تزامن انطلاق السينما في مصر مع انطلاقها في بقية دول العالم عندما عرض علي مقهي زواني بالإسكندرية في يناير عام 1896 أول عرض متحرك ومنذ ذلك التاريخ وعلي مدي مائة عام أنتجت السينما المصرية أكثر من 4 آلاف فيلم قام فيها القطاعان العام والخاص بدور كبير.. فقد حمل رواد السينما الأوائل ممن أحبوها بصدق علي كاهلهم عبء النهوض بها وتحملوا في سبيل نشوئها ونهضتها الكثير من الخسائر حتي جاء طلعت حرب باشا وأنشأ بنك مصر ومن خلاله أنشأ شركة ستوديو مصر عام 1935. أصبحت الشركة الوليدة محور الحركة السينمائية في مصر حتي نشوب الحرب العالمية الثانية عام 1939 مما أدي إلي تقلص عدد الأفلام المنتجة إلي16 فيلماً ولكن مع نهاية الحرب عام 1946 نشطت الشركة وارتفع عدد الأفلام إلي 67 فيلماً. ظل دور شركة ستوديو مصر قائماً حتي تم تأميم صناعة السينما في عام 1962 وأنشأت الدولة المؤسسة العامة للسينما لإنتاج الأفلام الروائية إلا أن ذلك أدي إلي انخفاض عدد الأفلام المنتجة إلي 40 فيلماً كما أدي إلي تقلص دور العرض من 354 إلي 255 داراً فقط نتيجة انسحاب أصحاب الشركات الخاصة وترك الأمر للدولة.. وفي عام 1971 تمت تصفية مؤسسة السينما وإنشاء هيئة عامة تضم السينما والمسرح والموسيقي، وتوقفت الهيئة عن الإنتاج وتم إفساح المجال للقطاع الخاص وانحسار دور الدولة عن السينما حتي انتهي تماماً مع مطلع الثمانينيات، وأصبح متوسط الإنتاج لا يزيد علي 50 فيلماً ارتفع إلي63 في نهاية العقد. لم يجد المنتجون بعد انسحاب الدولة من تمويل السينما إلا الاتجاه إلي البنوك يستنجدون بها لإقالة السينما من عثرتها ولكن البنوك رأت أن السينما تعتبر استثماراً خطراً ليس له ضمانات مما أدي إلي تقلص عدد الأفلام مع بداية الألفية الثالثة ليصل إلي 10 أفلام، مما حدا ببعض شركات الإنتاج للتكاتف والاتحاد لتكوين كيانات تستطيع أن تتحمل تكاليف الإنتاج الباهظة ليرتفع العدد إلي45 فيلماً عام 2009 إلا أنه تراجع بشكل حاد مع بداية 2010حيث لا يتوقع أن يتخطي ال 20 فيلماً مع نهاية العام، مما يضع علامات استفهام كبيرة حول دور البنوك في السينما ولماذا ترفض الدخول في تمويل هذه الصناعة المهمة برغم أن البنوك في الدول المهتمة بالسينما كالهند وأمريكا تساندها بشكل كبير لما تدره من موارد. "آخر ساعة" فتحت قضية رفض البنوك تمويل السينما باعتبارها- من وجهة نظرهم- صناعة لا تستحق المجازفة لأنها غير مأمونة العواقب. مخاطرة كبيرة في البداية يقول المنتج جمال العدل إن المخاطرة الكبيرة والعالية في السينما هي التي تمنع البنوك من الاتجاه إلي إنتاج الأفلام لأن الأموال التي سوف تصرف علي هذه الصناعة ربما لا تعود لها مرة أخري فمثلاً الإيرادات التي تأتي من أي فيلم ولتكن 20 مليوناًهناك من يشاركني فيها فالنجم يأخذ منها 7 أو 8 ملايين بالإضافة إلي أنني أتعامل مع شركات توزيع وهي لها نسبة من الإيراد، إذن فالفيلم خسران خسران والمخاطرة في السينما هي التي تقف حائلاً أمام دخول البنوك مجال الاستثمار في إنتاج الأفلام أما عن اتجاه البنوك للاستثمار في صناعة السينما نفسها فأكد العدل أنها أيضاً تشتمل علي مخاطرة وذلك لأن إنشاء الاستوديوهات والمعامل دون أن يكون هناك أفلام كمن يفتح سوبر ماركت ولا توجد فيه بضاعة فلمن ينشئون هذه الاستوديوهات ولا يوجد أفلام لتصور فيها. ويؤكد الفنان محمود ياسين أن هذا الموضوع تأخر كثيراً في طرحه للمناقشة لأن السينما منذ منتصف الثمانينيات وهي تعاني وزادت معاناتها بعد صدور القانون 203 لسنة 1991 والذي يقضي بتخلي الدولة عن جميع الأصول غير الاستراتيجية بمعني أن صناعة السلاح والبترول والإسكان وغيرها هي صناعات استراتيجية ولكن الصناعات غير الاستراتيجية كان من بينها السينما ولذلك فقد تخلت الدولة عنها لأنها صناعة هشة في حد ذاتها فإذا كانت الدولة قد تخلت عن صناعة السينما فإن تخلي البنوك عنها أمر طبيعي بالرغم من أن استثمارات صناعة السينما تعتبر ضخمة وأصولها كثيرة ولابد أن تعود الدولة لتمسك هذه الأصول مرة أخري.. فلقد ظللنا سنوات ننتظر أن تظهر شركات إنتاج لتقيل السينما من عثرتها حتي ظهرت الشركة العربية ثم جود نيوز التي توقفت الآن لإعادة الحسابات واستمرت العربية ولكنها لن تستطيع أن تسد الفجوة الكبيرة في الإنتاج فهي قد تنتج ثلاثة أو أربعة أفلام في العام وهي غير كافية.. وكل ذلك بسبب أن الدولة رفعت يديها عن السينما تماماً ولا يظن أحد أن لها يداً في صناعة السينما الآن بل العكس هو الصحيح.. ولذلك انتقلت تلك النظرة من الدولة للسينما إلي البنوك فأحجمت عن الإنتاج تماماً. المنتجون السبب أما الناقد طارق الشناوي فيؤكد أنه كانت للبنوك تجربة مع أحد المخرجين وربما تكون السبب في ابتعاد البنوك عن تمويل المشروعات السينمائية كما أن غياب الفلسفة العامة عند المجتمع حول النظرة العامة للسينما ومن يعملون بها والتي دائماً ما تكون متدنية انتقلت إلي الاقتصاديين فبدأوا ينظرون إلي السينما كمشروع تافه لا يستحق أن يدخل فيه أحد.. بالرغم من أن السينما تكسب وليس كما يدعي المنتجون من أنها تخسر واضعين في اعتبارهم الضرائب وغيرها أما البنوك فإن أمر الضرائب لا يشكل لها أي عائق بل إن دخولها في الإنتاج سوف يؤدي إلي انتعاشة في السينما نفسها ولكن ترديد القائمين علي السينما أنها تخسر يقع عليه جزء كبير من إحجام البنوك عن الدخول في تمويل صناعة السينما. أما المخرج شريف عرفة فيري أن البنوك لم تكن في يوم من الأيام ممولاً للأفلام لأنه لا توجد لديها أي ضمانات علي عكس ما يحدث في أمريكا حيث تمول البنوك الأفلام لأن هناك ما يسمي الحد الأدني من الربح وهو الضمان الذي تبحث عنه البنوك أما عندنا في مصر فلا يوجد من يحدد هذا الحد الأدني وبالتالي لا توجد أي ضمانة لدي البنوك.. كما إنهم لا يتعاملون مع الفيلم كمشروع استثماري لأن به حجم مخاطرة عالياً، ولكن يمكن للبنوك أن تمول الأصول الثابتة في صناعة السينما كالاستوديوهات والمعامل وغيرها.. وأكد عرفة أن طلعت حرب عندما فكر في دخول مجال الاستثمار في صناعة السينما أنشأ شركة مستقلة عن بنك مصر وبالتالي لم يكن البنك طرفاً فيها. لا توجد ضمانات ولم يختلف رأي المصرفيين كثيراً عن رأي السينمائيين حيث يؤكد أحمد قورة رئيس البنك الوطني المصري السعودي السابق أن فكر البنوك في مجال الاستثمار ينصبّ في اتجاهين الفكر التقليدي والفكر المصرفي وهما ما يحكم الاستثمار في أي صناعة.. وإذا ما طبقنا هذين الفكرين علي صناعة السينما سنجد أولاً أن الفكر التقليدي يقوم أساساً علي تمويل المشروعات الإنتاجية وبالتالي لا يعتبر الفن من ضمن هذه المشروعات فيكون دائماً الرفض هو الرد الطبيعي لمشروعات إنتاج الأفلام. أما عن الفكر المصرفي فلا توجد ضمانات كافية لاستيفاء حقوق البنوك خاصة أن ميزانية الأفلام دائماً ما تنصب حول التصوير وأجور الفنانين ولو طبقنا مقومات الائتمان الخاصة بالدراسات المتعلقة بالأفلام سنجد أنها غير مستوفاة ولا توجد لها ضمانات يسترد بها البنك أمواله، فلا يمكن الحجز علي فنان أو فنانة لمجرد أنه قدم عملاً وإلا أصبحت فضيحة تتداولها الصحف. وعن عدم دخول البنوك في تمويل إنشاء الاستديوهات والمعامل السينمائية أكد قورة أنها ينطبق عليها نفس الأمر حيث لا توجد أيضاً ضمانات. وأذكر والكلام ل"قورة" أنه في فترة السبعينيات كنت أعمل في البنك الأهلي المصري تقدم أحد المخرجين لتمويل مشروع استوديو متنقل علي اعتبار أنه الضمان وبعد فترة توقف عن السداد ولم نستطع بيع الاستوديو لاسترداد حقوق البنك. إحجام عام من جانبه صرح مصطفي السيد مدير ائتمان الشركات بأحد البنوك الأجنبية بأن هناك إحجاماً بشكل عام من البنوك عن تمويل الأعمال الفنية وذلك لعدة أسباب أولها ارتفاع حجم المخاطرة في تلك الصناعة وعدم ضمان تحقيق تدفقات نقدية من تسويق الأعمال لأنها تعتمد في المقام الأول علي نجم الشباك والسيناريو المطروح وليس دراسة الجدوي في الأعم فلا أحد يضمن أن الفيلم الذي مول إنتاجه بنك ما سيحقق نسبة مشاهدة عالية أو أن القنوات الفضائية سوف تقبل علي شرائه خاصة أن هذا هو مصدر التدفق النقدي لأي عمل فني، ثانياً عدم توافر كوادر مدربة لدي البنوك علي التعامل في مثل هذه القطاعات. ويشير السيد إلي أن عدم وجود ضمانات حقيقية ممثلة في أصول أو ما شابه ذلك يعد إحدي العقبات التي تقف أمام التمويل، فمعظم المنتجين أو شركات الإنتاج لا تملك أصولاً مثل الاستوديوهات أو دور العرض أو مقار لقنوات فضائية بل غالباً يتم استئجارها. إجماع المصرفيين والسينمائيين علي أن صناعة السينما تحمل درجة مخاطرة عالية تؤدي إلي إحجام البنوك عن تمويلها يضع مستقبل السينما المصرية علي المحك وهو ما بدأ يظهر جلياً في حجم الإنتاج هذا العام والذي تدل بشائره الحالية علي أن السينما داخلة علي مفترق طرق قد يؤدي إلي سقوطها في هاوية سحيقة تحتاج فيها لمن يمد لها طوق النجاة فهل تسارع الدولة بإلقاء هذا الطوق أم ستترك السينما لمصيرها المجهول؟ سؤال يستحق الإجابة لإنقاذ صناعة تعتبرها الدولة "تافهة".