بمجرد ولوجى من الباب الزجاجى، وجدت مرآة فى المواجهة، رأيت نفسى أنيقا مرتديا بدلة رمادية أرسلها لى ابنى من مهجره مع الطرد الذى يحمل أحدث أدوية الأعصاب. طوال الطريق كان الناس يحدقون فى وجهى وهيئتى ثم يبتعدون مبتسمين، رغم هدوئى الشديد وابتعادى عن النظر فى واجهات المحلات أو الوقوف أمام فاترينات الروائح، لإحساسى بأن العطر الذى رششت منه ثلث زجاجته عل البذلة والكرافتة والكاسكيت لا يضاهيه من العطور المعروضة أغلاها. كانت الشمس ساطعة مما عكس على المرآة وضوحا ناطقا لهيئتى، ولمعانا لوجهى وصلعتى بعد أن خلعت الكاسكيت-التى أهدتنى إياه ابنتى مع الكرافتة وخطاب «تمنى» بطول العمر ووعد بأنها ستكون معى فى عيد ميلادى القادم –حتى أساوى من الشعيرات المتناثرة على الفودين. استقبلنى الصديق وقدمنى للحضور من الفنانين والتشكيليين بحفاوة بالغة وابتسامة مرحبة. - الأستاذ علوى ذواق للفن ومناضل قديم. ثم اقترب بأنفه نحو كتفى ساحبا نفسا عميقا مغمضا عينيه نصف إغماض أراهن أن العطر باريسى لكن اسمح لى الجو كويس وما كان فيه داعى للبالطو، كفاية شياكة البذلة اصطحب أصدقاءه ليجوبوا عبر اللوحات المتراصة على جدران المعرض، معظم اللوحات تحتاج إلى متخصصين ليشرحوا مقصد الفنان. كان إحساسى ينتقل من لوحة الوجه المقسوم نصفين بينهما شارعا إلى نصف وجه فوق عنق مكسور. - لو طلعت المظاهرات تانى هاكسر رقبتك. كان أبى يعنفنى ويحملنى مسؤولية تأخر زواج أختى لتفاهتى وانشغالى بأمور أهم من المذاكرة. مات أبى وتزوجت أختى فى الشقة مع أمى وكان الشارع يستقبلنى منذ انتهاء عملى فى تحصيل فواتير الكهرباء. أنظر البيوت العالية. واجهات المحلات، أرقب الشمس وهى تتجه إلى مبيتها ويحل الظلام. أذهب إلى الشقة للنوم فقط على الكنبة الملاصقة لسرير أمى، أصحو مع أول خيط للشمس ينقر فى زجاج النافذة، أخرج لأستقبل الشارع الهادئ قبل أن يعود إليه ضجيجه، أدس وجهى فى السماء الزرقاء، كهذه اللوحة سماء زرقاء بلا قمر، وهذا القمر بدون سماء وحده فى لوحة. كما كنت أراها، أعطيها الفاتورة، تختفى دقائق أتلصص خلالها من الباب الموارب لا أسمع صوتا ولا همسا حتى تعود تمد يدها بالمبلغ، توصد الباب بابتسامة مطرقة للأرض، أنسحب هابطا درج منزلها مغمضا عينى على ابتسامتها، أفتحهما على السماء لأجد ابتسامة قمر مستديرة تهب السماء نعمة النظر إليها، لا اصفرار فيها ولا بقع بنية كتلك اللوحة الصفراء التى ينتشر عليها البقع البنية. تبحث نظراتى عن صديقى الفنان ليشرح لى ما استعصى. معظم اللوحات تطل منها عيون تنظر إلى مشاهديها. أحيانا تطل العيون من أعلى اللوحة، من جانبها، من أسفلها .هذه النظرات ليست غريبة ولا محايدة، لكنها تخترق مشاهدها بعمق، حتى هذه اللوحة التى يطل منها وجه امرأة جمع فيه الفنان كل إمكانياته ليبرز مفاتن عينيها، ناعسة، كحيلة، واسعة، واضحة فى مطلبها للأمان. اخترقتنى نظراتها، تماما كما كانت قمر تنظر لى لم أصدق نفسى عندما أغمضت عينيها موافقة وقالت أختى – ربنا فتح عليك. عروسة وشقة. خذ أمك معك ارتبك جسدى الساخن واختفى الصديق وقل الحاضرون جدا، واحد، اثنان، ثلاثة. أخرجت منديلا ورقيا، عدت إلى المرآة كانت الشمس فى الخارج قد بدأت تهبط متجهة للغروب، اصطك الباب الزجاجى، فبقى اثنان وأنا ثالثهم وصوت الموسيقى المصاحبة للأنوار، رومانسية، ناعمة تبعث على التأمل. راحت عيناى تعيد النظر إلى اللوحات. فى ركن منزو كان برواز ذو إطار مختلف، عنق معلق على كتفين، يتدلى من العنق سلسلة فى نهايتها المثلثة طائر فوق صدر تداخلت فيه الألوان. هل هذا هو الهدهد؟ قلت فى نفسى مقربا عينى من الطائر. كان أولادى يحبون الطيور، فى كل ركن قفص عصافير، ببغاوات، ألوانها مختلفة، زقزقتها متشابهة. - يا أولاد، البيت أصبح ولا محل العصافير. - يا بابا أنت بتحب القراءة وإحنا بنحب العصافير. تسمرت أمام هذه اللوحة، البورتريه المبتور، كتب تحتها الرسام – طائر فى العنق-لوحة قديمة من بداية الخلق-من الممكن أن أضع رأسى مكان الفراغ؟ يدق الباب بعنف، الأولاد يدفسون رؤوسهم فى البطاطين، يعرفون موسماً يقضونه بمفردهم، كما أقضيه بمفردى فى ضيافة الطوارئ، ومزيد من كرم الضيافة، رفضوا حضورى جنازة أمى. هل سيكون وجهى كما يقول الفنانون عبارة عن وجه بيولوجى معروض مجرد عرض فى لوحة؟ تخرج من قمقم ذاكرتى وجوه من الممكن أن تعبر عما يدور فى هذا الصدر المحتدم البالغ التعقيد، مثل الروح التى أشعر بخروجها من هذا العنق المبتور. نظرات الأبناء فى وداعهم واحدا تلو الآخر، كانت تخترق صدرى كنظرات هذا الطائر، حادة، قوية، متماسكة. إنها تتحرك فعلا فى فضاء اللوحة الخفى. رجعت إلى المرآة فى محاولة لتهدئة انفعالى باللوحة. كيف سيكون وجهى فوق هذا الصدر؟ وجه حزين، وجه قاس. تحسست وجهى، خلعت الكاسكيت، علقته على مشجب بجوار المرآة. لابد أن يكون الوجه الذى سيركب فوق هذا العنق، أن يمارس بعض السحر على مشاهديه. عدت إلى المرآة متحسسا وجهى الملتهب، صفعات أبى والعساكر، بلاط الزنازين. الخطابات التى تشى بعدم العودة للوطن والتمنى بدوام الصحة. البقع الحارقة من إطفاء السجائر التى تسببت فى زحف الصلع لرأسى. الصديق الذى اختفى من معرضه. هذا الطائر الذى يصفعنى بنظراته، يحدق فى عينى. رقبته تتجه مصاحبة عينيه نحوى. أدرت وجهى، عبثت عينى بأعين اللوحات الأخرى. الطائر يحاول الانفراط من العنق. ترددت أن أصفعه، تمالكت، عدت إلى المرآة، خلعت بالطو ابنى الأكبر، علقته على المشجب الآخر بجوار الكاسكيت. تحسست رقبتى، فككت الكرافتة، سحبت شهيقا عميقا من الموسيقى، لم أجد غيرى. هدأت قليلا. عدت أتأمل أعين تلك المرأة، بينما كنت أحرر ذراعى من أكمام البذلة، والمرآة تعكس السماء وانسحاب الشمس من الأفق. كانت قمر تجرى خلف السيارة التى أقلتنى إلى مقر الضيافة تستجيرهم بكيس علاجى، سمعت صوت اصطكاك الإسفلت بعجلات سيارة مسرعة وارتطام رأسها الذى انفجر فى الحال.اصطدمت نظراتى –دون قصد بالطائر –رأيت ظل الغروب يهرب من خلفى فى المرآة، بينما كان الطائر يتدلى من عنقى. قصة : على الفقى كفر الزيات روائى وكاتب قصة، عضو اتحاد كتاب له بوابات اللهب رواية نسيج أبوالعلا رواية – الجانب الآخر من النهر الذبيحة قصص فوق المظلة قصص- جائزة هيئة الفنون والآداب فى القصة القصيرة سنة 1984 حصل على جائزة الرشيد العراقية فى القصة القصيرة سنة 1987 وجائزة الهيئة العامة لقصور الثقافة- إقليم وسط وغرب الدلتا الثقافى مركز أول رواية وجائزة إحسان عبدالقدوس مركز أول رواية سنة 1999 وجائزة نادى القصة فى القصة القصيرة سنة 2002 وجائزة أحسن قاص- إقليم وسط وغرب الدلتا الثقافى -2007