فيلا بشارع جمال عبد الناصر بعد تخريبها التراث في مواجهة الاستثمار. مواجهة اعتدناها في بلد لا يحترم البشر حتي يحترم الحجر. لكن هذه المرة الوضع مختلف قليلا. "أتتظاهرون من أجل خمارة؟" التيارات الدينية دخلت وبقوة علي خط المواجهة، فالجملة السابقة قيلت في الإسكندرية بالتحديد أمام النادي اليوناني الذي صدر بحقه قرار إزالة. العقار المبني عام 1942 والذي ظل مقصدا للأدباء والفنانين طوال تلك السنوات لم يكن يحتاج إلي التعاطف بقدر حاجته إلي قانون يمنع التصرف فيه وهدمه من أجل مول تجاري. لكنها ليست الحادثة الوحيدة، فالحكومة نفسها تساهم في الجلد الآن، فلولا الجهود التي قام بها محبو التراث لكان القرار رقم 86 لسنة 2012 والذي يقضي بمحو قيد العقار رقم 404 بطريق الحرية بالإسكندرية من كشوف الحصر كأحد المباني التراثية قد تم تنفيذه، والعقار الذي يعد من أجمل العقارات في الإسكندرية مسجل برقم 878 بقائمة الحفاظ علي المباني والمناطق التراثية لمحافظة الإسكندرية، وما يقصده القرار من محو قيد العقار من كشوف الحصر يعني أنه لم يعد مسجلا في قائمة الحفاظ علي المباني والمناطق التراثية، ومادام لم يعد كذلك فيمكن هدمه! والمبني يرجع تاريخ بنائه إلي عام 1930 ومشهور باسم عمارة شيكوريل قام بتصميمه المهندسان الفرنسيان ليون أزيما وماكس أدرعي وهو علي طراز Art Deco الذي يرجع إلي النصف الأول من القرن العشرين. الاعتداءات المماثلة تجري بطول مصر وعرضها لكن في الإسكندرية بالتحديد تجري أبرز نماذج الاعتداء، فالمدينة التي كانت يوما عروس البحر المتوسط تتعرض الآن للاغتصاب بواسطة جحافل مقاولي ومستثمري البناء ومحترفي الربح السريع بأي ثمن وبكل أسلوب. "لا أحد ينام في الإسكندرية" ليست رواية بل مأساة فأهالي المدينة كما يقول د.أيمن النحراوي -رئيس قسم الدراسات والمشروعات بمركز البحوث والاستشارات بالإسكندرية وأحد أبرز المتابعين للمعمار السكندري- يقضون الليل مستمعين إلي أصوات البلدوزرات وهي تدمر دون رحمة الفيلات والقصور والمباني الرائعة، التي طالما كانت بهجة للناظرين بطرزها المعمارية الفريدة "يمكن الآن أن تسير في أي شارع في أي منطقة لتشاهد آثار هذا العدوان الغاشم كأنما ضربت هذه المباني بالقنابل؛ وخلال عدة ساعات من شروق الشمس علي حدوث الجريمة وفي موقع الحدث يصطف رتل طويل من سيارات النقل لتحميل الأنقاض بسرعة تحسبا لأي طارئ قد يفسد المناسبة ويجهض المشروع ويذهب أحلام الربح الجشع وأمانيه". نحن اليوم لا نتحدث عن شارع بعينه أو منطقة بعينها تجري فيها هذه الجريمة، بل عن ظاهرة تجتاح المدينة دون ضابط أو رادع؛ الإحصاءات أشارت إلي هدم ما يزيد عن عشرة آلاف فيلا وقصر في أنحاء الإسكندرية وعن أكثر من 160 ألف مخالفة بناء وتعلية وهدم مبان دون ترخيص؛ المحافظة نفسها رفعت الراية البيضاء واستسلمت أمام هذه الجحافل والمصالح برغم وجود القوانين الرادعة المانعة؛ والفساد الذي تواري مؤقتا في الإدارات المحلية والهندسية والتنظيم والأحياء عاد من جديد ليعمل بدأب فليس هناك من رقيب ولا حسيب ولا رادع؛ المصالح المتبادلة بين العديد من الموظفين العموميين في هذه المواقع الحساسة وبين شركات ومقاولي البناء والمستثمرين النهمين سمحت بوجود هذا التحالف الصامت بينهم؛ فالكل يثري والكل مستفيد. السؤال الذي يفرض نفسه هل عجزت الدولة عن تطبيق القانون؟ سؤال يجيب عنه المهندس الاستشاري طارق المري فيقول إن مشكلة القانون أنه غير كاف لتحديد إجراءات وقف التنفيذ، ووقف الهدم فالمستثمر يشتري المبني القديم والذي غالبا ما يكون مؤجراً بثمن زهيد ويقوم بتعويض الشاغلين وشراء المبني ببضعة ملايين بسعر أقل من ثمنها وهي أرض فضاء، ومن ثم يعتمد علي محام متخصص لعمل رخصة هدم من الجهات المعنية ويهدم المبني ويقيم برجاً بدلا منه مكسبه مضمون ويحقق في زمن قياسي من 10 إلي 20 ضعف ما تم صرفه. المشكلة ليست في القانون فقط بل في المسئولين عن تطبيقه -يضيف المري- فهناك قصور في كل المؤسسات المسئولة أولها التنسيق الحضاري بالاشتراك مع المحافظات والأحياء بالتحديد في تطبيق القانون بدقة، كما أن القانون نفسه به بعض أوجه القصور منها مثلا أنه يجب وضع نص واضح ينص علي أنه في حالة هدم فيلا فانه لا يتم بناء أي مبني إلا في نفس الارتفاع، هذا بالإضافة إلي أن قانون البناء الموحد ساوي بين جميع المناطق في الجمهورية وهذا خطأ لأنه يجب أن يكون لكل منطقة مميزة قانونها المتماشي معها ولا يجب أن تطغي شهوة المال علي قوانين الدولة فتضيع معها هويتنا الثقافية. المري قام بالاشتراك مع مجموعة من المهتمين بالتراث المعماري في مصر بعمل "عريضة" وقع عليها أكثر من ألف مواطن وأرفقها بملف متكامل لمجلس الشعب ومجلس الوزراء لإصدار قرار أو تشريع يقضي بوقف إصدار قرارات الهدم للمباني التي تعدي عمرها خمسين عاما أو الفيلات بوجه عام وذلك لمدة عام حتي يتم تعديل القانون الحالي بما يخدم التراث وتم تقديم المشروع من خلال النائب عمرو حمزاوي. كما يعمل الآن من خلال مجموعة عمل لوضع تصور لوزارة جديدة تسمي وزارة التراث القومي والتي تضم في اختصاصاتها اختصاصات المجلس الأعلي للآثار والشق التراثي في جهاز التنسيق الحضاري، ومركز توثيق التراث التابع لمكتبة الإسكندرية، ليكون تحت مظلة تلك الوزارة كل من يعمل في الحفاظ علي التراث القومي سواء المادي أو غير المادي ويكون لها قانون واحد للحفاظ علي التراث بما فيه من آثار ومبان تاريخية وخلافه وبذلك يكون التراث له مكان واحد يدافع عنه بدلا من التخبط القانوني والإداري الموجود حاليا. لكن هل يوجد من يستمع إلي هذا كله، فالمطالبات لم تتوقف منذ بدأت حمي الهدم في الإسكندرية والقاهرة، أبرزها ما كتبه الروائي إبراهيم عبد المجيد، أحد أبرز المتابعين لقضايا الإسكندرية في عدة مقالات، قال عبد المجيد معلقا علي قرار هدم عمارة شيكوريل أنه لم يكن يتصور أن يقدم الدكتور الجنزوري علي قرار من هذا النوع، قرار قد يكون متصورا أنه لن يعني أحدا الآن، ولن يقف عنده أحد باعتبار أنه وسط الهول الذي نعيشه لا يساوي شيئا، لكن فات الدكتور الجنزوري أن ما فعله استمرار لمشكلة قديمة في مصر كلها، وهي التحايل لهدم العمارات والفيلات الأثرية أو ذات المعمار الخاص، الأوروبي الطابع الذي أنجزته المرحلة الليبرالية المصرية قبل ثورة يوليو، والتي طالما سعي المقاولون والجهلاء والطماعون لهدمها من أجل بإقامة أبراج أمريكية قبيحة، أو مولات أو غير ذلك.ضيف عبدالمجيد: المحو من قائمة الحفاظ علي المباني التراثية يعني الهدم في غمضة عين، يعني أنه عقار عادي لا قيمة له يمكن لمن يستطيع أن يهدمه ويستفيد بإنشاء أبنية مكانه، يتصور السفهاء أنها عصرية، وهي قبيحة قياسا علي مباني ذلك العصر الذي صار حلما.. عصر ما قبل ثورة يوليو الذي خلف لنا عمارات نصف البلد وعمارات كورنيش الإسكندرية والمنشية ومحطة الرمل وطريق الحرية وغيرها من الأماكن الحضارية، والقرار علي عيوبه الحضارية التي لا تليق برئيس وزراء يتحدث عن المستقبل، ويصف وزارته بوزارة الإنقاذ، ينم عن عداء كبير للثقافة لم أكن أتصوره في السيد الجنزوري، هو رجل اقتصاد أجل ولكن الاقتصاد لا يعني هدم منجزات الوطن الثقافية. أين جهاز التنسيق الحضاري من هذا كله؟ أسأل ويجيب سمير غريب رئيس الجهاز: "نحن في مأزق كبير". يشرح فيقول إن الوضع الحالي للجهاز يجعله ضعيفا في مواجهة الملاك الذين يتحايلون أحيانا ويستخدمون القانون في كثير من الأحيان لتمرير عمليات الهدم! حتي يصبح الجهاز "مغلول اليد" لأن القانون رقم 144 والذي يحكم العملية بالكامل به الكثير من الثغرات، فهو "يضع المبني في ثلاجة" ويمنع أي محاولة لاستغلاله، وهي وجهة نظر قاصرة لأن المبني كائن حي وعدم استغلاله يعني أنه معرض للدمار في أي لحظة. يضيف غريب أن أي صاحب عقار يعترض علي قرار لجنة التظلمات فإن القضاء الإداري ينصره ويوافق له علي الهدم، في الوقت الذي لم تنفذ فيه النيابة العامة حتي الآن قرارا واحدا ضد من يتعمد إحداث الإضرار بعقاره! غريب أشار إلي أن المسألة زادت سوءا بعد ثورة 25 يناير وهدم الكثير من المباني التراثية المسجلة كتراث طبقاً لقانون 144 لسنة 2006، مؤكدا أنه طلب تعديل هذا القانون بما يعطي حقوق أكثر للمالك حتي يؤدي واجباته في الحفاظ علي المبني التراثي الذي يمتلكه ولا يسعي لهدمه لتحقيق أي مصلحة مادية علي حساب القيمة المعمارية للمبني، وأضاف رئيس الجهاز انه أرسل هذه التعديلات إلي وزارة الإسكان وهيئة التنمية العمرانية ووزارة الثقافة ومجلس الوزراء لإقرار هذه التعديلات وتمريرها في مجلس الشعب "ماذا أفعل أكثر من ذلك". المناشدات وحدها لن تكفي لوقف العبث، فإذا كانت نجحت حتي الآن- في وقف هدم شيكوريل فإنها ربما لاتلتفت لما تبقي من فيلات وأبنيه تراثية. "الماجستيك" أبرز المرشحين فأخبار مؤسفة تفيد بخطورته علي سكانه وعلي المارة. أصبح "الماجستيك" متهالكا. الزخارف تتساقط والحوائط تميل. تحالَف عليه الزمن والإهمال وسوء الاستخدام والإضافات غير المدروسة، فأصبح في حالة يرثي لها. لم ينتبه الي ما يحدث للمبني التاريخي سوي محمد عادل دسوقي صاحب المدونة البديعة "جدران مدينة متعبة" التي ترصد الاعتداءات علي التراث في الإسكندرية، يقول دسوقي إنه بعد عقود من التدهور أصبح المبني بأكمله في حالة إنشائية مروعة. القبتان المميزتان تتآكلان بشكل عجيب. الدور الأخير منهار بالفعل. من الواضح ان المبني بحاجة ماسة للتدخل السريع والترميم. لكن، من سيرمم؟ سؤال ربما سيظل بلا إجابة. البداية كما يرصدها دسوقي كانت مع الامتداد الجديد لميدان المنشية، سُمي "الحدائق الفرنسية" الميدان الجديد كان اسما علي مسمي. صممت "الحدائق الفرنسية" بالفعل علي النسق الفرنسي في تصميم الحدائق، وفي نهاية الميدان أُنشئت القنصلية الفرنسية الجديدة مطلة علي المتوسط. ليتكامل مع هذا الطابع الفرنسي، صمم المعماري هنري غُرة بك Henry Gorra Bey مبني (فندق ماجستيك) بتأثير فرنسي واضح في بداية العقد الثاني من القرن العشرين. في هذا الفندق الفاخر، قضي الروائي الانجليزي الشهير إ. م. فورستر E. M. Forester شهور إقامته الأولي في الإسكندرية في 1915، ومنه بدأ استكشافه للمدينة المزدهرة والتي كتب عنها لاحقا في أوائل العشرينيات كتابه شديد الأهمية "الإسكندرية: تاريخ ودليل" Alexandria: A History and a Guide. حتي اليوم يأتي السياح إلي الميدان باحثين عن المبني الذي أقام به الأديب الكبير. لكن تمر الأيام، وتتغير الإسكندرية كثيرا. ميدان الحدائق الفرنسية أصبح بعد ثورة 1952 "ميدان عرابي". أما الحدائق نفسها، فقد أزيلت بالكامل في الستينيات. وحل محلها محطة رئيسية للأوتوبيسات. وبمرور السنوات، أصبح الميدان واحدا من أكثر ميادين الإسكندرية تلوثا وتشوها وضوضاء. وماذا حدث "للماجستيك"؟ الفندق صار مبني مكاتب متواضع. مكاتب محاماة وتسويق وشركة كبيرة للمَهمات العسكرية. بهو الفندق تم تقسيمه إلي محلات تجارية. أما المدخل فأصبح بابا ضيقا يؤدي إلي مصعد صدئ ومعطل. وعندما تم "تطوير الميدان" في بداية الألفية، وُضعت أمام المدخل مباشرة مظلة خرسانية شديدة الضخامة لانتظار للركاب. لم يبق من الفندق سوي اسمه المحفور فوق الباب. وحتي هذا لم يعد موجودا اليوم. أحدث ما رصده الدسوقي هو محاولات هدم عقار 89 بشارع عبدالسلام عارف وهو فيلا مدرجة بقائمة التراث برقم 1203، وأخري بموافقة رئيس مجلس الوزراء هذه المرة- في شارع جمال عبدالناصر وهي طبقا لأرشيف لجنة التراث المعماري كانت تقطنها عائلة الدكتور النقيب مدير مستشفي المواساة والطبيب الخاص بالملك فاروق وأيضا كانت تقيم فيها الملكة ناريمان آخر ملكات مصر!