بسيطرة ميليشيات «الدعم السريع» على مدينة الفاشر، عاصمة ولاية شمال دارفور، دخل الصراع السوداني مرحلة نوعية جديدة تتجاوز في دلالاتها حدود الجغرافيا الميدانية إلى عمق المعادلة السياسية والإقليمية في القرن الإفريقي والساحل. فسقوط الفاشر، التي كانت آخر معقل رئيسي للجيش السوداني في الإقليم الغربي، لا يمكن قراءته في سياق سقوط مدينة عسكريًا في صراع قوى، بل نقطة تحوّل في ميزان المعركة، قد تمنح الدعم السريع متنفسًا في إعادة التوازن العسكري بعد شهور من السقوط المتتالي.
وهنا تبرز أسئلة كبرى حول مستقبل السودان كوحدة سياسية، وحدود تمدد الصراع إلى الإقليم المحيط، في وقت تتقاطع فيه حسابات الفاعلين المحليين مع أجندات قوى إقليمية ودولية وجدت في الأزمة السودانية ساحة اختبار لنفوذها في واحدة من أكثر مناطق القارة حساسية جيواستراتيجية، وهو ما سنحاول الإجابة عليه في السطور التالية:
أولًا - الأبعاد الاستراتيجية للسيطرة على الفاشر
تُعد السيطرة على مدينة الفاشر تطورًا ذا وزن استراتيجي في ميزان الصراع السوداني، نظرًا لموقعها الجغرافي ودورها السياسي في معادلة دارفور، فالمدينة، التي تقع على تقاطع طرق تربط غرب السودان بشماله ووسطه، تمثل شريانًا لوجستيًا رئيسيًا يتيح لمن يسيطر عليها التحكم في خطوط الإمداد الممتدة مع الحدود التشادية والليبية، فضلًا عن كونها مركز ثقل سياسي واجتماعي يرمز إلى العمق التاريخي لدارفور في بنية الدولة السودانية.
ومن ثم، فإن سقوطها بيد «الدعم السريع» يعني تحولاً نوعيًا في هندسة السيطرة الميدانية التي تُمكّن هذه القوات من الانتقال من مرحلة الدفاع إلى إدارة الهجوم والتخطيط التوسع خارج المدينة، في ظل سيطرة من قوات الجيش على الجزء الأكبر من المدن والأقاليم الاستراتيجية في السودان.
صحيح أنه من الناحية العملياتية، تمكّنت «الدعم السريع» من توظيف تكتيكات الحرب المتحركة والالتفاف الجغرافي حول مواقع الجيش، معتمدة على مرونة التموضع والقدرة على المناورة في بيئة تضاريسية وعرة، وهو ما منحها ميزة ميدانية على القوات النظامية التي تعاني تشتت القيادة وصعوبة الإمداد، غير أن المؤكد أن القيادة المركزية في الخرطوم، لنتقبل بأي صورة بأن يظل الإقليم خارج سلطة المركز، وأن تظل خطوط التواصل بين الخرطوم وغرب البلاد منقطعة عسكريًا.
وتتجاوز الأبعاد الاستراتيجية البُعد العسكري إلى المستوى السياسي والإقليمي؛ إذ إن الفاشر تشكل بوابة للامتداد نحو الحدود الغربية، الأمر الذي يفتح أمام «الدعم السريع» مساحات أوسع للتفاعل مع شبكات الدعم غير الرسمية، سواء على صعيد الإمداد اللوجستي أو التمويل غير المباشر.
ورغم أن هناك رؤية رمادية للوضع، بأن يجد الجيش نفسه محاصرًا جغرافيًا في الوسط والشرق، ما يدفع نحو فرضية تفكك الدولة إلى مناطق نفوذ متوازية، ويضعف أي إمكانية قريبة لاستعادة المبادرة الميدانية، لكن قد يكون الأمر في إطار مناورة تكتيكية من قبل قوات الجيش.
ويعزز ذلك تصريحات الفريق أول عبد الفتاح البرهان، الإثنين الماضي، في خطاب بث عبر التلفزيون الوطني، بقوله: "وافقنا على انسحاب الجيش من الفاشر لمكان آمن"، مؤكدا أن قواته "ستقتص لما حدث لأهل الفاشر"، وبالتالي نحن في انتظار جولة جديدة من القتال في محاور المدينة.
وعلى المستوى الإقليمي، تبدو السيطرة على "الفاشر" اختبارًا لمدى قدرة الدول المجاورة — خصوصًا تشادوجنوب السودان — على ضبط حدودها في مواجهة تمدد محتمل للقتال أو لتدفقات بشرية جديدة، في ظل بيئة هشة سياسيًا وأمنيًا.
كما أن التحول الجديد يفتح شهية بعض القوى الخارجية لتوظيف الأزمة ضمن صراعات النفوذ في القرن الإفريقي والساحل، خاصة أن "دارفور" تمثل نقطة تماس بين ثلاث دوائر استراتيجية: شمال إفريقيا، ومنطقة الساحل، والبحر الأحمر، لذا نحن أمام مرحلة تعيد رسم حدود التوازن الإقليمي، ويؤسس لمرحلة من السيولة الأمنية والجيوسياسية قد تمتد آثارها إلى ما وراء الحدود السودانية نفسها.
ثانيًا- تداعيات الأزمة على المشهد السوداني والإقليمي
يشكل استيلاء قوات الدعم السريع على مدينة الفاشر نقطة تحول مركزية في مسار الحرب السودانية، لما تمثله من بوابة استراتيجية نحو الغرب ومركز ثقل قبلي واقتصادي بالغ الأهمية، ف "الفاشر" كانت تاريخيًا مركزًا للتوازن بين المكونات القبلية في دارفور، وسيطرة الدعم السريع عليها تمثل – فعليًا – انهيارًا لمعادلة الضبط المحلي التي ظلت قائمة منذ اتفاقية أبوجا 2006 وحتى اندلاع الحرب الحالية عام 2023.
فعلى المستوى الداخلي، تدفع هذه السيطرة باتجاه مزيد من التفكك في بنية الدولة السودانية، إذ يتكرس واقع "الدول داخل الدولة" مع فقدان الجيش لسيطرته على مناطق واسعة في الغرب، مقابل تموضع "الدعم السريع" كسلطة أمر واقع، وهو ما يضعف فرص أي تسوية سياسية قريبة؛ لأن توازن القوى الميداني في هذا الإقليم بات يميل لصالح طرف غير معترف به دوليًا ككيان سياسي مستقل، مما يخلق مأزقًا مزدوجًا أمام الوسطاء الإقليميين والدوليين.
واقتصاديًا، تمثل "الفاشر" عقدة لوجستية مهمة بين السودان وتشاد وجمهورية أفريقيا الوسطى، وسيطرة الدعم السريع عليها تعني تحكمًا فعليًا في طرق الإمداد العابرة للحدود، سواء في التجارة المشروعة أو تهريب السلع والسلاح، وهو ما قد يمنح هذا الفصيل موارد مالية إضافية تعزز استدامة الصراع.
أما على الصعيد الإنساني، وهو الأخطر فإن الكارثة تتفاقم بوتيرة غير مسبوقة؛ ف "الفاشر" كانت تضم أكثر من مليون نازح من ولايات دارفور الأخرى، وتحولها إلى ساحة قتال يعني عمليًا انهيار شبكات الإغاثة وتفاقم الأزمة الغذائية في غرب السودان، ناهيك عن جملة المذابح التي ارتكبتها قوات الدعم السريع، الأمر الذي نتج عنه نداءات دولية بضرورة فتح ممرات آمنة للمدنيين.
ومع انسحاب المنظمات الدولية لأسباب أمنية، يُتوقع أن تتضاعف أعداد النازحين نحو الحدود التشادية خلال الأشهر المقبلة، وأيضًا المصرية والليبية، في مشهد يذكّر بأزمات مطلع الألفية التي أعادت السودان إلى دائرة الاهتمام الإنساني العالمي.
وتقول تقارير ميدانية، إن ميليشيات الدعم السريع نفذت عمليات قتل واسعة بحق المدنيين في الفاشر واختطفت عدة أطباء، وهو ما أكده بيان القوة المشتركة للحركات التي تقاتل إلى جانب الجيش السوداني، بأن هناك جرائم بشعة بحق المدنيين الأبرياء، حيث تمت تصفية وقتل أكثر من ألفي مواطن أعزل يومي 26 و27 أكتوبر، معظمهم من النساء والأطفال والشيوخ.
ودانت القوة المشتركة "ما ترتكبه قوات الدعم السريع من جرائم ضد المدنيين"، وحملت تحالف "تأسيس" والدول الداعمة لقوات الدعم السريع كامل المسؤولية الجنائية والأخلاقية والقانونية عما جرى ويجري في مدينة الفاشر من انتهاكات تمثل جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية وجرائم إبادة جماعية، مطالبة الأممالمتحدة ومجلس الأمن والمنظمات الدولية والحقوقية بضرورة تصنيف الدعم السريع منظمة إرهابية، وتقديم الجناة للعدالة الدولية.
لذا لا تقتصر تداعيات سقوط الفاشر على بعد عسكري أو جغرافي فحسب، بل تمتد لتعيد رسم خريطة الصراع داخليًا وإقليميًا، وتضع السودان أمام مفترق طرق بين انهيار الدولة أو إعادة هندسة بنيتها عبر تسوية جديدة تفرضها موازين الميدان.
أمام التحولات الميدانية التي كرّسها استيلاء "الدعم السريع" على مدينة الفاشر، تبدو الأزمة السودانية مقبلة على أحد ثلاثة مسارات رئيسية، يتحدد كلٌّ منها وفق تفاعل ميزان القوة العسكري مع الموقفين الإقليمي والدولي.
السيناريو الأول يتمثل في: استمرار الحرب وتحوّلها إلى صراع طويل الأمد على غرار النموذج الليبي، حيث يترسخ الانقسام الجغرافي والمؤسسي بين شرقٍ يسيطر عليه الجيش وغربٍ تديره قوات الدعم السريع، وهذا السيناريو يعززه غياب إرادة سياسية حقيقية لدى الطرفين للتفاوض، إضافة إلى تزايد تدفقات الدعم الخارجي غير المعلن، سواء من أطراف إقليمية ترى في إضعاف الجيش وسيلة لتقليص نفوذ الخرطوم التاريخي، أو من قوى تبحث عن موطئ قدم في الممرات الحدودية الغنية بالموارد.
لكن هذا المسار يعني عمليًا دخول السودان في مرحلة "اللا دولة"، بما يصاحبها من تصاعد للنزعات الانفصالية في دارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق.
السيناريو الثاني هو "إعادة تموضع سياسي – عسكري" تُفرض فيه تسوية هجينة بضغط دولي، شبيهة بما حدث في جنوب السودان عام 2015، تقوم على إشراك الدعم السريع في معادلة الحكم مقابل وقف إطلاق النار وإعادة هيكلة المؤسسة العسكرية.
ورغم أن هذا المسار يحظى بدعم بعض الأطراف الغربية والإفريقية، فإنه يصطدم بعقبتين رئيسيتين: أولاهما رفض المؤسسة العسكرية لأي تسوية تُضفي شرعية على الدعم السريع، وثانيتهما هشاشة الضمانات التي يمكن أن تضمن التزام الطرفين بوقف القتال في ظل انعدام الثقة المتبادل.
أما السيناريو الثالث والأقل ترجيحًا على المدى القصير، فهو "استعادة الجيش زمام المبادرة" عبر إعادة تجميع قواه في الوسط والشرق، بدعم إقليمي مباشر، ما قد يؤدي إلى إعادة توازن ميداني يفتح الباب أمام تفاوض بشروط جديدة.
لكن هذا الخيار مرهون بقدرة الجيش على تجاوز أزماته اللوجستية والانقسامات الداخلية، فضلاً عن ضبط خطوط الإمداد التي باتت تحت سيطرة خصمه في الغرب.
في المحصلة، تعكس هذه السيناريوهات أن الصراع في السودان تجاوز مرحلة التنافس على السلطة إلى مأزق بنيوي يمس طبيعة الدولة نفسها، وأن أي تسوية قادمة لن تكون محلية فحسب، بل ستتحدد وفق حسابات أوسع تتعلق بتقاطع النفوذ، فضلًا عن موقع السودان في معادلة البحر الأحمر والقرن الإفريقي، وبذلك، يغدو استقرار السودان مرهوناً بصفقة إقليمية شاملة تُعيد ضبط التوازنات بدل الاكتفاء بتسويات جزئية لا تصمد أمام واقع السلاح.
وختامًا، وفي ضوء ما تقدّم، يتّضح أن استيلاء الدعم السريع على مدينة الفاشر لم يكن مجرد تحوّل ميداني عابر، بل محطة مفصلية في مسار الأزمة السودانية تنذر بإعادة تشكيل عميقة لتوازنات السلطة داخل البلاد، وانعكاسات تتجاوز الحدود الوطنية إلى الإقليم برمّته.
فالمشهد الراهن يعكس تآكل البنية المركزية للدولة وتنامي سلطة السلاح على حساب المؤسسات، بما يعيد السودان إلى مربع الصراعات المفتوحة التي لا تخضع لمنطق السياسة أو التسوية.
كما أنّ العجز الدولي والإقليمي عن بلورة مسار موحّد للحل يُفاقم من تعقيد الأزمة، إذ تتقاطع المصالح الأجنبية في مسرح سوداني مفتوح على كل السيناريوهات، من استمرار المواجهة إلى ترسيم مناطق نفوذ بحكم الأمر الواقع.
وفي كل الأحوال، تظل الكلفة الإنسانية والسيادية مرشحة للارتفاع ما لم تُدرك الأطراف الفاعلة أنّ الحفاظ على وحدة السودان لم يعد خيارًا سياسيًا، بل ضرورة وجودية لمنع تمدد الفوضى إلى محيطه الإفريقي والعربي.
إنّ مستقبل السودان اليوم مرهوناً بقدرة الفاعلين الإقليميين على الانتقال من إدارة الصراع إلى إعادة هندسة الإقليم على أسس الأمن الجماعي والمسؤولية المشتركة، فدارفور التي كانت يومًا مسرحًا لحروب الهامش، أصبحت اليوم مرآة تعكس هشاشة النظام الإقليمي الإفريقي في مواجهة الأزمات المركّبة.
ويبقى السؤال المفتوح: هل يمتلك الإقليم إرادة بناء مقاربة واقعية تُنقذ السودان من التفكك، أم أنّ الفاشر ستكون عنوانًا لجولة جديدة من إعادة رسم الخرائط في قلب القارة؟