اليوم, وبعد مخاض, تبلورت الساحة السياسية في ثلاث قوي وطنية: برلمان منتخب, جاء باختيار شعبي نزيه, وميدان ينبض بمطالب الناس, ومجلس عسكري يستعد لتسليم السلطة. قال طعنت رجلا من الخوارج بالرمح فأنفذته في ظهره, فأيقن أنه ميت, فقلت: أبشر يا عدو الله بالنار. فقال: ستعلم أينا أولي بها صليا!! في موقعة صفين كان عمار بن ياسر يحارب في صفوف أمير المؤمنين علي بن أبي طالب, واستشهد الصحابي الجليل الذي قال عنه الرسول الكريم ويح عمار! تقتله الفئة الباغية فكشف استشهاده أن عليا ومن معه هم المصيبون, وأن معاوية ومن معه هم الباغون. يخرج دعاة معاوية ويقولون إنما قتله الذين خرجوا به, وحملوه معهم إلي القتال!! وتبلغ المأساة ذروتها باغتيال سيدنا علي بن أبي طالب أمير المؤمنين وابن عم رسول الله وصهره بضربة سيف مسموم من عبد الرحمن بن ملجم الكندي. وتصف موسوعات التاريخ القاتل: وكان في وجهه علامة السجود من كثرة العبادة وكان معروفا بها!! ذلك بعض مما كتب عن أحداث الفتنة الكبري التي ضربت بلاد المسلمين, فأصبح لهم ولأول مرة خليفتان, أحدهما في الشام, والآخر في العراق(37 ه). تعجبت للأفكار المشوشة, وكلمة الحق المهدرة, والأفعال المنكرة, ولم يستوعب عقلي حين قرأت طه حسين في صباي كيف يمكن أن تختلط الأمور في مجتمع إلي هذا الحد المخيف, فيتوجه بكل طاقاته إلي الهدم والاقتتال, وكيف يحدث هذا الانقسام المدمر بين رموز العلم والتقوي في الأمة, وكيف يسيطر الرعاع والخوارج علي مقدرات البلاد؟ تلك فترة غريبة, مضي عليها أربعة عشر قرنا أو يزيد, صنع فيها الحاقدون علي الدين القلاقل والفتن, وصدقهم البسطاء المخدوعون. ويذكر بعض الرواة الأسماء والأدوار والأحداث, والبعض يذكر أنها جماعات خفية( يبدو أن الطرف الثالث ضارب في جذور التاريخ), وما زلنا حتي يومنا هذا نطالع تحليلات معكوسة وقراءات منقوصة, ولكن في النهاية دائما تتجلي البصيرة, وإن طال الزمن, فليس من قاتل علي تنزيل القرآن كمن يقاتل علي تأويله, فحفظ التاريخ للصحابة مكانتهم, ولعن من أيقظ الفتنة من المنافقين.. وكأن عالمنا العربي يعيش اليوم فتنة مشابهة. دعنا نتأمل ما يجري في مصر نموذجا, فلقد قامت فيها فتنة صغري حين ثارت مصر ضد مصر, ثارت مصر المنهوبة علي مصر الحرامية, ثارت مصر المستكينة علي مصر المفترية, ثارت مصر المقهورة علي مصر البلطجية, ثارت مصر الفتية البهية النقية, علي حكم منحرف متعفن متجبر. وتعرض الحراك الثوري لغارات ومؤامرات وحروب شنتها الطبقة المفترية,, البلطجية, حيث تضافر فلول النظام السابق, والفاسدون من رجال الأعمال وأساطين القمع والإرهاب لإخماد الثورة ونشر الفوضي وتأجيج الفتن, روافدهم قوة المواقع الوظيفية التي مازالوا يحتلونها, والأموال المنهوبة من الشعب بغير حساب, ونفوذ الأمن الظالم أو بقاياه, ولهم قوة تنظيمية من بقايا حزب أوحد سقط, وجحافل من الحراس الخطرين المسجلين, فضلا عن خبرة متأصلة في تنفيذ الدسائس والمؤامرات الشيطانية. بدأت الفتنة الصغري يوم هاجموا الثوار في الميدان بالجمال والبغال,اقتداء بموقعة الجمل الكبري, فدخلوا التاريخ أضحوكة وعجبا من بابه الخلفي, واستمرت فتنتهم حين عاثوا في الأرض فسادا, تحت سمع وبصر ولاة الأمور, ولم يتم التصدي لهم, إما عجزا أو تواطئا وكلاهما سييء, أشعلوا حروبا طائفية, وأشاعوا مخاوف أمنية,ورفعوا مطالب فئوية, ورددوا أكاذيب الخيانة الوطنية, وسعوا الي حرب أهلية. وشهدنا جهدهم الحثيث لإذكاء الفتنة حين حاولوا قسمة مصر الي ميادين وأشياع وأتباع, وتوزيع الأوصاف بين الشرفاء والعملاء, وشعرت حقا بالقلق حين وجدت من توسمت في تفكيرهم رشدا وقد اشتروا البضاعة الرخيصة التي روجت لشيطنة الثورة والثوار, وتعجبت من أجهزة تروج لمخطط الرعب المنذر بحرق مصر في ذكري الثورة, وحسنا فعل ولاة المرحلة الانتقالية بإلغاء حالة الطواريء بداية من صباح يوم نشوب تلك الحرائق المزعومة, رجوعا للحق وتكذيبا واستخفافا بهذا الادعاء العبيط. واليوم, وبعد مخاض, تبلورت الساحة السياسية في ثلاث قوي وطنية: برلمان منتخب, جاء باختيار شعبي نزيه, وميدان ينبض بمطالب الناس, ومجلس عسكري يستعد لتسليم السلطة. يقيني أن الميدان المحتشد,( والمحتشد جدا) بالشيوخ والشباب والأطفال, والمرصع بالمفكرين والمثقفين وحولهم البسطاء, المليء بأولاد الناس ومعهم أولاد الشوارع, هو السبيل لوأد الفتنة, وإجهاض العباسية وروكسي, وإسكات الآسفين لقيام الثورة, وإخراس الكلام الساكت لمدعي تمثيل الأغلبية الصامتة!! ودحض أكاذيب التشويه المعنوي. وئدت الفتنة الصغري حين أشرق الميدان بنضارة الشباب, الواقف في ظهر المجلس التشريعي الداعم لمطالبه في حق الدم ومحاسبة المتورطين, اللابس لأقنعة الشهداء والجرحي, فكأن عفت ودانيال وعبد الهادي قاموا من رقدتهم يمشون علي الأرض يطلبون القصاص ممن قتلهم. إنه الميدان الرافض لأوضاع مستقرة علي اعوجاج, والشاجب لتحصينها بمباديء دخيلة علي الدستور, الميدان المراقب والفاضح للصفقات لو حاولت أن تستلب إرادة الأمة, إنه الميدان الحصن والملاذ. القضاء علي الفتنة يأتي بإحقاق الحق, وإقرار العدل, وإطلاق الحرية,ولو صنع ولاة الأمور في المرحلة الانتقالية( أو أي ولاة أمور في أي مرحلة) ذلك, وتجردوا من أي مصالح فئوية أو شخصية لانصلحت أحوال الأمة, ولعادت الهتافات تحملهم علي الأعناق فهل نعي الدرس قبل فوات الأوان؟ شكرا للتحرير الذي أطلق صيحته الهادرة, فأخمد الفتنة الصغري, وصوب مسارا كاد ينحرف, ولعلنا نسأل وماذا بعد الميدان؟ ألا نعود إلي البناء نراقب ونطالب, ونمهل ونأمل, نتجاوز المحن ونزهق الفتن, ونعمل ثم نعمل, فهذا هو الجهاد الأكبر الذي ينتطرنا ويحتاج الي مصر الواحدة المتحدة. جامعة الإسكندرية