حين أفضي مفكرنا الكبير عباس العقاد بعد تأمل إلي كاتبنا توفيق الحكيم برأيه في جائزة نوبل وشروطها وموقفه منها, سأل الحكيم نفسه: لماذا ينظر الغرب دائما بعدم اكتراث إلي الشرق العربي ولا يراه إلا كائنا جغرافيا علي هامش الحضارة الإنسانية؟ وقد اهتدي بعد تفكير طويل إلي إجابة مؤداها أن الشرق العربي يقف دائما من الغرب موقف السائل الذي يقول: اعطني حريتي.. إعطتي استقلالي.. اعطني علما.. اعطني أفكارا.. اعطني مبادئ.. إعطني...., بينما لو ان الشرق قال للغرب ذات مرة خذ مني فكرة تنفعك لنظر إليه الغرب فورا نظرة احترام واهتمام ولتأسست لديه عقيدة فكرية وقناعة أيديولوجية مؤداها ان المعرفة الإنسانية حين أرادت ان تخلد نفسها لم يكن ذلك إلا باسم غرور الإنسان! فأين غرور العرب الذي يمكن ان يسهم في صرح المعرفة الإنسانية؟! ومن هنا كانت وقفة الحكيم وتأملاته الهادئة وغروره الفكري وجموحه الواعي وشطحاته العبقرية التي ادخل بها أدبنا العربي طورا جديدا من أطواره. ولن ينسي تاريخ الأدب العربي في قديمه وحديثه مهما ينسي ما كان لكاتبه وفنانه توفيق الحكيم من أثر ملفت ومثير استطاع به ان يسجل لهذا الأدب قفزة جديدة ويسجل لنفسه في ذات الوقت معني من معاني الريادة في أكمل صورها واكثرها جلاء ووضوحا, ذلك لأن هذا الأدب لن ينسي ان كل ما استحدثته الآداب العالمية من فنون وتقنيات جديدة قد أوجد الحكيم صداها فيه حتي جعله نسيجا واحدا مع تلك الفنون. من هنا فالحكيم رائد بأروع وأعمق معاني الريادة وأرقاها ويتوج ذلك كله ريادته للمسرح العربي ولقد كانت أفكار الحكيم في جملتها من قبيل تلك الأفكار الموجهة نحو معالم الطريق لأنها أفكار من طبيعتها ان تظل محتفظة بقيمتها ورونقها مهما تغيرت الظروف وتداعت الأحداث التي أوحت بها ولقد كان اعتزاز الحكيم بأفكاره وإيمانه بها من إيمان الصدق لا المواربة حتي كتب لهذه الأفكار نصر وشموخ علي كل ما لاقت من أسباب المقاومة والاختلاف وما فوق ذلك. أقول إن ريادة توفيق الحكيم قد أتت علي غير سابقة لذلك كانت لها خصوصيتها التي لا يرقي إليها الشك وان جاز لنا ان نتحدث عن أحد مجالات هذه الريادة فلربما اقتصر حديثنا علي بعض ما حملت كتاباته من توجهات مستقبلية كانت لها دواعيها في هذا القرن الذي نعيشه وننعم بمنجزاته ونشفي منها أيضا بل نطلب المزيد من الشقاء أملا في مزيد من النعيم والسعادة! ولعل هذه الرؤية المستقبلية لم تكن بحال لتفوت كاتب مثل توفيق الحكيم لأنها تتضمن طرحا فلسفيا عن الماضي والحاضر والمستقبل أو إشكالية الزمن التي شغفت كثيرا من الفلاسفة والأدباء والعلماء أيضا وكم اتحفنا الحكيم بكم الأطروحات الفلاسفية والصوفية التي حاول بها ان تستكشفه النفس الإنسانية وما تنطوي عليه من أسرار ومجهولات, ذلك فضلا عن سباحته في عالم الأفكار المجردة المطلقة بعد ان بلغت منه الحيرة مبلغها فماذا كان من حصاد ذلك؟! لقد آمن الحكيم بالعلم وبقضاياه وفلسفته وطرائقه ومنظوراته ومناهجه وأدواته إيمانا مطلقا انطلقت ركائزه من إيمانه بضرورة التعامل الحي مع المستقبل الذي هو رمز لتقدم وتحضر الإنسان وعقلانيته في مسيرة ا الزمان فكيف انعكست تلك التقدمية في الرؤية والفكر بشكل جعل أعمال الحكيم تحمل مضمونات ذات طابع عالمي ربما تنافس في أحيان كثيرة مضمونات أدباء وكتاب اصبحوا عالميين بحكم الوضعية الحضارية لبلادهم ليس أكثر. ذلك إذا وضعنا الإنسان ومصيره كقضية معيارية يمكن ان نحتكم إليها وسط محددات وفروق تبين مستويات الكتاب وتشير الي من كانت له رؤية تقدمية متفائلة مشرقة وبين من كانت الرجعية هي منطقهم ووسيلتهم فلقد تصور الحكيم اختفاء الحروب وانقراض المرض وغلبة العلم وزوال الفروق بين الرجل والمرأة ومقاومة الجوع وانتقال الأفكار من رأس إلي رأس دون الحاجة للكلام, وكأنه أراد ان يقول ان الإنسان سوف يتحرر من أسر اشياء كثيرة لكنه لن يتحرر أبدا من طبيعته وصفاته وماهيته فرغم كل ما أحرزه فمازال شقيا لأن الإنسان هو ا لإنسان مهما تغيرت حاجاته وأدواته وهو دائما ودوما يظل محتفظا بكينونته البالية أقول إن الحكيم حين تناول قضية الإنسان ومصيره في إطار السياق التكنولوجي المستقبلي كان واقعيا إلي حد بعيد ذلك علي عكس أولئك الذين جعلوا من الإنسان ناسكا قديسا بعد ان تغير وتحول وتبدل لأن متغيرات المحيط الكوني قد استدارت واستقرت علي وضع جديد لم يكن من قبل وتبعا لذلك لابد ان يكون هناك إنسان جديد يتصف بالكمال ويترفع عن الحاجة والعوز ويصرع الموات! وعلي ذلك أو علي شيء من ذلك يري التقدميون ان السعادة التي ستتحقق للإنسان في المستقبل سيتاح لها منها قدرلم يعرفه هي سعادة من نوع آخر جديد وإن لم يستطيعوا ان يحددوا طبيعتها أو يقرروا ماهيتها رغم انهم كتاب مستقبليون ومبررهم في ذلك ان كل تصوراتهم ومفاهيمهم ستكون من نتاج الماضي المنصرم الذي لا تستطيع رؤيتهم ان تتجاوزه ولنسألهم لماذا لم يستطيعوا ان يتحرروا من الماضي وهم متوجهون للمستقبل بأفكارهم وخواطرهم وضمائرهم وإذا كان عدم التحرر من الماضي هو من هذه الصعوبة بمكان فما حاجتهم للكتابة عن المستقبل وما أهميتها إذا كانت أدوات الماضي هي الطريق إليها؟! وهكذا وضع الحكيم طابعا خاصا للعلاقة الجدلية بين الوعي والواقع في إطار جديد دون ان ينكر أثر مختلف التغيرات الاجتماعية والتاريخية الفكرية والتكنولوجية والمعلوماتية. فأين نحن من تلك البانوراما الكونية لا سيما ونحن نعدو للخلف بأكثر كثيرا من سرعة الضوء! رابط دائم :