فوضي كاملة وظلام, ارتطام, ساق تتقدم ساقا, تحسست نقاط ومواضع, لامست يدي زر النور, يوم آخر ينتهي بي للمكان, عقب وصولي مباشرة وثب الهاتف, أعرف انها تتحدث دائما في ذات التوقيت, تولي جهاز الرد الآلي المهمة, ارتفع صفيره ومن ورائه صوتها يصرخ بعصبية شديدة: أنت اذن لا تقدر تضحياتي وتعتبرني( بايرة) ورامية نفسي عليك, طيب حتشوف؟, ارتطام آخر صك أسماعي, خاطرت بالاقتراب منه وإعادة شريط الرسائل المسجلة, وتركت لي عددا آخر كبيرا قبل رسالتها الأخيرة, تذكرت عددا آخر من نصائح الأقارب والأصدقاء ألا أقترب منها, تستاهل ادفع ثمن غبائك واندفاعك نحوها, سوف تضغط علي أعصابك من الآن ولشهور قادمة, كانت دائما كابوسا, لم أبذل ضدها ما يستحق من المقاومة, فضلت أن أهرب من الساحة, أغلق كل وسائل الاتصال, ذلك يمنعها حتما من حشد قواها, لن تطولني, نعم سوف أظل هاربا لشهور طوال, أطول من تلك المدة التي اختفي فيها خطيبها السابق صحيح أن موضوعنا لم يصل إ لي إجراءات الارتباط الرسمي مجردش كلام وجس نبض, الا أنه لم يمنعها من أن تعتبره كما لو كان كتب كتاب, لو كنت أعرف.. آه لو.. لا فائدة, تلمست طريقي حتي السرير وسرعان ما غرقت في كوابيس جديدة تماما. *** يمتلك بلورة سحرية, يمكنك أن تشاهد فيها صفاء السماء وغروب الشمس وزرقة البحر, لم أصارحه بأن عينيه تأسراني بشدة, أحس بأنني أتطلع فيهما بجرأة من له الحق في الإطلال علي روحه من خلالهما, سمح لي دونما مساءلة, مثلي لا يريد افساد متعته, ما يبثه هذا من غرور في كيانه وهو يراني تابعة مقتفية أثر خطواته, أثر نظراته وكأني لا أريد أن يتحول عني لحظة, أعترف بأنني أجرأ منه في التعبير عن مشاعري لكنني لست ماهرة مثله في جذب الآخرين الي جانبي, تعارفنا جاء بسيطا وأحسبه عفويا تماما, جو خريفي مثالي, قدم نفسه قبل أحد الاجتماعات في المؤسسة التي أعمل بها, جاء مسلحا بإحصائيات وخرائط للأسواق وخطط تباهيت بأنني مهندسة التصميمات فقال: أعمل مع هشام أبو الغضب, طفح الاندهاش علي وجهي فأسرع يوضح: هشام أخو المهندس هاني مدير ادارة الشركة, أطلقت عليه هذا الاسم لأنه لا ينفك يغضب علي كل وأي شيء ابتسمت في جفاء وأنا أردد: جرأة تحسد عليها, عقب بتحد: انها كذلك فعلا؟ ابتعدت, لم يعجبني, لا طريقته ولا معابثاته التي تصل لدرجة الاستخفاف بمديريه, لكنه نجح في تشتيت تركيزي في عملي لصالح أن أتابع ما يقوم به, كان قد استحوذ علي جميع من في صالة الاجتماع يدعي أنه عليم بحركة السوق, كيف يتم ترويض العملاء, وجعل موضوعات الماركت في خانة الإثارة رغم جفاف بحوث التسويق والأرقام, أصبح هشام مديره المباشر مؤيدا ومناصرا لاقتراحاته بحماس, صديقان يغطي كل منهما الاخر, أظن انني انبهرت وقتها حسن نظرتي إليه, بدا مناسبا لفتاة مثلي, عرفت طريق ادارة المبيعات والمنافذ ومعارض الشركة في القاهرة والمحافظات, أصبحنا نخرج معا, اخترع مبررات لالتصاقي به في العمل وبعد انتهائه, تغير طعم الدنيا, نظرت فإذا اليوم كئيبا اذا لم التقيه الدقائق ساعات والأيام دهور اذا سافر وبعد, مضت الايام مسرعة لتقارب العام وانتهزت أول فرصة تالية لكلام مباشر في سبيل عرض واضح, في أثناء عشاء هاديء قال: رائع ذلك الثوب, ماذا فعلت كي يكون هكذا, يتملقني بشدة أو قد حان الوقت: كنت قلقة ألا يعجبك, فالكم قصير ويصف الذراعين, أسرع بالمقاطعة : لكنه يخفي الصدر والسيقان وهذا هو المهم, ارتسم تعبير علي وجهي دهشة وامتعاضا, أكمل: أعني أنه جميل ويصد لصوص النظر, أدرك ويعجبني ذوقك الراقي في الاختيار, ها قد بدأ يتصنع المديح, عباراته تخرج مضطربة وباهتة وتغيرت ملامح وجهه, سارعت بانتهاز الفرصة: كنت قلقة ولكن لماذا أقلق تعابير الاستفسار وهو يردد عبارة القلق ذاتها, تراجعت يده الممدودة عبر الطاولة وتحركت أقدامه تحتها, هززت رأسي مرات: ما بيننا قد أصبح حالة تستدعي العلاج, حوارات تليفونية لا تنقطع ليلا أو نهارا, شكل العلاقة بيننا يضايقني, يضغط حتي في أحلامي, حلمت أنني أقبض علي رقبتك بكلتا يدي ضحك: لا يزعجك هذا فهو فأل حسن, حين تتعلق فتاة برقبة حبيبها فهي إشارة لارتباطهما, ما عدت أدري إن كان يتهكم ليخفي مفاجأته بهجومي أم هو جاد ونيته تنصرف إلي, لقد اقتربت من مما أريد. *** أملا ألا يراه النائمون, تخفي النور وصعد رويدا حتي قمة سطح البرج المقام علي رقعة ربوة في ارتفاع التل السامق, قادمون من مسافة, سنفطر معا, استقبلنا نباح كلب صغير, بالكاد يعرفنا لو أن ذاكرته تحتفظ بلعبنا معه وبه كان يرمح وراء السيارة وهي تقترب من المنزل, ليس منزلا, انها أرض وحديقة ودوارا بسعة القصر, لا يربون كتيبة كلاب, مجرد عجرود أبيض نادر المثال يضيف وجاهة طبقية علي ابنتهم شودي, كان ينتظرنا علي أطراف السلم تخطاه حتي وصل مكان إيقاف السيارة وها هي اللحظات حتي احتوانا التراس والترحاب الحار, سارعت بالقفز حين أطلت, تنتظر قدومنا بالتأكيد تفاصيل كثيرة تغيرت لا تخفي عن عين مراهق يلتقي برفيقة صباه, تصنعت الوقار وهي تميل مقبلة أمي, أختي الاصغر, لاحقتها عبارات صرت كبيرة الآن لا أنكر, جو البلد بيكبر قبل الآوان ألن نلعب؟, صيحة استنكار: ولد؟! يضحك عم هشام ويقذف بكلمة: يشبهك, تتدخل أسماء الصغيرة: انت لن تلعب معنا؟ قاطعها: ليس اليوم, من باكر أما اليوم فمسموح باللعب حتي مطلع الفجر, لم أكن أريد أكثر من ذلك, سرعان ما احتوتنا المروج حتي الغروب, هذا آخر عهدي بتفاصيل حياة الأولاد, انتصف الليل ودارت الالعاب وانتهت, صاحت في لحظة انتصار والنوم يداعب جفون أسماء, لا نوم حتي يحين صباح اليوم التالي, تمطعت بتثاقل وقالت: أنا باص, التصريح ل تامر لا يشملني, الآن أود أن أنام( بحركة صبيانية) سوف نفتقدك كثيرا يا أخي؟ تساءلت شودي: بجد, اذن ستفوتك حكاية زواج أمك من أبيك فقد أوشك الا يتزوجها وأبي هو الذي..., تصبحي علي خير اسمعيها من تامر فيما بعد, تنبه كلانا, انخرطنا في محايلات حتي بدأت القصة. *** كي تخرج كتابا من رف مكتبته عليك بإخراج آخر, ربما وضعته المصادفة علي يمين أو يسار الذي شد أنظارك عنوانه, لمع ببريق الافكار وحين انتزعته وتخلخل من مكمنه وكأنه حجر ينفصل عن جبل كان لا يزال الرف والصف متماسكا, غلاف أنيق فاخر التجليد, عنوان مثير للخيال, المؤلف؟ غريبة انه اسم والدي تامر صالح, سنوات الألف حكاية, طالعت العناوين, التواريخ, يسرد قصة حياته, صوت نداء يتكرر مكتوما في بادئ الأمر ثم مرتفعا وهو يحث الخطي نحو باب المكتبة ساعدتني خفة الحركة والأركان المظلمة وتعاريج ومنحنيات الجوانب علي التخفي, أطلت وكل شيء هاديء تماما, كما تركها قبل الرحيل, تحافظ عليها نظيفة من الغبار, ولولا ذلك لعرفت باقتحامي المكان, قررت أنه من المستحيل التخلي عن كنزي فذكرياتي عنه لم تتعد صورته الباسمة في بواكير الطفولة وعددا قليلا من صور الالبوم اتخذ الكتاب موضعه بين حنايا الصدر, أحكمت عليه حزام الترننج وتحرك بخفة مغادرا مغارة الأسرار, أخفي عنها تحدر الدموع كلما انتهيت من قصة له, لحظاته بين الترح والفرح, عاش سنواته متفائلا قادرا علي إشاعة الحب فيمن حوله, بقيت قصة, قصة واحدة وينتهي الكتاب؟! أرجأتها حتي يحين الميعاد. أحمد محمد جلبي باحث معهد البحوث والدراسات الافريقية جامعة القاهرة رابط دائم :