"أهلا يا كسلان".. هكذا استقبلنى فى مكتبه بناء على موعد مسبق بيننا.. كانت جلسة "توبيخ" ودية من رئيسى فى العمل بسببب تأخيرى فى كتابة مقال من المفترض أنه أسبوعيا وليس نصف سنويا (على حد وصفه). عاتبنى بطريقته المهذبة قائلا: إن المستفيد الأول من كتابة المقال هو أنا وليس أى شخص آخر، وأن الكتابة تماما كأى لعبة رياضية تحتاج إلى الممارسة لزيادة اللياقة. قلت له إن الرياضة فى مصر أصبحت "تسد النفس" عن الكتابة، ونظرا لطبيعة الموقع فإننى مقيد بالكتابة عن الأحداث الرياضية فقط. "انت كسلان".. كررها مرة أخرى وقال: انت من صنعت هذه القيود التى ستزداد يوما بعد يوم مع استمرار تأخرك فى الكتابة.. وتحديدا فى كتابة المقال فى هذه المساحة، وأنا اعتبرها فرصة ثمينة عليك استغلالها. هممت بالإنصراف ووعدته بالمواظبة على كتابة المقال، ثم خرجت مسرعا للحاق بالموعد الأسبوعى الذى يجمعنى ب "الشلة" على المقهى. على بعد أمتار سمعت صوته العالى وكأنه زعيم يخطب فى الأمة العربية لبث روح الثورة فى قلوب شعبه.. اقتربت من "الشلة" والقيت عليهم السلام، ثم سحبت كرسيا وجلست، لكنه للمرة الأولى منذ صداقتنا لم يلتفت إلى حضورى ولم يتوقف عن الكلام. ظل يواصل خطبته، وجميع رواد المقهى فى حالة انصات تام، كان صديقى يحلل موقف مصر من إعلان إثيوبيا عن بناء سد النهضة قائلا: هما الإثيوبيين كانوا يقدروا يعلنوا عن قرارهم فى وش الرئيس مرسى وهو هناك، دى عالم تخاف ما تختشيش ما صدقوا الراجل اداهم ضهره وعملوا عملتهم. قاطعته قائلا: هل كان الأمر سيتغير لو كان الإثيوبيين أعلنوا عن قرارهم فى وجه الرئيس. أكيد طبعا، ده كان قلب الدنيا.. هكذا كان رده الذى جعلنى أعاتبه على أنه ترك المشكلة الرئيسية فى خطورة بناء السد وعدم التفات الحكومة الإثيوبية إلى المصالح المشتركة، واختزل الأمر فى وجه الرئيس وظهره! ظهرت عليه علامات الإحراج، فحول بمعرفته "مجرى" الحديث قائلا: إن سد النهضة لن يؤثر على حصة مصر من المياه. ابتسمت بسخرية من كلامه ليقينى أن هذا الكلام لايخرج من شخص كل علاقته بالسياسة وشئون مصر يتلخص فى كلمة "بيقولك حصل كذا"، وحاولت أوضح له أن خبراء المياه يؤكدون على تأثر مصر من بناء السد. تجاهلنى تماما وعاد إلى حديثه: مصر دولة مصب وليست دولة منبع، فكيف تتأثر حصتها من المياه، مستشهدا بالمثل القائل: "المية مابتجريش فى العالى". جادلته قائلا: إن العلم تقدم والمياه أصبحت تجرى فى العالى عن طريقات المضخات، مما دفعه أن يصيح فى وجهى مستحيل ده مش كلام ناس عاقلين. التفت حولى، لأجد أفواها مفتوحة على مصرعيها لشدة إعجابهم بكلام صديقى. ملت عليه وهمست فى أذنه قائلا: طبعا انت عمال تشتغل الناس اللى حواليك دى عشان مش فاهمين أى حاجة، لكن عاوز أعرف مين علمك الكلام ده ووصاك تقوله هنا على القهوة. فضحنى بصوته العالى حين قال: مفيش حد وصانى بحاجة ياأستاذ يامتعلم أنا والناس اللى قاعدة دى عاوزين مصلحة البلد، مش عاوزين نولعها زيك. حاولت معالجة الموقف ومسايرة الجلسة على طريقة "شلة الجالسين"، وسألته هل علمت بموضوع "عروسة النيل". فتح فمه متعجبا: هاه.. عروسة نيل! قلت: الحكومة سوف تعيد "عروس النيل" التى كان الملوك أيام الفراعنة يلقونها حية فى النهر طلبا للفيضان الذى يأتى بالخير. إزداد فمه اتساعا، فأكملت كلامى: هناك فيلم بطولة رشدى أباظة ولبنى عبد العزيز، يحكى قصة عروس النيل ويحمل نفس الاسم وجسدت فيه لبنى عبدالعزيز الشخصية الأسطورية "هاميس". تساءل ببله: كانوا بيرموها فى النيل صاحية؟! بصعوبة داريت ضحكتى وأكملت قائلا: كان قدماء المصريين فى موسم الفيضان يقومون باختيار فتاة غاية فى الجمال "تحل من على حبل المشنفة يعنى" ويلبسونها أروع الثياب ويزينونها بأثمن الحلى ويلقونها حية فى النيل حتى يأتى الفيضان. قال: يعنى الحكومة قررت ترمى كل سنة بنت فى النيل، دى كانت الثورة قامت وماقعدتش! أجبته: طبعا لأ.. الحال تغير.. ونحن الآن فى الألفية الثالثة، وحاولت شرح الأمر بطريقة يسهل استيعابها، وقلت: إن الحكومة سوف تستبدل عروس النيل ب "مزز النيل"، يعنى هتنقى "50 مزة جامدين طحن" تلبس كل واحدة شورت جينز "ساخن" وتى شيرت" ضيق إلى حد كبير. ظهرت الفرحة على وجهه قائلا: وبعدين حايعملوا فيهم إيه؟ قلت: "المزز" سوف تجلسن بصفة دائمة عند المجرى الرئيسى للنيل بين مصر وإثيوبيا. فى صوت واحد تساءل الجميع: ليه.. طب واحنا ينفع نروح نقعد معاهم؟ قلت: تقعدوا معاهم دى ماتنفعش، ثم بدأت أشرح لهم أن هناك دراسات أكدت أن مياه النيل تجرى بشكل أسرع عند رؤيتها وجوه جميلة، ويمكن أيضا أن تغير اتجاه سريانها، لذلك قامت الحكومة باستغلال "المزز" فى محاربة مجرى النيل الأزرق الجديد. رد أحدهم قائلا: دى فكرة جهنمية يسلم مخك ياريس، كمل ياباشا. قلت له: طبعا دى دماغ ألماظ.. المزز ستجرى "بخفة ودلع" على طول مجرى النيل فى اتجاه مصر، حتى تحول مياه النيل اتجاهها وتجرى خلف "المزز"، كى تصل المياه إلى مصر بسلام، وبالتالى لن تتأثر حصتنا، بل تعتقد الحكومة زيادتة الحصة سنويا بقدر وزن "المزز". انهيت كلامى، لكنى لم استطع أن أدارى ضحكة خرجت بصوت عال، اثارت غضب الجميع، وفضحت أمرى. قال صديقى: انت بتتريق علينا يا أستاذ دى أخرتها تعاملنا على اننا جهلة، واحنا اللى صدقناك وقعدنا "مطقطقين" وداننا علشان نسمعك. قلت له: حاش لله أن اتعامل معكم على أنكم جهلة، ولو فعلت لكنت أنا الجاهل، وأعلم جيدا أنكم تخافون على مصلحة البلد وأنكم على وعى ودراية بكل شئ. نظر إلى ماسح الأحذية الذى كان حاضرا للحديث منذ بدايته، وقال بفلسفة: "بقى هى المية هتجرى ورا المزز". قلت له: طبعا عشان مبتجريش فى العالى.