن القارح" يقول للشاعر التعِس: "لقد أحسنت في مقالك، وأسأت في مُعتقدك". وجُزء الجحيم هذا تتبدى فيه سخرية "المعرّي" في أوضح صورها، بين نِزاله مع الشعراء على لسان بطله "ابن القارح"، وبين توبيخه لهم على الأخطاء التي قد ارتكبوها في حياتهم الماضية. الكثيرين يعتبرون الكوميديا الإلهية عملاً مُقَلَّداً لرسالة الغفران دانتي أليجييري.. والكوميديا الإلهية لا يأتي الحديث عن رسالة الغفران؛ إلا ويتبعه الحديث عن تحفة الإيطالي دانتي أليجييري، والسبب هو هذا التشابه المذهل بين العملين؛ حتى إن الكثيرين يعتبرون الكوميديا الإلهية عملاً مُقَلَّداً لرسالة الغفران؛ لكن الثابت أن الكوميديا الإلهية تحمل صبغة مسيحية واضحة؛ حيث نجد رحلة خيالية شعرية إلى العالم الآخر، عن طريق تقسيم ذلك العالم إلى: جحيم، ونعيم، ومطهر. وهذا الأخير يُعتبر قنطرة ما بين العالمين: النعيم والجحيم. وله مقابل في العقيدة الإسلامية، وهو الأعراف، الجبل الذي يفصل ما بين الاثنين. بالطبع هناك حكايات سنقابلها، وأشخاص يتألمون، دفعوا ثمن خطاياهم، وسنرى قصة الجميلة "فرانشيسكا"، والأخ "بونيفاس"، وسنرى الشيطان، وما سينتظره من جحيم يليق به. وجدير بالذكر أن دانتي أليجييري لم يتخلّص من كراهية الأوروبيين للإسلام وأهله؛ فنراه يتحدّث عن وجود النبي العربي في آخر دَرَكات الجحيم، وهي موضة تلك الأيام. ويبدو أن الموضة مستمرة حتى الآن! أحمد بهجت.. وحكاية "مسرور ومقرور" مع الموت وما بعده يُؤكّد الكاتب العظيم أحمد بهجت في بدء مؤلفه "مسرور ومقرور" بأنه ليس رواية؛ إذ إن الرواية تبدأ بالحياة وتنتهي بالموت، والأحداث هنا تتجاوزه إلى العالم الآخر، وهو يؤكد أنه لا يكتب قصة خيالية؛ فكل ما ورد فيها من أحداث سيحدث لا محالة. الكتاب يتحدّث عن قصة "مسرور" الثري، شديد البطش، الذي يعيش في حياته بوصفه الأقوى، والأفضل، والأغنى، وفي مقابله يعيش "مقرور" -كما يدلّ الاسم- الرجل الفقير، الذي قابل في المشرق نبياً حدّثه عن الحكمة من خلق العالم، وأن هذه الدنيا مآلُها إلى الزوال، وأن ثمّة حياة أخرى أبدية يُنعّم فيها الصالحون، ويُعذّب فيها الطالحون.. واقتنع الفقير بدعوته وآمن بها، ويبدو أن خبره وصل إلى الطاغية "مسرور"، الذي أمر بحرقه حياً. الوحيد الذي عارض هذا القرار هو القاضي، الذي أقرّ ببراءة "مقرور" فيما هو منسوب إليه.. وكانت نهاية القاضي و"مقرور" هي الموت! الجديد هنا هو تناول أحمد بهجت للحساب المصغّر في القبر، وكيف تعامل "مسرور"، و"مقرور" مع الهول الجديد، الذي يتمثّل في حسابهما على معتقداتهما، ثم تنتقل بنا الرحلة إلى يوم القيامة، وما فيه من أهوال، وحساب، ونشر، وميزان، وصراط، وجنة ونار؛ حيث نتابع رحلة نموذجين يمثّلان الخير والشر.. وأحمد بهجت يعترف في بداية الكتاب أنه متأثر بكتاب "التوهم"، الذي تحدّثنا عنه من قبل. يؤكد د. مصطفى محمود أن الجنة وما فيها والجحيم وما فيها غيب لا نعلمه د. مصطفى محمود وزيارته للجنة والنار يؤكد الدكتور مصطفى محمود في كتابه الشهير "زيارة للجنة والنار"، أن الجنة وما فيها، والجحيم وما فيها غيب لا نعلمه، وأن تصوير القرآن لما فيهما هو في حدود اللغة البشرية المتاحة حتى نفهم؛ إلا أن ما فيهما حقيقة يُردّ علمها إلى الله. كل ما نعرفه نحن -ونحن متأكّدون منه- أن الجنة دار النعيم، وأن النار مأوى المعذّبين. الجديد في هذا الكتاب أنه مكتوب على هيئة مسرحية، وأننا سنقابل وجوهاً نعرفها من عالمنا، أمثال جمال عبد الناصر، وفيفي عبده، وكارل ماركس، والشيطان! ويؤكد مصطفى محمود أن الأسماء الواردة لا تقصد شخصاً بعينه؛ إنما هي تتجاوزه إلى الرموز وما تعنيه. المسرحية تتحدّث عن موت أحد الطغاة بالسجن؛ مما يجعل ضحاياه يطالبون بالعدالة لذلك المجرم؛ بينما يؤكّد السجّان أن العدالة السماوية لا مهرب منها. ننتقل على الفور إلى وجود ذلك المجرم في الجحيم، وحواره مع شيطانته الخاصة، ويدور بينهما حوار ممتع عندما يعترض المجرم على مصيره؛ فتخبره شيطانته أننا من نختار مصائرنا قبل أن ننزل في عالم الوجود؛ فمن اختار اسم "العليم" صار له من العلم درجة مثل آينشتاين، ومن اختار اسم "الجبار"، صار جباراً في الأرض، ومن اختار اسم "البديع" صار فناناً وعبقرياً، مثل بيتهوفن، ولا يظلم ربك أحداً.. وبالتالي فكل واحد منا هو من يختار مصيره قبل خلقه الفعلي؛ لذا فلا حُجّة للكفار والفاسقين، ولو رُدّوا لعادوا لما كانوا فيه من قبل، ولا يظلم ربك أحداً. وموضوع اختيار كل بشري لاسم من أسماء الله، يعود لتأثّر مصطفى محمود بشكل خاص بعوالم الصوفية، وما فيها مزالق وشَحَطات، وومضات، وتحديداً إلى الصوفي الكبير محيي الدين بن عربي، صاحب أعقد النصوص الصوفية على الإطلاق "الفتوحات المكية". والجنة هنا -كما يراها أحمد بهجت أيضاً- تكمن في القرب من الله ورؤيته؛ بينما النار هي البعد عن الله، وعدم رؤيته؛ فهذه وذاك هما النعيم والجحيم الحقيقي، وما سواهما من صور النعيم والعذاب أقل منهما. لكن لا خلاف أن الكتاب ينضح باعتقاد مصطفى محمود السويّ في الجنة والنار، وأنهما ينبثقان من رؤية الكتاب والسنة؛ على الرغم من الجدال الذي كانت تثيره كتب المؤلف الراحل، مثل حديث إنكار الشفاعة وغيره.