ثارت مصر وسقط النظام, وجاء من أصبح وسيطا وأمينا علي الثورة, تعهد بحمايتها وحراستها والعبور بالأمة إلي بر الأمان, وتحقيق مطالب العيش والحرية والعدالة الاجتماعية. واستبشر الناس خيرا بمن حمل الأمانة. يدور الحديث مع صديقي الأثير صباح كل جمعة, نتحادث بينما نتريض مشيا علي الأقدام, ذلك الحديث الذي ينعش القلب والعقل, نتطرق فيه إلي العام والخاص, نخوض في السياسة, ونتحدث عن أحوال الوطن والبلد والأهل, نتفق كثيرا ونختلف قليلا, اتفقنا علي أن شباب مصر أتي بثورة مذهلة عجز عن القيام بها الكبار, واختلفنا في تقويمنا لتطوير الأمور, صديقي حانق علي الميدان, يري أنه يعطل مصالح الناس, ويشدنا إلي الوراء, وأتي صديقي بتشبيه يعود إلي طبيعته الرومانسية, فالميدان وكأنه يعانق البلد في رقصة التانجو, خطوة للأمام وخطوتان للخلف, فهو يرانا أسوأ مما كنا عليه قبل الثورة. وأنا علي عكسه مؤيد للميدان, أراه قابضا علي الثورة, مذكرا بمبادئها, داعما لمطالبها, وقلت لصديقي التانجو المصري مختلف, فهو في محصلته إيجابي, خطوتان للأمام وخطوة للخلف!! تأملت كلام الصديق, وتساءلت, لقد مر عام علي الثورة, فهل نحن نتقدم حقا إلي الخلف؟ وما السبب, ومن السبب؟ راجعت ما جري من أحداث, فلقد اجتمع شباب الأمة كلها علي رؤية متوحدة لافظة للنظام الجاثم علي الصدور, الذي استباح كل القيم سعيا لتوريث البلاد لأولاده وأحفاده, أفسد المحكومين ليصبحوا شركاء ويتغاضوا عن فساد الحاكم, فخلق النظام حلقات موسعة من المستفيدين, فأسبغ عليهم العطايا والأموال من قوت الناس البسطاء, وأنعم عليهم بالمراكز الوظيفية الرفيعة بل سمح لهم بتوريثها لأولادهم وأحفادهم دون سند من الكفاءة أو القدرات, سمح لابن القاضي أن يرث القانون والمتقاضين وابن الاستاذ الجامعي يرث العلم والدارسين وابن المذيع يرث الأثير والمستمعين, وابن لاعب الكرة يرث الملاعب والمشجعين, وابن الممثل يرث الشاشة والمشاهدين, فما المشكلة أن يرث ابن رئيس الجمهورية الحكم والمحكومين؟ المهم مستقبل الأولاد حتي لو ضاع الحق والعدل, والعلم والإعلام, والرياضة والفن, حتي لو ضاع مستقبل الدولة كلها. ثارت مصر وسقط النظام, وجاء من أصبح وسيطا وأمينا علي الثورة, تعهد بحمايتها وحراستها والعبور بالأمة إلي بر الأمان, وتحقيق مطالب العيش والحرية والعدالة الاجتماعية. واستبشر الناس خيرا بمن حمل الأمانة. ولكن وقعت حوادث كثيرة مؤسفة, فهناك من قال عيال التحرير لازم يتربوا, فشهدنا جمالا( آي والله جمال) تقتحم الميدان, وكنائس تحترق, وحروبا طائفية تشتعل, وتفرقت مصر بين الميادين, وهوجمت المنظمات الحقوقية, وتناثرت تهم الخيانة الوطنية, وبتنا علي شفا حرب أهلية. كذب الناس إحساسهم, وأسماعهم, وعيونهم, وعقولهم, وانتظروا أن يحاسب من فتح السجون ليطعن الثورة والوطن في الظهر, ومن عذب الناشطين, ومن سحل المتظاهرين السلميين وفقأ عيونهم, وقتل الشباب العزل وسفك دماءهم, وطال انتظار العدل دون طائل. نادت الثورة بالحرية فحوكم الثوار المدنيون أمام المحاكم العسكرية, وسجنوا لأنهم مدونون خطرون!! بينما قدم إلي المحاكمات المدنية من كان قائدا عسكريا ورئيسا للبلاد إبان قتل المتظاهرين. نادت الثورة بالعدالة الاجتماعية وتمنت أن تطول المعاملة الإنسانية كل الأحرار وأرباب السجون في مصر. والمشهد عبثي, جرحي الثورة يعانون للحصول علي علاج, الثوار مخطوفون ومحبوسون في ظروف غير آدمية, بينما المخلوع المحبوس, المتهم بقتل المتظاهرين يأتيه خبراء الطب من أرجاء الدنيا لعلاجه, وينقل بالطائرات الرئاسية, ولم يعد ناقصا من مراسم التوقير إلا أن يعزف له السلام الجمهوري في قاعة المحكمة!! لم لا وقد أخبرنا الديب أنه بريء كالحمل, وإنه( صدق أو لا تصدق) مازال الرئيس, والثورة ما كانت إلا وهما لذيذا رقصنا فيه لمدة عام كامل علي أنغام الذئاب أو عوائها, وآن لنا أن نستيقظ. واستيقظنا في ذكري الثورة علي كابوس مخيف, حين تعرض شباب ألتراس الأهلي لمذبحة مروعة, فهؤلاء الشباب يتميزون بانتمائهم الفائق وولائهم الشديد لفريق ناديهم,( الألتراس كلمة لاتينية تعني الشيء المتميز أو الفائق), هم يستمتعون بالرياضة, يلتقون في مجموعات, لهم دستورهم الخاص في المتعة البريئة, فهم لا يتوقفون عن الغناء وترديد الهتافات الحماسية لدعم فريقهم, ويقومون بتوجيه الرسائل إلي اللاعبين خلال المباراة, لا يتوقفون عن التشجيع مهما تكن النتيجة, ولا يجلسون أبدا أثناء المباراة, ويلزمون أنفسهم بحضور أكبر عدد ممكن من المباريات لفريقهم, بغض النظر عن التكاليف أو المسافة. يبتهجون بالرياضة ويضفون بهجة وحماسة علي مباريات كرة القدم وغيرها من اللقاءات الرياضية, لذا فهم يستحقون الذبح وكسر الرقبة!! بدم بارد ينتقمون من الشباب الثائر, ويذبحون الثورة راهنوا علي الفراغ الأمني, والتشويه الوطني, والصفقات المشبوهة, والقمع الوحشي, ولكنها حسبة رديئة, غلط في غلط, فلقد فقدوا كل مصداقيتهم, ولو استعرت تشبيه صديقي, فإنهم جعلوا الأمر أشبه بالرقص البلدي السفيه, يهتز المجتمع في حركة عشوائية تثير القرف والغثيان. اذكر صباح29 يناير2011 وأنا أشاهد بقايا النار المشتعلة منذ اليوم السابق في مبني محافظة الإسكندرية, نظرت إلي الأطلال متأسيا, ووقف إلي جانبي رجل بسيط وسألني: هل هذا معقول يا أستاذ؟ تحيرت, لم أدر عما يسأل بالضبط, وبماذا أجيبه؟ فأردف موضحا هل معقول أن يحب إنسان نفسه إلي هذه الدرجة ويحرق البلد كله؟ لم أرد, فالبلد يحترق من سنين طويلة يا سيدي!! في ذكري الثورة أنظر إلي أستاد بورسعيد, وأتخيل الرجل الذي لا أعرفه وقد جاء إلي جانبي يسألني: هل معقول يا أستاذ أن مجموعة تحب نفسها إلي هذه الدرجة وتذبح البلد كلها؟ جامعة الإسكندرية