وقف إطلاق النار فى السودان دون أفق لتسوية سلمية تحفظ وحدة أراضيه.. يساوى التقسيم وهو ما يسعى اليه الدعم السريع، الذى يسيطر الآن على الفاشر وكردفان وغرب السودان بالكامل وبعض مناطق الجنوب، بما يساوى ثلث مساحة السودان. هذا التوسع لم يكن ممكنًا لولا تدفق الدعم الخارجى خلال الأسابيع الماضية، إذ تلقّت قوات الدعم السريع صفقات كبيرة من الأسلحة الهجومية وأجهزة الاتصالات والطائرات المسيّرة، وهو ما أسهم فى قلب ميزان القوة، ممهّدًا الطريق لاحتلال الفاشر، الحدث الذى شكّل نقطة تحول مفصلية فى مسار الصراع. ورغم ذلك لم يفقد الجيش السودانى زمام المبادرة بالكامل، وتشير الاوضاع الميدانية إلى تقدم ملحوظ يحققه الجيش فى عدد من المحاور الهامة، خصوصًا فى الخرطوم ومناطق وسط السودان، ويحمل هذا التقدم بعدين رئيسيين: الأول عسكرى يتمثل فى استعادة مواقع ذات قيمة رمزية وإستراتيجية، والثانى ميدانى عبر التضييق على مراكز نفوذ الدعم السريع ومحاصرة بعض معاقله الأساسية. ويبرز العامل الاقتصادى بوصفه ركيزة أساسية فى استمرار الحرب، فالدعم السريع يسيطر على مناجم ذهب استراتيجية فى دارفور، مثل جبل عامر ومناجم سونجو، وتقدَّر عائداتها السنوية بنحو 860 مليون دولار، ومناطق اخرى غنية بمعادن منها النحاس والكروم واليورانيوم، تُستخدم فى تمويل صفقات السلاح وتعزيز القدرات العسكرية. ولا يمكن قراءة المشهد السودانى بمعزل عن التدخلات الخارجية التى تُعد العامل الأكثر تأثيرًا فى إشعال الصراع، فالثروات الطبيعية الهائلة فى السودان تبقى هدفًا لدول تسعى لتثبيت نفوذها عبر أطراف محلية مسلحة، وهو ما يجعل أى حل سياسى مرتبطًا ارتباطًا وثيقًا بإعادة ضبط التوازن الاقتصادى ورفع الأيدى الخارجية عن موارد البلاد. ومع تصاعد القتال وتزايد الضغط الدولي، بدأت الدول الداعمة للدعم السريع تتنصل تدريجيًا من مجازر الفاشر، فى ظل حملات الإدانة الواسعة والمطالبات المتكررة بمحاكمات دولية للمسئولين عنها، باعتبارهم متورطين فى جرائم حرب، وتأتى هذه التحركات عقب إعلان الدعم السريع عن محاكمات داخلية وُصفت بأنها صورية وغير حقيقية، فى محاولة لامتصاص الغضب الدولي. السودان اليوم يقف على مفترق طرق تاريخي، فإما أن يقود الصراع الحالى إلى تفكك الدولة، أو أن يشكل دافعًا نحو صياغة تسوية سياسية حقيقية تضمن وحدة البلاد وسيادتها، وتعيد ثرواتها إلى مسار يخدم الشعب لا حسابات السلاح. الخلاصة: الحرب لم تعد مجرد صراع مسلح، بل تحوّلت إلى تهديد مباشر لبنية الدولة ومستقبلها ووحدة أراضيها.. والتعاطى السطحى مع ملف وقف إطلاق النار، دون معالجة جذور الأزمة وترتيباتها السياسية والأمنية، قد يفتح الباب أمام سيناريوهات أخطرها التفكك وانزلاقه نحو التقسيم، وهى أهداف تتقاطع مع طموحات تسعى لإعادة رسم المشهد وفق حسابات خاصة.. والواجب إذكاء الوعى بخطورة المرحلة، والعمل على صياغة مسار سلمى حقيقى يُعيد للدولة هيبتها، ويحفظ للسودان وحدته وهويته وتماسكه قبل فوات الأوان .