من بداية عصر الرئيس السابق حسني مبارك عام1981, وحتي أواخر التسعينيات من القرن الماضي, سادت في السينما المصرية بشكل عام نظم الإنتاج والتوزيع التي كانت قد استقرت في بدايات السبعينيات بعد تصفية المؤسسة المصرية العامة للسينما. وتوقف الدولة عن الإنتاج المباشر, واقتصار دورها السينمائي علي شركتين, إحدهما للاستوديوهات والأخري للتوزيع ودور العرض.. وفي الحقيقة, لم يكن هناك ثمة توزيع أو دور عرض.. لم تكن الأفلام المصرية الكبيرة توزع بأكثر من عشر نسخ داخليا, وكانت دور العرض قليلة, تدور حول رقم300 دار فقط منها أقل من ثلاثين دار عرض درجة أولي, ولم تكن مصر قد عرفت سينما المولات والمجمعات التي يصل فيها عدد الشاشات إلي خمس أو أكثر. وفي ظل هذه الظروف, كانت الإيرادات الداخلية للفيلم المصري ضئيلة, وغير مجزية للمنتجين, وكان تحقيق مليون جنيه في شباك التذاكر حلما صعب المنال بالنسبة لمعظمهم.. وعندما وصلت إيرادات بعض أفلام عادل إمام ونادية الجندي إلي خمسة ملايين جنيه محليا, اعتبر البعض ذلك إنجازا كبيرا ينم عن جماهيرية ساحقة. أما الجزء الأكبر من إيرادات الفيلم المصري, فكان يأتي من التوزيع الخارجي في الدول العربية.. ومن هنا جاءت سطوة الموزع الخارجي, اللبناني في الأغلب, والذي أصبح بمرور الوقت, وبسلف التوزيع التي كان يعطيها للمنتجين يتحكم في معظم عناصر الفيلم, خاصة اختيار الأبطال والموضوع والتوابل الجماهيرية المطلوب من وجهة نظره إضافتها لضمان الإقبال علي الفيلم, مثل العري غير المبرر لممثلات مطلوبات بالاسم في السوق العربية, والإفيهات الجنسية المبتذلة, ووصلات الرقص البلدي الدخيلة علي الدراما.. وهذا يفسر سيل الأفلام التافهة والمبتذلة الذي أغرق السينما المصرية خلال تلك الفترة. وفي المقابل, قدم بعض المنتجين العديد من الأفلام الجيدة التي سبق الإشارة إليها في هذه الحلقات, من دون تقديم هذه التنازلات.. ولا يعني ذلك أنهم كانوا يخسرون, بل كانوا يحملون مسئولية أعمالهم لنجوم معروفين يتم بيع الأفلام بأسمائهم علي أمل تحقيق الإيرادات الكبيرة, لكن ذلك لم يكن يحدث, وكان هؤلاء المنتجون يكتفون في النهاية باسترداد أموالهم, تحقيقا للمقولة الشهيرة: لايوجد فيلم يخسر. وحدث التحول الكبير عام1997, مع عرض فيلم إسماعيلية رايح جاي لكريم ضياء الدين, الذي حقق فجأة وبدون مقدمات إيرادات قياسية تجاوزات16 مليون جنيه, في زلزال هز السوق السينمائية وغير قواعدها وأصول اللعب فيها بشكل جذري.. واستمدت المفاجأة قوتها من حقيقة أن الفيلم ضعيف جدا فنيا وإنتاجيا, ولم يكن منتجه يجد50 ألف جنيه لاستكماله فباعه, وقيل في تحقيقات رسمية وقضية معروفة صدر الحكم فيها بالإدانة إن من اشتراه تحمس لذلك فقط لغسل أموال كان قد استولي عليها بشكل غير مشروع من البنك الأهلي خلال عملية إقامة معرض للسلع المعمرة للعاملين بهيئة النقل العام, فإذا به يربح كل هذه الملايين التي لم يكن هو أو أي شخص آخر يتوقعها. وتلقي المنتجون والموزعون رسالة الجمهور المصري واستوعبوها علي الفور, وأدركوا أن هذا الجمهور سئم نجوم السينما التقليديين, الذين كانوا قد استأثروا بالشاشة الكبيرة لأكثر من عشرين عاما, وأنه يريد التغيير, فدفعوا إلي مقدمة الصفوف بمجموعة من ممثلي الأدوار الكوميدية الثانية الذين أطلق عليهم البعض لقب المضحكين الجدد, ومنهم محمد هنيدي الذي نسب الكثيرون له نجاح إسماعيلية رايح جاي رغم أن البطل كان المطرب محمد فؤاد والراحل علاء ولي الدين, وأحمد آدم, وأشرف عبد الباقي, وغيرهم.. وبعد قليل, لحق بهم في القمة ممثلون خرجوا أيضا من عباءة الأفلام الكوميدية لكن اختاروا فيما بعد أو اختار لهم غيرهم ما يسمي بأدوار الأكشن, مثل أحمد السقا وكريم عبد العزيز. وتوالي, في بدايات القرن الحادي والعشرين, ظهور نجوم الشباك في الفريقين, فظهر في الفريق الكوميدي محمد سعد وأحمد حلمي وهاني رمزي وأحمد رزق وأحمد عيد وغيرهم, وكان آخرهم أحمد مكي, مع استمرار عادل إمام في العمل.. وظهر في فريق الأكشن مصطفي شعبان وأحمد عز ومحمد رجب وغيرهم.. وتوالي بالتالي حصد الإيرادات بالملايين من التوزيع الداخلي, لتعيش السينما المصرية شهر عسل قصيرا( لم يتجاوز عدة سنوات) كان اعتمادها الرئيسي خلاله, ربما لأول مرة منذ بدايتها, علي الإيرادات الداخلية, وتحررت خلاله, ربما لأول مرة أيضا, من سطوة الموزع الخارجي أو أي طرف خارجي آخر. ولم يستمر شهر العسل طويلا, حيث اجتمعت عدة أسباب علي انهائه, أهمها انتشار القنوات الفضائية العربية والمصرية المتخصصة في عرض الأفلام وغيرها, والتي أصبحت, في وقت لاحق, طرفا خارجيا جديدا يتحكم في السينما المصرية, أو علي الأقل يلعب دورا بارزا في لعبة تحالفاتها وتكتلاتها ويؤثر علي حسابات الربح والخسارة فيها. كانت القنوات الفضائية, التي بدأ انتشارها الكبير عام2003, نعمة ثم تحولت إلي نقمة منذ بدء الأزمة المالية العالمية في سبتمبر2008, ولكي يتضح كيف حدث ذلك, لابد من التوقف قليلا عند آليات الانتاج التي سادت في هذه المرحلة الدقيقة من تاريخ السينما المصرية. فور انتشارها واشتعال المنافسة فيما بينها, أصاب قنوات الأفلام الفضائية ما يمكن تسميته نهم شراء الأفلام المصرية, لكي تملأ ساعات ارسالها وتحقق كل منها السبق علي حساب الاخري, مما رفع أسعار هذه الأفلام بشكل جنوني, وجعل النجوم المطلوبين في سوق هذه القنوات يتدللون علي المنتجين ويغالون في طلباتهم.. ولا أقصد الأجر فقط بل أيضا المطالب الخاصة بالعمل مع فنانين وفنيين بعينهم, مثل ممثلي الأدوار المساعدة ومديري التصوير والمونتيرين, فضلا عن المخرجين بالطبع.. إلي درجة أن بعضهم كان يشترط العمل مع عامل كلاكيت بعينه! وأدي ذلك إلي رفع أجور هؤلاء الفنانين والفنيين بدورهم, وإلي زيادة ميزانيات الأفلام بشكل عام, وكان المنتجون يدفعون عن طيب خاطر, لأنهم لم يكونوا يدفعون من جيوبهم, بل من جيوب القنوات الفضائية, وكانوا متسامحين مع طلبات المخرجين الخاصة بزيادة علب الأفلام الخام أو زيادة عدد أسابيع التصوير.. وهكذا بدأنا نسمع عن ميزانيات لم تكن السينما المصرية قد عرفتها من قبل, وصلت إلي أكثر من عشرين مليون جنيه. كانت السينما قد انتعشت في العصر الفضائي, وتضخمت ثروات المنتجين والنجوم, كما ارتفعت أجور الجميع, بمن فيهم كتاب السيناريو الذين كانوا مظلومين في الماضي, فإذا بأجور عدد منهم تصل إلي مليون جنيه. كانت الأشيا معدن كما يقولون, حتي وقعت الأزمة المالية العالمية, ولنا معها حديث آخر