اقفل الأغاني وشغل الشريط ده كان سائق الباص مستفزا, له وجه كالح, نشرت الحبوب المهدئة التي يتناولها خطوطا سوداء غائرة اسفل عينيه, ترنح الباص علي الاسفلت بينما السائق ينفخ بغيظ: - - اللي مش عاجبه ينزل يا جدعان - ننزل إزاي في نص الطريق - هو كده ركبتوا ليه من البداية - ما احنا قولنا لك بطل الهباب اللي شغال دا. - ياجدعان دا مزاجي - اتحشت في مزاجك لو جايب العربية لنفسك ما تحملش ركاب. - يووه وداس السائق الغضوب علي المكابح, فارتج الركاب الجالسون علي الكراسي, وانزاح بعض الواقفين في الطرقة, مما جعل الجميع يشترك في المناوشة التي كانت دائرة فقط بين ثلاثة من الشباب ذوي اللحي والسائق منذ كانت السيارة تعبئ ركابها علي المحطة.. - جري ايه يا اسطي, ما تفوق لروحك احنا معانا حريم وأطفال - انت ياعم الحاج افوق ايه؟ شايفني شارب - ايوه فوق واحترم نفسك, ورد كويس - بتقول ارد أيه؟ واطلق السائق من منخريه صوتا قبيحا - لا دا انت زودتها قوي, وحياة أمك لموديك المركز - وحياة ام مين يا ابن ال.. - انت ياله فوق فيه حريم ياحمار كل لحظة كان يدخل طرف جديد في المشكلة.. الاغاني في مسجل السيارة مازالت تتردد بصوت رفعه السائق كثيرا حتي غطي علي الضجيج الهستيري لبعض الركاب, والمحصل يلف حول الركاب الواقفين وهو يتلوي كالثعبان, استدار السائق بعنف إلي الجلوس, واطلق نفس الصوت القبيح من منخريه معلقا أن هذا الصوت من أجل الحريم هذه المرة. - الله يخرب بيت الهباب اللي بتشربوه. - يا جماعة سيبوه هما السواقين كلهم اخلاقهم زفت ثم توجهت المرأة الاربعينية التي نطقت بالجملة الأخيرة إلي السائق - طب سوق يا ابني وتوكل علي الله الراجل محجوز في المستشفي هدأت العربة قليلا والمحصل يتصنع الجد وهو يبتسم بمكر: - ياعم حمدي سوق وما تسألش في حد. انطلق السائق ببطء وقد هدأ صوت المسجل, تكلم السائق مع راكبي الكرسي الأمامي بجواره, بصوت تعمد ان يسمعه الجميع: - كل يوم نفس الشغلانه دي, يجيلك عيل يقولك شغل لي قرآن ومش عارف إيه؟ - عيل ايه يا بتاع انت. التفت السائق إلي الشاب الملتحي: - حد وجهلك كلام انا مشغل قرآن من الصبح تم مكملا حديثه إلي جار الركوب: - شفت, شغلانه كلها قرف. بينما العربة تغلي في الداخل وبعضهم يهدئون الشاب, والرجل الذي تلقي السباب ومازال فائرا. - طب سيبوه يسوق واستحملوا لما نوصل - انا لو عاوز ابهدله هاخد رقم العربية ووديها المركز - التفت الرجل الذي تبادل السباب مع السائق منذ قليل إلي الشباب. - لو رجاله ما تعتقوهش وانا معاكم - خلاص يا رجالة ربنا يسهل ونوصل, استحملوا - ياحاجة الأشكال دي ما يتسكتش عليها - ابن مين في البلد السواق ده؟ - هو اللي زي دا يتعرف له اب. يا جماعة دا ابن مروان ابو أحمد. كان السائق يتابع كل كلمة, فداس المكابح مرة اخري فارتج الركاب - مين اللي ما يتعرفش له اب يا ابن ال... - وله انت نسيت نفسك ولا ايه يا... - لا دا العمل زاد عن حده. تلقي السائق صفعة علي جانب وجهه من الرجل, هبط من كرسي القيادة حاملا في يده قضيبا من الحديد, لف حول السيارة وفتح باب الركاب لكن صريخ النساء واجهه وبعض الايادي طوقته بقوة فعجز عن التقدم, لم يكف عن السباب هو والرجل الذي ناوله كفا علي وجهه منذ قليل, ودفع المحصل خارج الباب, كانت سيارة ميكروباص من البلدة قادمة من المدينة, توقفت وهبط سائقها صاحب الوجه الأقل حدة من وجه سائق الباص: - خير يا اخوانا فيه ايه؟ سارع سائق الباص إلي زميله كأنما يستميله في محاكمة: - مشغل المسجل, واحد يقولك مش عارف إيه, لأ وواحد يشتم. توجه سائق الميكروباص إلي الركاب: - يا جماعة نستحمل بعضنا, دا المشوار كله نص ساعة بعض العجائز والنساء دعمن كلام سائق الميكروباص بهز الرقاب وتكرار نفس الكلام لكن اصواتا اخري علت بالاحتجاج: - الموضوع انه قل ادبه علي ناس محترمه. قال سائق الميكروباص وهو بين الجد والسخرية: - كلنا محترمين, اطلع يا حمدي وهدي العمل. وضربه بمرح علي مؤخرة وأسه صعد السائق وشغل الباص مرة اخري وهو يهدد: - اللي ها يستفزني مش هيشوف طيب. صعد المحصل هو الآخر وقد اوسع له مكانا في الجانب بعيدا عن المتعاركين, خطت السيارة بقوة وهي تحمل في احشائها مزيجا متناقضا من روائح العرق, والملابس, والاجساد, والافواه, والقلوب, غير ان صوتا اخر اشعل المواجهة من جديد: - ما تهدي السرعة يا اسطي وفوق للطريق, انت مركب فيران معاك. - انا قلت اللي مش عاجبه ينزل. - الواد دا ما عدش يركب عربية أو حد يركب معاه, احنا نأخده من قفاه نسلمه للمركز واحنا معديين ناحيته. - من قفاه؟! انت مساك حرامي وللا أيه؟! وضابط ايه اللي هيأدبني. - يا جماعة استهدوا بالله احنا ما صدقنا. - منتش شايفة ياحاجة, خلصنا من موضوع المسجل جينا للسواقة واحنا علي طريق ما يعلم به إلا ربنا. كان الطريق من القرية إلي المدينة المجاورة خمسة كيلومترات بعرض ثمانية امتار بها مهاوي وكسورات, اما الطريق الترابي الداعم إلي الجانب الأيمن في طريق الذهاب فقد هوي معظمه في مجري الماء مما يهدد بخطر الحيدة عن الاسفلت, والجانب الايسر ضيق تنحدر الاراضي الزراعية اسفله بقليل مما يجبر الجميع علي التزام الرصيف رغم عيوبه التي تجعل السيارة تترنح اذا ما زود السائق من السرعة. - انت يابني قولنا لك هدي شويه فيه واحدة حامل وعيال صغيرة. - ياجدعان محدش يوجه لي كلام - امال نكلم مين؟ هو عفريت اللي سايق. - خلاص يا رجالة, ما تهز اوش نفسكوا معاه. - بتقولي ايه يا وليه؟! ورفعت فتاة كانت تجلس في الكرسي الخلفي من نبرة احتجاجها: - ما يصحش اللي بيحصل ده. تخفز الشباب والرجال مرة أخري, إلا ان امرأة عجوز نظرت للفتاة, ثم رمت نظرة تحذير للجميع: - احنا ندعي ربنا نوصل بالسلامة ونخلص اللي ورانا. - الكلام دا خلاص انتهي, احنا بقينا في عصر جديد. - عصر اية ومغرب ايه ادي الثورة اللي خلت الاشكال دي تعلي صوتها. التفت السائق مرة أخري. - انا قلت ماحدش يوجه لي كلام. ياجماعة سيبوه يسوق, هما طول عمرهم كده, ايش جاب الثورة لدول - يعني يموتنا ونقول سيبوه يسوق. - يعني مفيش حد عاقل يهدي الدنيا. - ياحاجة محدش يقبل باللي يحصل دا. - ربنا يستر. كان السائق يقف فور ان يشير إليه احدهم علي الطرق الزراعية الجانبية, يصعد الراكب الجديد, يأمره السائق ان يجد لقدمه مكانا ينحشر فيه, تم يدوس علي الوقود فتنطلق السيارة بسرعة وبقدرة قادر تتزحزح الاجساد قليلا فيستقر الراكب الجديد, غير ان الاختناق والتوثب تصاعد إلي مداه الأخير: - لا بقه, محدش يستحمل كده. - انت مش قاعد علي كرسيك يا استاذ خلاص. - خلاص إزاي احنا عارفين نعقد, واللا الحريم اللي واقفين واللي قاعدين. رد صوت نسائي: - هو انتوا خليتوا فيها حريم! فالتفت السائق مرة أخري. - كل واحدة تقعد في بيتها معززة مكرمة. - انت بتلف لنا تأتي ليه, خليك في سواقتك كانت النساء اللاتي تكلمن قد اطلقن ابتسامة خفيفة لتهدئة الأجواء. - يا اخويا انتوا بتقولوا كلام وخلاص. لكن ابتسامة الاستسلام من النساء والبنات لم تزد الشباب والرجال إلا عنادا اشتعل عندما وقف السائق لينتظر راكبين اشارا إليه من طريق جانبي: - لابقه دا انت ابن.. - انت بتقول ايه, انت كفرت! - ياجدعان استهدوا بالله. - فيه عشرين جنيه علي الأرض. - ياجماعة خلي بالكم. - ماعدش حاجة ونوصل. - ابن ال.. لازم يتربي. ومما زاد الأمر عبثا ان الراكبين امتنعا عن الركوب بعد ان شهدا بوادر معركة, انطلق السائق الغضوب علي الطريق سريعا, ترنح الباص الذي يقوده باليومية علي الطريق الممتلئ بالحفر, والمنحدرات الخفيفة, لعبت الكيوف التي يتناولها السائق في رأسه فكان يري الطريق رؤية مشوش, كانت بوادر معركة اشد علي وشك بينما السائق يلتهمه الغضب والخوف في نفس الوقت, من الناحية المقابلة وعلي بعد قليل اتت سيارة ميكروباص وامام الباص عربة كارو, تفادي السائق عربة الكارو بسرعته لكن لم يتمكن من التحكم في الباص الذي ارتجت احشاؤه بكل الاجساد المزنوقة في الداخل, والتي في تطوحها اخلت بتوازنه فمشي علي الجانب الترابي المنحدر, علا الصراخ, والسباب, والفزع في الداخل بينما الباص يهبط سريعا إلي بطن الماء. فكري عمر الدقهلية