التجوال في الشقة ذهابا وايابا هو كل ما تبقي له في هذا العالم الرحب, والتحديق في الصور المعلقة علي الجدران مرارا وتكرارا, واجترار ذكريات من فرط قدمها وسقوطها في جب الزمن السحيق, يشك احيانا في حدوثها!! عشر سنوات منذ احالته للمعاش وهو يشاهد ويرقب العالم من شرفة شقته المطلة علي الميدان الواسع جهة المتحف المصري,احدي البنايات القديمة ذات الطراز العربي العتيق الموشاة شرفاتها بمنمنمات زخرفية,ونقوش, وحليات من خط كوفي. ايجارها لا يتعدي بضعة جنيهات قليلة ومثيلاتها الان تتعدي الملايين... مشاهدة الناس والحافلات يروحون في شتي انحاء الميدان الواسع اصبحت هي المتعة الوحيدة الباقية له في دنيا الناس, بعد زواج الابناء وسفرهم للعمل والاقامة في بلدان بعيدة موحشة, عدا الابنه الصغري التي تزوجت واقامت في مصر الجديدة'' وتشقر'' عليه بين حين واخر, وان كانت تتغيب عنه احيانا لفترات طويلة, لكنه يعذرها''. وقد رفض الحاحها بوجوب اقامة احد معه, ليخدمه ويرعي شئونه, لانه سيكون بمثابة شخص غريب, يفرض عليه الكلفة, ويقتحم عالمه الخاص المفعم بالهدوء والوحشة, والذي تعود عليه, وان كان يشتاق في بعض الاحيان الي ررؤية وجه غريب, والتحدث الي ناس اخرين, غير البواب, وعامل السوبر ماركت, وام حميدة التي تزوره اسبوعيا لشئون الغسيل والنظافة, بجسدها المكتنز العفي الذي يجعله يتمسح بزمان ولي, كلما راها تنحني وهي تعمل فتظهر تقاسيم جسدها البض, وعجيزتها التي تجل عن الوصف لكنه اثر الوحدة, ووقع في براثن صمت ورتابة عميقين, ينتظر نهاية محتومة, لا يخشاها وان كان يرجو ان تتاخر قليلا, وكان يسال نفسه دوما: ''هل يخبئ الزمن لي سعادة غير متوقعة''. ومن اين تاتي؟, وقد جفت ينابيع الحياة من حوله, وخفت بريق الاشياء, توفي جميع المعارف والاصدقاء, حتي زملاء العمل بوزارة الري, يقرأ نعيهم بالجريدة, الواحد تلو الآخر, ويقول في نفسه: '' لم يتبق غيري'' ''ماعمري المديد سوي لحظة اضاءت ثم انزوت في العدم كانها لم تكن'' مامعني الزمن؟ الله سيرث الارض ومن عليها, مامعني لشيء سوي الموت الذي سارحب به لو انتظر قليلا, ربما ما زال شيئا تتخلق نطفته في الغيب؟. كلما قرأ الجريدة الصباحية التي يلقيها عم مصطفي كل يوم في الشرفة مبرومه مستعينا بعدسة مكبرة, يقوي بها علي ضعف بصره, هاله كم الشر.. والفساد الذي استشري واحتار فيما يصدق من اخبار!! وذات صباح, استيقظ علي ضوضاء وجلبة شديدة, واصوات تتدافع وصياح, تصدر عن الخارج, يهزون ارضية الحجرة, خلاف المناوشات التي كانت تحدث بين وقت واخر وعندما كان يسال عنها عم محمود البواب كان يرد بقوله: دول شوية ولاد بيتظاهروا ودول علي حق ياعم محمود... العلم عند الله, مهية ايام صعبة.. لكن هذه المرة, يسمع في الخارج اصوات طلقات رصاص وفرقعات وصراخ, ازاح دفء الاغطية, نزل من السرير, تتلمس قدماه خفه البني, هرع الي الشرفة يفتحها, شاهد جوا ملبدا بالدخان, ورائحة نفاذة تشري في الجو, تبعث علي الغثيان, مد بصره الضعيف, لحركة كر وفر بين جموع متأهبة, وعسكر يلوحون بهراوتهم علي اجساد مقتحمة, وعربات زرقاء محملة بالجنود تتوالي علي جنبات الميدان, ناصية عبد المنعم رياض, وهتافات مدويه تكاد تزلزل الميدان, اتسع جحوظ عينيه, شهق في خوف وقال: يوم القيامة؟! سار بخطوات بطيئة نحو الباب, ونادي عم محمود من بئر السلم بصوت مرتجف, فطل وجهه, فقال له: هو فيه ايه؟ الدنيا مقلوبة.. مقلوبة؟ فيه ثورة في البلد يا استاذ زاكر, اقفل الباب والشبابيك كويس.. ثورة.. ثورة.. تملكته الدهشة, واستغرب الكلمة وظل يغمغم بها.. ثورة.. ثورة.. متي سمع هذه الكلمة من قبل, اه! قالها جدي وانا صغير وهو يروي قصة اشتراكه في ثورة19, اثر نفي سعد باشا الي مالطة وكيف نزل الشعب الي الشوارع يهتفون باسمه ويطالبون بعودته, منددين بالاحتلال الانجليزي, راغبين في جلائه عن مصر,'' تحيا الحريه'', تسقط دولة الظلم والطغيان''... نعم وابي ايضا .. وهو يردد اسم جمال عبد الناصر بفخار وعزه شديدين...'' فليرحل الملك الفاسد واعوانه''......''فليسترد الشعب كرامته وكبرياءه'','' فليبدأ عهد جديد زاخر بالارادة المتحديه والامل الطاغي'' جلس علي كرسي الفوتيه في الصاله الغارقة في عتمتها الصباحية.. يتامل الاثاث الصامت, والبراويز المحنطة, تجول في ذهنه خيالات شتي, اخذ يستعرض حياته بمواقفها وشخوصها, بافراحها واحزانها, كشريط سينمائي, يشاهده في دار عرض, الحياة والموت يقفزان في غفلة, كمعني لشيء واحد يعجز عن تحديده بالضبط, إلي أن لمعت الفكرة في رأسه جلية, رحب بها بلا تردد, توهجت عيناه.. ببريق غريب وجذوة حماس اندلعت في قلب أماتته الرتابة ووهن الكبر, سنين عدة, نهض وارتدي ملابسه بسرعة متدثرا بشملته.. متوكئا علي عصاه الزان التي أهداه إياها ولده الكبير في عيلا ميلاده وكتب ورقة بخط مرتعش: أنا في الخارج وسأعود بعد قليل. ووضعها ظاهرة للعيان علي البوفيه في صدر الصالة, وخرج تاركا الشقة ترفل في عتمة وصمت رتيين. مهاب حسين مصطفي القاهرة