سمعت خربشة علي الحائط، أعقبه ارتطام شيء بالأرض.. قمت متململاً.. أبصرته يعاود تسلق الحائط، من فوق كرسي لصقه. ماذا دهاه..؟! صعدت بنظري أعلي الحائط.. دجاجة تبلتها ووضعتها علي الرف، حتي أنهض فأضعها في الفرن. يا لطفاسة هذا القط.. ألم أفتح لك علبة من طعام القطط الخاص، غير عابئ بانتقاد زملائي في المحل بتدليلك، وهل جزائي ألا أنعم بساعة راحة في القيلولة، قبل استئنافي العمل، لأنني أشفقت عليه من الوحدة في المحل لو أغلقت عليك. لوحت بيدي غاضبة، فقفز إلي حافة نافذة تطل علي الساقط، صحت محذراً وأسرعت الخطي، وأنا علي وشك الإمساك به، انزلقت أرجله وهوي. نزلت السلم مسرعاً. تحسست أضلاعه.. نظراته تغيب، وأنينه يخفت. هل اتصل بصاحبه وقد أوشك علي النهاية..؟! خشيت أن يتهمني بسرقته، ويحملني مسئولية ما حدث له، خاصة وقد وزع منشوراً علي المحال في شارعنا عندما فقده، ذكر فيه أن القط خجول ولا يأكل إلا نوعاً معيناً من اللحم البقري، ورجا من يجده أن يعامله معاملة حسنة، ووعد من يرجعه بمكافأة مالية كبيرة. ولست أدري ما الذي جري لنا فور قراءتنا للمنشور.. انفجرنا في عاصفة من الضحك، ووضعنا أمام القط ساخرين فتافيت ناجمة عن تقطيع اللانشون وأخري من الجبن، والقط معرض عنها ويموء. وإمعاناً في السخرية، سكبت بعض القهوة من فنجان كان في يدي ساعتها، في الطبق الصغير، تذوقها وتطلع إليَّ. قال أحد العمال: ابن ناس معتاد علي القهوة باللبن. أخرجت كيس لبن من الثلاجة وسكبت قليلاً منه علي القهوة وأضفت نصف ملعقة من السكر، ولدهشتنا لعقها بسرعة نمت عن جوعه. وتأكد لي أنه قادم من الحي المجاور لحيِّنا، حيث العمارات المرتفعة في جوارها عربات مركونة من أحدث طراز، وأنه القط الذي عناه المنشور. همدت حركته تماماً. وطردت ما جال في خاطري.. أن ألقي به في القمامة، وغداً تحمله عربتها وينتهي الأمر، وقد تراءت لي صورة قط ألقاه أحدهم فوق كوم القمامة عند عمود الإنارة في أول الشارع، منظره بشع وقد خرجت أحشاؤه وتجلطت دماؤه. حملت القط إلي شقتي، ريثما أهتدي إلي حل. اتصلت بصديق يعمل في »الشفخانة«.. اقترح أن يرسل أحد عماله ليدفنه في حفرة، يدفنون فيها الكلاب والقطط النافقة، وسبق أن دفن فيها قطاً من شارعنا دهسته عربة في الأسبوع الماضي. لاحت أمامي ملامح هذا القط الشرس، يخمش من يقترب منه، وكثيراً ما غفلنا ودخل المحل وسرق ما صادفه من طعام. شكرته معتذراً، وقد صعب عليّ أن يرقد في جوار هذا القط الشرس، أو في جوار قط من القطط التي تشتبك مع قطة أمام المارة دون حياء. ولاح لي منظره وهو ينام علي ظهره أرضاً ويرفع يديه لي عندما يلمح علي وجهي إمارة مداعبة.. أدغدغه فيتمرغ مستمرئاً، وكان عندما يسمع صوتي في الصباح داخلاً المحل، يترك مكانه في المخزن ويصعد فوق الكرسي الذي أجلس عليه خلف ترابيزة صغيرة ويضع يديه علي كتفي، أو يحتضن رقبتي. ولا أنسي يوم غضبت منه. كنت أضع أكياساً بلاستيكية خلف مقعدتي، تسعفني إذا ما طلب زبون واحداً، وفي هذا اليوم مددت يدي خلفي فلم أجد شيئاً، بحثت حولي دون جدوي، وسألت العمال وما من مجيب، وفي وسط النهار انتبهت فجأة إلي غياب القط، وبعد الظهر لمحته يدخل من باب المحل، ولم يتوجه ناحيتي كعادته. قلت في نفسي أكيد عامل عاملة.. وبعد قليل دخلت المخزن، فرأيت الأكياس المفقودة.. آه.. سحبها السافل ليلاً وضع منها فراشاً له.. أتاريك داخل مطاطئاً الرأس وتتجنب النظر ناحيتي. تجاهلته واعتزمت طرده، وليجري عليه ما يجري علي قططنا التي تعيش في الشوارع تلتقط رزقها من أكوام القمامة، وتتلكأ عند محال الجزارة. وهو علي أي حال، ليس فالحاً في صيد الفئران، يلعب في المخزن ويفرد جسمه علي مدخله. وبينما يسير علي مهل متمسحاً في الجدران، حاصرتني نظرات العمال المتسامحة. لماذا الآن.. وكثيراً ما غمزتموني بالقول عنه أنه يحق له ألا يفعل شيئاً، ويتغلب علي الأرض كيفما شاء، مادام يتغذي ويشبع، وكنت أضيف لقولهم في نفسي وليحرق العالم، وتعزيت بترديد.. لعله بنومه وموائه في المخزن يخيفها، لكنها لم تخف، واستمر قرضها، وقرفتنا بذيلها. لا.. لن أحمل الهم وحدي.. سأخبر صاحبه وليحدث ما يحدث.. علي الأقل حتي لا يظل علي أمل في استرداده.. لا.. لا أضيع الوقت في البحث عنه، وقد يفلت الأمر منا لو التقيته. أحسن حل أن أذهب إلي المقابر، وأبحث عن دفان أمنحه إكرامية ويتولي المهمة.. قد يسخر مني الناس لو عرفوا بفعلتي، بل قد يظهر الدنان موافقته، وبعد انصرافي يشخر ويلقي به في أي مكان، وتفوح رائحته. لا.. لن أنصرف قبل أن أطمئن علي دفنه في مكان يغيبه. وأنا أنهض لاح لي تمحكه يوم غضبت عليه.. يحف ظهره بأرجل الكرسي، ولا يرفع رأسه ناحيتي.. ونظرات العمال تستحثني.. مددت يدي أربت مقدمة رأسه كعادتي، فإذا به يزور عني. مسدت ظهره والشقي لا يلين.. حملته فعصلج وخشب أطرافه.. وضعته في حجري، ومررت يدي علي ظهره عدة مرات.. وبعد قليل تنازل ونظر إليَّ.