صرخ الشباب الصغار ضد الظلم والاستخفاف, فهب المارد المصري الصبور من سباته العميق, وخرج من قمقمه ليفرض إرادته, وانزاح الكابوس الجاثم علي الصدور, وصحونا لنحلم بمستقبل جميل نتنفس فيه نسيم الحرية. وانقشع غبار الزخم الثوري ليتبلور المشهد عن ثلاث قوي, تباينت في مواقفها وتوجهاتها من الثورة, بين من حاول أن يستثمرها ويبني عليها, ومن حاول أن يخمدها ويوئدها, ومن حاول أن يحافظ علي جذوتها!! القوة الأولي, تتمتع بتنظيم ممتد وبنيان محكم, راسخ القواعد, يمتلك كوادر مدربة علي الانضباط والطاعة, يمتثل فيه المرؤوس لإرشادات الرئيس, له وجود تاريخي في الساحة الشعبية والسياسية يرجع لعقود طويلة, تتوزع روافده ولكنها تتوحد في حدها الأدني, له قبول ورصيد في الشارع حيث قدم خدمات كان الأولي بالدولة القيام بها, يأتيه تمويل ضخم من بين أعضائه, يمكنه من الحركة والمناورة والعطاء, يتوجه بخطاب ديني جميل يدغدغ حواس البسطاء من الناس ويتسلل إلي قلوبهم المفطورة علي الإيمان والتدين. تلك القوة التزمت الحذر وآثرت السلامة, فتمنت النجاح للثورة, ولكنها توخت الحذر, وهي التي دفعت من قبل ثمنا باهظا حين أعلنت مواقفها السياسية المغايرة لما ارتآه الحكام. اتخذت موقف المحايد في العلن, والمناصر للثورة في الخفاء, ونزل شبابها مع الثوار في الميدان ذائبا في أتونهم, طربوا لقرب انتصار الثورة, وساندوها وحموها بحق حين تآمر عليها من تآمر وتعرضت لهجوم الجمال والبغال. وحين انقشع الغبار كانت تلك القوة هي الوحيدة الجاهزة في الساحة, بشعبها المنتظمة وكوادرها المنتمية, وخدماتها المجتمعية, فأعدت رؤيتها الخاصة وخطتها الطموحة. القوة الثانية, هي المضارة من الثورة والكارهة لها, تحالف فيها دون تنسيق أو سابق اتفاق الفسدة من أصحاب المال والأعمال, والمنافقون والمتسلقون من أصحاب المناصب الرفيعة والنفوذ المترامي والكلمة العليا, وكذلك أساطين القهر والتعذيب الذين كانوا يتسلطون علي الناس ويحصون أنفاسهم. هؤلاء جميعا استباحوا ثروات الوطن, وتربحوا وكسبوا حراما من قوت هذا الشعب, ومارسوا التجبر والظلم والاستبداد. أصابهم غم الدنيا حين زالت دولتهم وانكمشت سلطاتهم. ارتعبوا من صحوة المارد, وتقوقعوا, ثم استجمعوا قواهم الخائرة, خاصة أنهم مازالوا في سدة الحكم, ويملكون المال المنهوب بغير حساب, ولهم حراس وأتباع وبلطجية مدربون علي البطش والاشتباك, ولديهم خبرة عريقة في الدسائس والمؤامرات. قرروا الطعن في الظهر, بعد أن فشلوا في الهجوم بالجمال والبغال, وفعلوا ذلك يوم فتحوا السجون وأطلقوا المجرمين لترهيب الناس, زعزعوا الأمن وزرعوا الفتن, واختلقوا المعارك والقلاقل, وهاجموا الثوار في التحرير بالبلطجية والعاهرات والجائلين, وشوهوا صورتهم باللجان الإلكترونية والإعلام المأجور. القوة الثالثة هي شباب الثورة النقي الطاهر, الذي جابت صرخته الآفاق, فأيقظت مصر وامتدت فيما حولها, هؤلاء شباب لا يملكون تنظيما ولا قائدا ولا جاها ولا مالا, ولا عتادا, ولا أيديولوجيات أو نظريات, هم ببساطة يريدون نسيم الحرية, يتطلعون لعدل يسود المجتمع, ويحلمون بمستقبل يوفر لهم عيشا كريما, لا يملكون إلا أرواحهم, تحسبهم الأضعف بينما هم لديهم من العزيمة ما يجعلهم يضحون بأنفسهم وأجسادهم وعيونهم أمام مؤامرات الغدر المحيطة بهم. هؤلاء هم أقوي القوي الثلاث حين يحتشدون ويهتفون للحرية والوطن. ضاعت فرصة العمر حين تخلي من تخلي عن الثورة التي قامت, ولم يحترمها ويحتضنها ويحمها. تصور من تصور أن مكسبه في ضرب قوي الثورة ببعضها بعضا, فحمي أعداءها وأطلقهم علي القوي الأخري, وهادن القوة الأولي ليعزلها عن الشباب الثائر, واتهم الشباب بالعمالة والخيانة, فخسر دورا نبيلا وفرصة تاريخية. وتصورت القوة الأولي أنها أخذت ما أرادت, وجاءت للحكم وفق إرادة شعبية فأصابها الغرور, وكان الأولي بها أن تقود تحالفا جامعا وتتواصل مع الجميع, لتحافظ علي رصيد من احترام وتعاطف كاد أن يضيع. وتصورت الفئة الثانية أن عقارب الساعة ستعود إلي الوراء, فحاولت استنساخ نظام بائد متعجرف, وكان الأولي بها ان تسعي لاعتذار ومصالحة. القوة الثالثة المظلومة لم تسع لتكوين رؤيتها ونظامها ومنهجها, وخسرت حين تصورت أن الثورة هي الهدف, بينما هي الوسيلة لهدف نبيل لم يتحقق بعد. فإذا كان الجميع خاسرين, فهل نجتمع علي كلمة سواء, يسودها العدل والحكمة, فتوظف القوة الأولي إمكانياتها للتعاون مع شباب الثورة, وتقدم القوة الثانية اعتذارها للوطن واستعدادها للمحاسبة, وتمد القوة الثالثة يدها بالمسامحة لمن أساءوا إليها. وفوق كل ذلك هل يعيد القائمون علي إدارة الأمور حساباتهم الخاطئة التي قادتنا إلي مشهد يخسر فيه الجميع, وهل يضطلعون بمسئوليتهم التاريخية التي تصدوا لها طوعا لنحول الأزمة إلي فرصة, والخسارة إلي مكسب, والهدم إلي بناء؟ جامعة الإسكندرية