في اللحظة التي تسقط فيها عمارة تاريخية في قلب الأحياء التقليدية للمدينة لا ينزف التاريخ فقط, بل السكندريون بخيبة أمل كبيرة, فقد عاشوا لعقود طويلة متطلعين لما يعرف بالعمارة الخديوية التي صمم مبانيها مهندسون أوروبيون بداية من عهد الخديوي إسماعيل في نهايات القرن التاسع عشر وحتي1950 تقريبا. وقد حرص المصممون علي أن تتمتع كل منطقة بطراز معماري معين, ما جعل السكندريين يطلقون علي اسماء أحيائهم اسماء كودية ربما لا يعرفها سوي المعماريين وأولئك المهتمون بهوية المدينة التي شكلت روح ابناءها المميزة, فمثلا يطلق السكندريون علي منطقة الإبراهيمية نسبة إلي إبراهيم باشا بن محمد علي أثينا لكثرة سكانها من اليونانيين بعمارتهم مرتفعة السقف ذات المقرنصات والحليات والشبابيك الكبيرة بينما يطلق ابناء العطارين علي حيهم نفس الاسم ولذات الأسباب مضافا إليها أن كثيرا من الجريج والشوام والمغاربة سكنوها لعقود, أما منطقة بحري والتي تمتد من أول مسجد المرسي أبو العباس وحتي قصر رأس التين الملكي فتعرف بالحي التركي أو العربي الذي عاش فيه أتراك وشوام خاصة مشيدين مباني سكنية لهم علي طراز بلادهم, وفي منطقة وسط البلد يوجد مربع سكني كبير يطلق عليه الحي اللاتيني يقيم فيه حتي هذه اللحظة أجانب متمصرون لا تميز لهجتهم عن أي سكندري أصيل. كل هؤلاء يشعرون أن هويتهم وتراثهم في خطر بسبب مافيا البناء التي تشتري القصور والفيلات والعمارات التاريخية لتقوم بهدمها وإحلال عمارات شاهقة مكانها لا تحمل معها مظاهر الأصالة القديمة وتأتي فقط بمزيد من الضغط السكاني علي مرافق المدينة. بالطبع ظهرت حركات عديدة في محاولة لإنقاذ مدينتهم منها حركة إنقذوا الإسكندرية التي أنشأها المهندس محمد أبو الخير وهو معماري شاب, ومنها جبهة إنقاذ الإسكندرية التي أسسها المهندس ياسر سيف ومجموعة من الأكاديميين والنشطاء السكندريين, اما السياسيون والمناضلون اليساريون من امثال ماهينور المصري وزملائها فقد عمدوا إلي التحرك العملي حيث قادوا وقفات إحتجاجية مؤثرة أمام العمارات الفريدة لمنع هدمها ومنها فيلا شيكوريل, لكن اصيبت هذه الحركات والإحتجاجات في مقتل بسبب الروتين وقصر نظر القوانين فهدمت فيلا النادي اليوناني بمنطقة الإبراهيمية ليحل محلها مول تجاري, الأمثلة كثيرة ولا يمكن حصرها حتي من خلال كتاب التراث العمراني للإسكندرية والذي جمعه مع زملاء ونشطاء ووثقه بالصور والتواريخ الدكتور محمد عوض الأستاذ بكلية الهندسة ورئيس مركز دراسات البحر المتوسط بمكتبة الإسكندرية, فالقانون يحدد الاثر بالعمر الزمني وليس بالقيمة التاريخية أو المعمارية بحيث لا يقل عمر المبني عن مائة عام, لكن حتي مع وجود نصوص معطلة للهدم مثل نص قانون في الفقرة الأولي والثانية من المادة الثانية من القانون144 لسنة2006 علي: يحظر الترخيص بالهدم أو الإضافة للمباني والمنشآت ذات الطراز المعماري المتميز المرتبطة بالتاريخ القومي, أو بشخصية تاريخية أو التي تمثل حقبة تاريخية أو التي تعتبر مزارا سياحيا, وذلك مع عدم الإخلال بما استحق قانونا من تعويض, ولا يجوز هدم ما عدا ذلك أو الشروع في هدمه إلا بترخيص يصدر وفقا لأحكام هذا القانون. وأوجبت الفقرة الثانية من المادة الثانية من القانون119 لسنة2008 والذي لم يبلغ القانون رقم144 لسنة2006 أنه لا يجوز هدم أي مبان أو حتي مجرد الشروع في الهدم إلا بعد الحصول علي ترخيص بالهدم طبقا لأحكام هذا القانون. وطبقا لصريح نص الفقرة الرابعة من المادة الثانية عشرة التي تنص علي يعاقب بالحبس وبغرامة لا تقل عن عشرين ألف جنيه, ولا تجاوز مليون جنيه أو بأحدي هاتين العقوبتين كل من هدم أو شرع في هدم مبني أو منشأة مما يخضع لأحكام الفقرة الثانية من المادة الثانية من هذا القانون, فإن المشروع يكون قد اكتفي بالعقوبة الجنائية فقط في حالة هدم المباني دون علي ترخيص بالهدم دون قيد بالنسبة للبناء علي أرض المبني الذي تم هدمه سواء في حدود المساحة أو الارتفاع اللذين كانا عليه قبل الهدم. إلا أن مافيا القصور تجد دائما سبيلا للتحايل علي القانون وجهات الإشراف وذلك بطرق بسيطة ومكشوفة لا توجد نصوص قانونية واضحة تعاقب عليها ومن ذلك مثلا فتح صنابير المياه وإغرق الأرضيات الخشبية بها أو هدم المقرنصات والموتيفات المعمارية عمدا فيتحول المبني إل مجرد طوب أقرع ليس به من عناصر الفن والعمارة ما يميزه وأيضا يقوم بعض المقاولين بوضع جاكات أو شدات حديدية علي الجدران تؤدي إلي تشققها وإنهيار أجزاء منها فلا تجد السلطات المختصة بدا من اصدار تراخيص بالهدم, بدلا من تقدير التلفيات والأمر بترميمها. وتضافرت جهود شخصيات سكندرية بارزة منهم مثلا الأستاذ الدكتور مصطفي لطفي خبير أمراض الصدر بمنظمة الصحة العالمية والدكتور محمد مصطفي الأثري المعروف وماهينور المصري الناشطة اليسارية المعروفة وغيرهم كثيرون, هدفهم تشكيل جبهة إعلامية فاعلة يتم من خلالها إعلان الإسكندرية محمية عمرانية تحظي بدعم منظمة اليونسكو العالمية, فهل يتم ذلك؟ خاصة وأن منظمة اليونسكو قدمت عرضا من قبل تجاهلته الحكومات المتوالية في عهد النظام السابق ولم يعرف أحد حتي الآن سر هذا التجاهل.