«من هو فوق، مازال في هذا الفوق، ومن هو تحت مادت الأرض وغاصت به الي تحت التحت.!!» الثلاثاء : يحس فقراؤنا أننا خدعناهم، وأن الثورة قامت لتحسين أحوال الأغنياء وجاءت وبالاً عليهم، ولولا محبتهم للسيسي لما صبروا يوماً علي ما فعلنا بهم. يقول الرجل الفقير النابه، أو فيلسوفي الأمي كما أسميه: «أنتم لستم شجعاناً، لا شجاعة في أن تظلمونا وتبتعدوا عن مواجهة من سلبوا مصر أعز أراضيها وتاجروا في عِللنا وتسببوا في موتنا وإضعافنا، ليست شجاعة أن ترفعوا أسعار المواد الحياتية الأساسية وتتركوا أصحاب الملايين الحرام، وتزحفوا علي ركبكم بحثاً عما يصلح الاقتصاد والحلول بين أيديكم ولكن تنقصكم شجاعة المواجهة فلا تجدون غيرنا تدوسونهم بأحذية قراراتكم المؤذية، لا تفكرون إلا في الرغيف وزجاجة الزيت وقطعة الصابون وكأن هذا سيملأ خزائنكم ويحل مشكلاتكم، ولا تفكرون في المال المسلوب بالقناطير والذي لا شك أنه يملأ خزائن بنوك الخارج، وتقفون مع هؤلاء الذين قمنا بثورتين ضدهم تحمون أموالهم وتسعدون برؤية فقراء مصر يتهاوون كجدران قديمة، فقراء مصر الذين بنوا مصر وزرعوها وشقوا ترعها ومصارفها وأقاموا سدودها وجسورها وقناطرها، وغرقوا في قيظ الأسفلت الملتهب لتجدوا طرقاً تتهادون عليها بسياراتكم، بنينا البيوت والعمارات والمدن والقري السياحية وشاهدنا حياتكم فنحن لسنا أغبياء، ففي الوقت الذي لا نجد فيه كوب ماء نظيف كنا نبني بأنفسنا «بسيناتكم» التي يري الإنسان وجهه في مائها الرائق، تاجرتم بنا، استوردتم أحط السلع لأن هذا ما يليق بنا، ولأنكم لا تعرفون أننا نعرف، إن جهلكم بنا يعطيكم صورة خاطئة عنا، ولكن لتتذكروا أتون الثورتين وغضب الجماهير حين ينفجر، لقد رأيتم بأعينكم ولكنكم تنسون!!. مرة أخري نقول: لقد اخترنا الرجل، ونؤمن بصدقه ومحبته لنا، ولولاه لما تركناكم تعيشون معنا لحظة علي نفس الأرض، ونقول للرئيس: يكفي هذا، ولترفع أقدامهم عن رقابنا، لقد أزلنا من حياتنا الرئيس بعد الرئيس، ومازال الظلم يبرطع في البلاد، ومازالت الحاجة تحاصر العباد، كل شئون الحياة كما هي بل وأصعب، وتعب المعيشة أتعب. يغلبنا الرؤساء السابقون علي الرغم من التخلص منهم، كأنهم سجنونا في سلوك الفوضي والاستغلال والغش والكذب وسلب الأقوات، ومن هو فوق مازال في هذا الفوق، ومن هو تحت مادت به الأرض وغاصت إلي تحت التحت، ماذا تغيّر في سلوك الدولة؟ هل رفعوا العبء عن الفقراء؟، هل زادت ملابس المعدم جلباباً أو بطانية أو رغيفاً؟، علي العكس قلّ خبزه واضمحل حاله علي الرغم من أن وزراءهم يخرجون إلينا من علي الشاشات مؤكدين أننا تقريباً علي أبواب النعيم، وأننا ننعم بالزيت والسكر بل باللحوم والشحوم، ويرون سعادتنا في كثافة الهموم، وأخشي أن يصدق الرئيس هؤلاء الوزراء، فنحن في أضيق حال، وعلي أبواب الاضمحلال، لقد تركتم الحبل علي الغارب فرمي الأغنياء العبء علي الكواهل الضامرة للفقراء، سٍعرت أثمان التقاوي والسماد والمبيد وكل ما يلزمنا لنزرع، ماذا نفعل؟، هل نبحث مع أعدائنا عن ثورة ثالثة كما يعتقدون عبثاً؟. هذا عن الدولة التي لا ترانا ولا تري نفسها، أما عن الأفنديات الذين يهللون بأنهم الذين قاموا بالثورة وهو قول صحيح فأغلب الظن أنهم قاموا بالثورة وهم لا يعرفون بالضبط لماذا خرجوا، يتشاجرون فوق جثة أمهم التي تتعفن تحت أقدامهم لحظة بعد لحظة ويوماً بعد يوم دون أن ينظروا إليها مرة واحدة أو تزكمهم رائحة البريئة الملقاة تحت أقدامهم، الأفنديات لا يرد علي ألسنتهم سيرة للفقراء الذين يذبلون كنوار ذابل، هم في النهاية أيضاً يأكلون ويشربون علي حساب آبائهم أو من مصادر يعلم الله بها، أما نحن فنحن الآباء الذين ينتظر أبناؤنا العاطلون عن العمل أن نطعمهم وينظرون في وجوهنا والخجل يحرقنا ويحرقهم، لا يصغون ولا يلقون بالاً لتشاجرات الأحزاب وتآلفاتها وخلافاتها، فالواقع وقسوته لا يسمحان لهم بدقيقة لذلك. نحن نريد العمل لهؤلاء الأبناء ليحسوا أنهم أعطوا فرصة للحياة ليحبوا هذا الوطن الذي ثاروا من أجل تحرره مرة أخري.. لا يريد أبناؤنا وقد شاركوا في الثورتين سوي العمل وتحسين حياتنا تعليماً وصحة وشئون القري الاقتصادية والحياتية التي صارت لا تليق بهوام الأرض، وعشوائيات نسي سكانها رائحة آدميتهم يرقبون شجاراتكم من بعضكم البعض دون إشارة لشيء من هذا، تهاجمون الحكام وتأكلون بعضكم البعض ولا ينقصكم سوي أن تهاجمونا نحن حِجتكم فيما تفعلون. أنتم أبعد عنا من الحكومة والحكام، ونظن أن كل أهدافكم أن تكونوا في السلطة، ونحن لسنا ضد ذلك إلا في أننا لم نر أنكم تحسون بنا أو أننا نعنيكم في كثير أو قليل. فقط هو الشعار الذي كان في أول الثورة عن العيش والعدالة، ولقد ذاب واختفي وعدنا نغوص في وحل البحث عن ذلك العيش وتلك العدالة.. نحن لا نري في تمحكاتكم واحتكاكاتكم بالحكام سوي أنكم تريدون أن تحكمونا وتتخفون برغباتكم خلف أصواتكم الغاضبة التي لا تأتي علي ذكرنا ولا نلمح لنا شبه مستقبل بها. المسافات بعيدة بيننا وبين الحكومة، وبعيدة بيننا وبين الأفنديات، ثورتكم كانت من أجل السلطة، وثورتنا كانت من أجل تحسين حياتنا، ولن نكون مع أي منكما إلا إذا ما قصّرتم هذا البعد واقتربتم من رائحة معاناتنا. ونرجو ألا نفقد الأمل في غد مختلف، وأن يظل حبل الود موصولاً بيننا وبين رئيس نري فيه أملاً في زمن عز فيه الأمل، فعلي الرغم من أننا ثوريون، وأننا لا نُقنِّع وجوهنا بالنفاق، فإننا مازلنا نري أن الرئيس هو الأقرب لنا وصوته واضح في وقت ضاعت فيه أصواتكم في الشجار والصياح..!! شجرة جميز في «كسلا» الأربعاء : لكثرة ما رأيت وعاشرت من أشجار، صار المتميز الذي أذكره منها نادرا، وهو ما يتعلق بذكريات حميمة في الكبر أو الطفولة، فلقد زرعْت في حياتي أشجاراً ربما أكثر مما كتبت من أشعار، ولكن لأن كلها أشجار فإن ما يعلق منها بالذاكرة قليل. منذ بضعة أيام كتب الصديق الروائي جمال الغيطاني بأخبار اليوم شيئاً بديعاً عن أشجار الجميز منطلقاً من أنها الشجرة الفرعونية التي خبأ إله الشر «ست» إله الخير والعدالة «أوزوريس» في جوفها، وترحم الغيطاني علي ثمر الجميز الذي لم يعد يراه أحد بعدما كان فاكهة لها مواسم ولها طعم خاص مازال عالقاً في ذاكرة اللسان. ولشجر الجميز معي صلة حميمة وذكريات، أولاها «شجرة أبنود» هكذا أسميها لأنها ليست ملكاً لأحد - وهناك اعتقاد شعبي صعيدي أن من يزرع شجرة الجميز يموت، طبعاً يموت، فشجرة الجميز أبطأ شجر الله نمواً ولابد من أنها حين تصل إلي مرحلة الإثمار يكون من زرعها قد مات لأن الأطفال لا يزرعون أشجاراً وبالذات تلك التي لا تثمر سريعاً . في الصعيد - صعيدنا الأعلي - حين تنقب خلف الأشياء التي تبدو ساذجة وطفولية كأغنيات الأطفال مثلاً بالذات المقاطع التي تبدو مفككة وغير مفهومة فإنك لتجد خلف الكلمات الساذجة تلك معاني شديدة الأهمية مثلما كنا نغني: (التعلب فات فات وف ديله سبع لفات والدبة.. وقعت في البير وصاحبها راجل «خنزير») ونتساءل.. هل هذا الخنزير سُبة للرجل صاحب الدبة؟ ولكن مع الأيام والسنوات ونحن ننمو، نكتشف أن كل الآبار القديمة في الصعيد قاعدتها الدائرية التي يبني عليها الجدار الدائري الصاعد للبئر لابد من أن تكون من خشب لا يبلي ولا يتمتع بهذه الخاصية سوي خشب الجميز الفرعوني الذي مازال بعض آباره قائمة عليه حتي الآن، تهالك الطوب وتصدع، لكن القاعدة الجميزية مازالت علي حالها تحاور الماء ويحاورها منذ قرون، هذه القاعدة من خشب الجميز في قاع البئر يطلق عليها قومنا اسم «الخنزيرة»، ومادامت الخنزيرة هي التي تحمل البئر فلابد إذن أن يكون زوجها أو صاحبها خنزيراً، أي أن السُّبّة ليست بسبة ولا هي مجرد شتيمة وإنما هي تذكير بالبئر «البير» وصاحبها الذي هو «خنزير»!! أما اختفاء ثمر الجميز الذي يسأل عنه الغيطاني فله سببان: أولهما: اقتلاع معظم أشجار الجميزالتي كانت تزرع علي أطراف الحقول والمقتربة من الجسور، وكل ذلك تحول إلي مبان، فالتهم الأسمنت الشجرة الفرعونية بأوزوريسها، فعشوائية حياتنا لم تبق علي شيء من ذكريات الطفولة والصبا، وجاءت أسرع مما كنا نتخيل بكثير. السبب الثاني لاختفاء «فاكهة» الجميز، هو أن شجرة جميزأبنود التي بني مكانها معهد أبنود الديني، والتي كان يقبع تحتها «عم علي النجار»، يستظل بها وتأتنس به في صيف أبنود الملتهب، طوال النهار لا يغادرها ولا يغادره الدق لينجِّّز السواقي وأبواب الكروم والطبالي.. الخ، ويظل طوال اليوم يطارد صوته صغار أبنود الذين يتسلقون الجميزة كالعفاريت، لم يكن «عم علي» يسمح بالصعود إلا لمن «شرَّط». ماذا يعني هذا يا عم الغيطاني؟.. يعني ان الجميز هو الفاكهة «الوحيدة» التي يجب أن تجرح الثمرة وهي خضراء، وإلا فلن تحصل علي جميزة واحدة، فكنا نصعد وفي أيدينا قطعة صفيح حادة إذ لم تكن السكاكين و«المطاوي» كثيرة كما هي الآن، كل منا يمتلك فرعاً باسمه يُشرٍّطُه ويُشهد علي عمله «عم علي» وحين تكبر الثمرة وتنضج، يتسلق كل منا علي فرعه ليجنيه ويعطي شيئاً مما يجني لحارس التاريخ والشاهد علي علاقتنا بجميزة أبنود!! الآن، حتي لو وجدت شجرة جميز، فلاوقت للصغار للصعود والتشريط وانتظار أكثر من شهرين لينضج الثمر، لذا تظل الجميزة تُسقط حصرمها يومياً إلي أن تخلو لتستعد لحملها الجديد!! بينما الأطفال يخرجون من المدرسة ركضاً ليشاهدوا حلقة في التليفزيون.. أو ليلعبوا الكرة غير آبهين للشجرة المنتظرة. كان الهروب إلي إريتريا من السودان ممنوعاً منعاً باتاً، ولكن لم يكن هناك صعب علي صديقنا الأستاذ «حلمي شعراوي» الذي حرث كل شبر في افريقيا عملياً ونظرياً، وسألني: «أتهرب معي»؟ قلت: «هذا حلم».. وهربنا!! في «كسلا» علي أطراف الشرق الجنوبي للسودان والتي تفصل بين السودان وإريتريا، رأينا أعجب «شجرة جميز» من الممكن أن تراها، كنا قد استهولنا «رمش عين الجميل الذي يفرش علي فدان» حين وردت عند توفيق الحكيم في مذكرات نائب في الأرياف، واعتبرناها مبالغة شعرية محالة مستحبة، حتي رأيت تلك الشجرة الأنثي ورمشها الذي كان يفرش علي أكثر من فدان، كانت عالية.. باسقة، فروعها المهيبة أشجار في حد ذاتها.. قلت لنفسي: «من يقدر أن يصعدها و«يشِّرطها؟» جلسنا تحتها عمنا «حلمي شعراوي» وأنا نحتسي البن المحروق المدقوق المختلط بالمستكة والذي يُصب في فناجين فخارية من «جَبَنَة» فخارية: أظن كان سعر الجبنة الصغيرة قرشاً ونصف القرش، وكان سعر الجبَنة الكبيرة ثلاثة قروش، كل ذلك لا يهم، المهم أني كنت أعرف أني أجلس تحت أكبر شجرة جميز من الممكن أن يراها أحد منكم، وكأنها كانت تخرج لسانها لشخص فقد أشجاره مثلي، ومع ذلك مازلت أحلم بقدرتي التي فقدتها علي السفر إلي مدينة «كسلا» لأجلس تحت تلك الشجرة أساوم تاجر الفضة القديمة الذي أفرغ أمامي ثلاث صفائح من الحلي الفضية لأختار ما أريد وأترك الباقي وركض ليشاهد مباراة «الهلال» مع «المورَدَة»!! موتانا وموتاهم الخميس : في الجنازات الأوروبية لا تحس أنك في حفل للحزن، حين تراهم يلبسون أفضل ثيابهم السوداء ويلتفون في نظام جميل وصمت وتحلُّّّق حول القبر، وقِسّهم الأنيق يقرأ آيات من الإنجيل ويتحدث عن مآثر الراحل بصدق، ولا يخترع له صفات ليست فيه، ثم ذلك الصندوق الفني الأنيق الذي رقد بداخله الجثمان يتقدم به لحادون أنيقون أيضاً مرفوعاً علي حبال، ينزل رويداً رويداً حتي يستقر علي أرض اللحد في رقة متناهية، وإذا بالحاضرين كل منهم يغترف من تراب الحفر حفنة صغيرة من التراب يلقي بها علي الصندوق الأنيق المستقر في القاع، ويغادرون ليتولي اللحادون بقية الردم بعيداً عن أهل الراحل وأصدقائه، حفل جميل واحتفاء بالجلال والاحترام ولفكرة الوداع. تراهم في الأفلام السينمائية وعلي الرغم من تكرار المشهد فأنت لا تمله وراحلهم يدفن في هذه الحدائق الخضراء المزهرة وكأنه ذهب إلي الجنة فعلاً، وهناك وبعد الدفن، تلقي الابنة أو الإبن أعواد ورد نضرة علي التراب، ويعودون فرادي عندما يُنصب الشاهد الذي غالباً ما تكون عليه عبارة تلخص حياة الشخص وأعماله النبيلة تحت إسمه، ومن بعد فإن حضور المشهد المذكور يتجهون الأقارب والأصدقاء إلي بيت الراحل في حفل راق يأكلون ويشربون ما كان الراحل يحب، ويستمعون إلي الموسيقي التي كان يميل لها، وفي آخر السهرة ينصرفون، ومن كان علي صلة حميمة بالراحل فإنه يستطيع أن يحمل باقة ورد أو حتي وردة، يذهب إلي القبر الأنيق في نظامه الرائع مع بقية القبور، يقف صامتاً في جلال وخشوع وتأمل، ثم يضع الوردة أو الباقة علي قاعدة القبر النظيفة ويعود بعد أن يجفف دمعتيه..!! لم أكتب هذا لأذكركم بالموت فلست واعظاً ولا نكدياً، وإنما لبعث المقارنة واختلاف معاني الرحيل بيننا وبينهم، فنحن مازلنا نؤمن بالعويل كإعلان عن المودة الكاذبة في معظمها ومازالت نساء بلادنا يلطمن الخدود ويشققن الجيوب ويحَبّرن وجوههن بالطين والنيلة زيادة في الإعلان علي الرغم من أنها حزينة وعلي الرغم من أن حزن الصمت أبلغ، ومازالت «يا جملي» و«يا سبعي» و«يا عمود بيتي»، وغيرها من النداءات التي يمكن أن تثير لديك الضحك بطريقة أدائها وكأننا قادرون علي استرداد سبعها مما ذهب إليه..!! العشرات والمئات الذين يهرولون خلف النعش يثيرون الأغبرة، يهيّجون الأتربة والنعش يجري أمامهم كأنه يهرب من ضوضائهم ونداءاتهم والغبار المتصاعد من الأقدام يسبقهم إليه فيخفيه.. وهناك من يخرج عليك بقوله إن الميت رجل طيب لذلك فهو جري غير خائف من سوء مصير يتعجل جنته التي سعي إليها في الدنيا بأعماله الطيبة، وذلك الكورال الرهيب خلف الجثة الراقدة والخشب القديم المتهاوي والمغطي بملاءة يختطفها أصحابها «المكلومون» بمجرد استقرار النعش بجوار الحفرة، تماماً مثل منديل المأذون، أيضاً ذلك التزاحم حين يزاح البدن من خشبته وكأنهم يشاهدون فيلماً ساحراً يتقاتلون ويتصارعون بالأكتاف في معركة وهم يرددون هتافهم الديني حتي ينزلق البدن في كفنه الأبيض إلي داخل القبر وذلك الشيخ الذي ليس شيخاً يجلس إلي جوار فتحة القبر يلقنه ما يقول للملكين، بينما اللحاد بالداخل يفك ربطة الرأس ويكشف وجه الميت الذي يواجه القبلة وقبل أن يكتمل خروجه تجده ماداً يده لأهل الميت خوفاً من أن يضيع أجره في هذه الهيصة.!! والمشيعون لا يغادرون المقبرة إلي الحفل كما هناك، ولكنهم يمارسون نفس الشيء بصورة أخري، ففي الخميس الأول لا أدري لماذا الخميس بالذات تذهب النسوة لزيارة الراحل كلهن نساء متشحات السواد وقد أحضرن معهن كل ما كان الراحل يحبه ويشتهيه: المنين والبلح والفشار، ويأتي أحد المحترفين من مشايخ «نص لبة» يقرأون علي قبره، ولا تعرف ماذا يقرأ هذا الشيخ بالضبط، فهو «ينونو» كأنه يقرأ، والنسوة يطالبنه بأن يفصح ولكن هيهات. كان لي صديق اسمه «الشيخ عبدالله» يقرأ علي المقابر أيام الأعياد لأن أهالي الموتي - النساء بالذات لا يعيّدون مثل خلق الله ولكنك تجدهم يتحلقون حول قبور راحليهم قبل طلوع الشمس يستمعون إلي المشايخ ويوزعون «الرحمة» كما يسمونها هناك، كان «الشيخ عبدالله» موظفاً في محافظة قنا، ولكنه قارئ قرآن علي القبور، ولم يكن يحفظ من القرآن حتي الآن سوي سورة «الذاريات» ولا تدي لماذا «الذاريات» بالذات، ولماذا لم يحفظ سورة «الرحمن» مثلاً، فيقول: «حين دخلت الكُتاب، كان الشيخ قد وصل إلي سورة الذاريات «فلضمت» معهم، ولقسوة الشيخ لم أواصل وخرجت بالذاريات، وكنت أسكن في أطراف قنا إلي جوار المقابر، فجربتها مرة ونفعت، ومن يومها فإن دخل «الذاريات» مع المرتب الهزيل الذي أتقاضاه من الحكومة «أعكِّز» بهما في تربية العيال!! أنظروا إلي جنازات الأوروبيين المهذبة الصامتة التي تعكس التأثر الحقيقي واحترام مّْيتهم، وانظروا إلي «سوق التلات» خلف نعوشنا السابحة علي أعناق البشر، انظروا إلي التفنن في صناديق الموتي التي تذهب معهم إلي مثواهم الأخير وانظروا إلي نعوشنا البائسة التي ترونها دائماً مغطاة فلا تشمئزوا من قبحها وسوء نظافتها. مازلت أذكر نعشيْ أبنود المسنودين علي جدار لحين الاستدعاء، وقد صدق الأبنوديون حين أطلقوا علي النعش اسم «الكربَ» فتح الكاف والراء وتسكين الباء.. فمجرد النظرة إليها كانت تصيبنا بكرْب وتبعثر ابتهاجنا إلي جانب أوهامنا حول القتلي الذين حملتهم نفس النعوش والتي تستيقظ عفاريتهم في كل ليلة مظلمة.!! هذا هو الفارق بين الحزن الفرعوني في الصعيد، وبين أهل السويس مثلاً الذين يسمون مقابرهم «الروض»، فكأنهم يقتربون من الرؤية الأوروبية الذين عاشروهم لسنوات عديدة من يونانيين وانجليز وفرنسيين، وربما شاهدوا «الروض» الذي يدفن فيه الأجانب فأطلقوا الاسم علي «تُربِهم»..!!