اهتز المشهد السياسي في مصر بشكل عنيف منذ صدور بيان المؤسسة العسكرية الذي عزل الرئيس وأوقف الدستور وحل مجلس الشوري بدعوي تنفيذ إرادة الشعب, غير أن هذا الإجراء مازال يغلب عليه الغموض ويفتقد التأسيس الدستوري والقانوني المقبول ويبدو أن المؤسسة العسكرية مازالت تحتفظ بمستشاري المجلس الأعلي للقوات المسلحة الذين جروا البلاد إلي فترة يسودها الارتباك وتفتقد الفكر الدستوري السليم. ولا أهدف من هذا المقال تقييم الموقف الآن لأنه مازال يتسم بالسيولة والغموض ولكني ألاحظ بتحفظ إغلاق محطات فضائية والقبض علي قيادات سياسية بطريقة فجة ثم استمرار مسلسل قتل المتظاهرين, ولكن ما يهمني في المقام الأول هو رصد الأحداث واستجماع عناصر تحليلها للتوصل إلي رؤية أقرب إلي الصحة للمرحلة المقبلة. والآن لا توجد لدينا أي مؤسسة ديمقراطية ويبدو أن الفترة الانتقالية ستطول لأن الصراع السياسي والأيديولوجي لم يحسم بعد ولأن المؤسسة العسكرية علي ما يبدو تميل إلي فصيل واحد ترمي عليه الأعلام من الطائرات وغير ذلك من الظواهر مثل القبض علي قيادات فصيل الأغلبية علي الرغم من تعهدها بعدم إقصاء أي فصيل. ولأن الكثيرين قد تنبأوا لمصر بالسيناريو الجزائري فقد رأيت لزاما علي أن أسرد تجربتي التي شهدتها علي الطبيعة في الجزائر أثناء عملي سفيرا لمصر بالجزائر, وبداية أحداث الجزائر مظاهرات عارمة ضد فساد الحكم الذي تديره المؤسسة العسكرية تحت رئاسة الشاذلي بن جديد الجنرال السابق الذي عينته المؤسسة, و اقتنع الشاذلي حينذاك بضرورة ضخ جرعات ديمقراطية خفيفة والسماح بتعدد الأحزاب بعد حكم الحزب الواحد جبهة التحرير الوطني, وهنا أجريت انتخابات للبلديات علي مستوي الجزائر كلها وكانت المفاجأة أن حزبا مجهولا أسس قبيل إجراء تلك الانتخابات يفوز بأغلبية ساحقة وهو الجبهة الإسلامية للإنقاذ بقيادة عباسي مدني وآخرين بقي منهم الآن علي بالحاج. وبدأت الجبهة الإعداد لدخول الانتخابات البرلمانية علي ثقة من حصولها علي الأغلبية وتشكيل حكومة إسلامية. وأحس جنرالات الجيش بالخطر ففاتحوا الرئيس الشاذلي بضرورة وقف الانتخابات خشية فوز الإسلاميين ولكن الرئيس هون من هذا الخطر لاحد سببين إما أنه لم يكن يتوقع الفوز الساحق للإسلاميين أو لأنه اقتنع بأنه حان الوقت للجزائر لتأسيس حكم ديموقراطي وانسحاب الجنرالات لمهامهم العسكرية. وفي فترة الدعاية الانتخابية كانت مصر مبارك غير مستريحة لصعود الإسلاميين خشية نقل التجربة إلي مصر وفقدان المؤسسة العسكرية المصرية سيطرتها, فوصلتني تعليمات من القاهرة تحظر اتصال السفارة بالإرهابي عباسي مدني, وقدرت وقتها أنه ليس من مصلحة مصر أن اقطع الصلة مع زعيم قد يصل للسلطة فقمت بمقابلته بمقر حزبه لأستشرف اتجاهاته حتي أقدم للقاهرة صورة واضحة تبني عليها سياستها تجاه الجزائر. وفي البداية هاجم الرجل سياسة حكومتنا المهادنة لأمريكا وإسرائيل وهاجم الإخوان المسلمين في مصر لأنهم مستأنسون للسلطة ولكنه أكد حاجتهم الشديدة لمصر الدولة للإسهام في مشروع إسكان شعبي كبير يصل إلي نصف مليون شقة, و لدعم تدريس اللغة العربية في مدارسهم وقال إنه سيستقدم آلاف المهندسين والمعلمين وإنه مقابل ذلك سيأمر باستيراد السلع والمصنوعات المصرية مفضلا لها عن الفرنسية والأوروبية. واستطردت متسائلا هل لديهم كوادر صالحة لإدارة الدولة إذا ما حصلوا علي الأغلبية فأكد ذلك ولكني تجاوزت فقلت له إنه ليس من صالح حزب وليد أن يتحمل مسئولية دولة وأن الأفضل أن يترشح بنسبة معقولة من المقاعد في حدود03% في الانتخابات الأولي إلي أن يدرب كوادره كما أنه ليس من الحكمة تجاهل وجود المؤسسة العسكرية داخل أجهزة الدولة فلم يوافقني. وخرجت من عنده لأرسال تقريرا للقاهرة قلت فيه إنني خالفت للصالح العام تعليمات مقاطعة الجبهة الإسلامية للإنقاذ وشرحت فيها مضمون المقابلة. ورغم أن الجبهة تجاوزت الحدود المعقولة فهاجمت رئيس الجمهورية ووعدت بمحاكمة وفصل الجنرالات المتربحين وأعوانهم من الفاسدين, لم يرضخ الرئيس الشاذلي لطلب الجنرالات إلغاء أو تأجيل الانتخابات وعلي رأسهم وزير الدفاع والجنرال العربي بالخير مدير مكتبه والذي كان صديقا شخصيا لي, و تمت الانتخابات وفازت جبهة الإنقاذ بالأغلبية وقبل إعلان النتيجة أعلن الجنرال خالد نزار وزير الدفاع تنحية الرئيس الشاذلي و إلغاء الانتخابات وتعيين أحد الشخصيات الجزائرية المعروفة وهو محمد بوضياف الذي كان يقيم بالمغرب رئيسا للجمهورية في19 يناير1992 و لكنه لم يلبث أن اغتيل في12 يونيو1992 في حادث غامض دبره الجنرالات علي الأرجح لأنه كان رافضا لتدخلهم في شئون الدولة. ودخلت الجزائر في دوامة حيث أنشئ المجلس الأعلي للدولة برئاسة علي كافي في92 يونيو1992 واستمر حتي30 يناير1994, وعين بعده رئيسا للجمهورية الجنرال الأمين زوال في30 يونيو1994 وبادر بطلب التنحي فأربك المشهد السياسي إلي أن عهد الجيش للرئيس عبد العزيز بوتفليقة الذي كونت معه علاقة ثقة وصداقة قبل توليه الحكم, ولكني أثرت أن أبقي مكاني كسفير وأقدر منصبه كرئيس دولة تولي الرئاسة والذي عالج نفوذ المؤسسة العسكرية بتعقل ووصل إلي نقطة توازن مقبوله ثم أرسي نظاما ديمقراطيا تعدديا وفتح صفحة جديدة في علاقات الدولة مع الإسلاميين بعد فترة طويلة من المواجهات المسلحة بين الإسلاميين و الجيش كلفت الجزائر آلاف الأرواح. ومن الملفت للنظر أن علي بالحاج زعيم التيار الإسلامي قد أصدر بيانا تعقيبا علي بيان القائد العام للقوات المسلحة في مصر وعزل الرئيس مرسي قال فيه إن الجبهة الاسلامية للإنقاذ التي انبثقت مشروعيتها من رحم الإرادة الشعبية والتي اكتوت بنيران الانقلاب علي الشرعية واصطلت بجحيمه وما كلف الجزائر عقودا من التخلف علي كل المستويات, تلفت انتباه الرأي العام العربي والإسلامي والدوليإلي أن الانقلاب علي الشرعية في مصر يعتبر تقليدا أعمي لم يجلب للشعب الجزائري لا أمنا ولا سلما ولم ينقذ ديمقراطية كما زعموا بل رمي بها في أتون حرب طاحنة كانت من محصلاتها أزيد من ربع مليون قتيل ولا تزال الجزائر لم تخرج بعد أزيد من عشرين سنة من عنق الزجاجة. وأترك البيان الجزائري بدون تعقيب إلي أن تتضح أمامنا. محامي بالنقض ومحكم دولي