مرت مصر علي مدي السنوات السبع الماضية بمرحلة من أصعب المراحل التي مرت بها عبر التاريخ, ولدرجة قد يقف التاريخ أمامها طويلا حتي يستطيع حصر واستيعاب وتفسير كم ونوعية الأحداث التي وقعت وحصر الأطراف الظاهرة والخفية التي ساهمت فيها. ووسط هذا الزخم يظل تاريخ30 يونيو رقما فارقا في المعادلة حيث أربك كل الحسابات وغير كل موازين القوي التي كانت مفروضة علي أرض الواقع, ذلك لأن الشعب المصري كعادته قرر أن يلقي بكل مخاوفه خلف ظهره, ويحطم كل الطموحات الاستعمارية ويفشل كل الخطط والمؤامرات التي بات الغرب ينسج شراكها حول المنطقة منذ عقود, فكان أن لقن العالم درسا سيظل محل اهتمام جميع مراكز الأبحاث علي مستوي العالم, وحطم رقم قياسيا في أكبر مظاهرات حب للوطن وحرص علي الهوية علي مستوي التاريخ. لم تكن30 يونيو مجرد ثورة شعب علي حكم جماعة فاشلة ذات مشروع وهمي, ولكن كانت- كما قطع سياسيون ومؤرخون- ثورة علي عالم متسلط أراد أن يجبر الشعب المصري بالقوة علي الرضوخ لحكم أبله واعتبره غالبية المصريين خائنا, وظن الغرب أن الشعب الذي أنهكته المظاهرات والتي استنزفته سياسيا واقتصاديا وفكريا وأخلاقيا, لن يهب مرة أخري ضد حكم الإخوان الذي توطد بالتزوير والخداع والدم والسلاح. فما كان من الشعب إلا أن أبهر العالم بصموده وتحديه لكل الأعداء الداخليين والخارجيين, ليلقي في قلوبهم الرعب جميعا بصرخة واحدة. نجحت30 يونيو ليس فقط في خلع نظام وحكم الإخوان, ولكن نجحت أيضا في بث الرعب في قلوب الغرب الذي أصبح يحترم رأي الشعب المصري ويقدر اختياراته, فأدركوا أنه شعب لديه من الوعي والقدرة علي التحدي والعند ما يجعله لا يحتاج إلي وصاية أو توجيه من أحد. وبعد5 سنوات, ريما تكون الصورة الآن أوضح قليلا بما يكفي لنسأل المتخصصين عن أسباب قيام ثورة30 يونيو, ومقومات نجاحها رغم أن كل الحسابات المحلية والدولية, السياسي منها والاقتصادي والاجتماعي والأمني والعسكري, كانت تشير بأن الدولة لا تحتمل فترة تخلخل أخري, وكانت كل المؤشرات تؤكد أن الشعب الغاضب قد أيقن أنه وقع في براثن الإخوان السامة, التي يصعب التخلص منها. وعن رؤيته لأسباب ثورة30 يونيو وأيضا أسباب نجاحها بعد عامين فقط من25 يناير, يقول دكتور سعيد صادق أستاذ الاجتماع السياسي بالجامعة الأمريكية: في فترات ما بعد الثورات عادة ما تكون الأنظمة غير مستقرة, وهذا ما حدث في الثورة الإيرانية عام1979, حيث تم تغيير رئيسين خلال عام ونصف, الأول حكم عليه بالإعدام وهرب, والثاني قتل, وكذلك لو نظرنا إلي ليبيا وتونس واليمن بعد الثورات سنجد أنها حتي الآن لم تصل إلي مرحلة استقرار. يضيف: التاريخ يؤكد أن ما فعله الشعب المصري في30 يونيو بخلع الإخوان يعد عام واحد فقط من حكمهم, كان بمثابة المعجزة التي عجزت عنها ألمانيا بعد انتخابها لهتلر ولم تتخلص من حكمه إلا بعد الهزيمة في الحرب العالمية الثانية, وعجزت عنه أيضا إيران بعد انتخابها للخوميني الذي لم تستطع حتي الآن التخلص من حكمه. ويتابع دكتور سعيد: لو نظرنا لأسباب ثورة الشعب ضد حكم الإخوان فيمكن تلخيصها في عدة أمور منها حالة الرفض الرسمي لجماعة الإخوان المسلمين منذ إنشائها عام1928, فقد كانت الجماعة مصنفة لدي كافة الأنظمة السياسية التي مرت بها مصر علي أنها عدو داخلي, فقاومها الملك فاروق حتي أن حسن البنا قتل في عهده, ثم حاربها جمال عبد الناصر ووضعهم في السجون, وكذلك السادات الذي أخرجهم من السجون ليعود مرة أخري لسجنهم في أواخر عهده, أما في عهد مبارك فقد اختلف الوضع قليلا, فرغم أن الجماعة صنفت علي أنها جماعة محظورة, لكنه سمح لهم بممارسة السياسة وخوض الانتخابات البرلمانية وكذلك سمح لهم بالتوسع الاقتصادي في محاولة منه لإحداث مواءمة سياسية حتي لا يثيروا القلاقل. وهناك أيضا حالة الرفض المجتمعي لأفكار الجماعة وتوجهاتهم السياسية والدينية, فهناك قوي مجتمعية كاملة كانت رافضة ومتخوفة من فكر الإخوان, وهذه القوة كان قوامها كتلة المرأة المصرية التي تمثل50% من المجتمع, مضافا لها المسيحيون المصريون الذين يمثلون10% من المجتمع, بالإضافة إلي أعيان الريف ورجال الأعمال وأهل الصعيد. ويؤكد أنه من كل ذلك نكتشف أن فكر الجماعة مرفوض من معظم فئات المجتمع, وأوضح أنه في عام2011 مع بداية ظهور الإخوان في الساحة تداول رواد مواقع التواصل الإجتماعي رسالة وجهت من نساء إيران إلي سيدات مصر وتونس, تحذرهن من أن يسمحن للإخوان بالحكم خوفا من أن يفعلوا بهن ما فعله الخوميني بنساء إيران الذين وعدهم بأن يسمح للمرأة بالترشح للرئاسة, وبعد توليه الحكم فرض نظام الولاية أعادهن لعصر الحريم. ويضيف للأسباب أنه لم يكن الإخوان من البداية لديهم نية الترشح للرئاسة ولم يكونوا علي استعداد لها أصلا, وكانت هناك تصريحات من جون ماكين وزير الدفاع الأمريكي بأن أمريكا لن تسمح للإخوان بالوصول للحكم خوفا من تحويله لحكم دموي, إلا أن هذه التصريحات تغيرت بعد لقائه بخيرت الشاطر, وبدأت أمريكا في مساندة الإخوان رغم أنهم لم يكن من بينهم كوادر مؤهلة للحكم. ويتوقف عند افتقاد الجماعة للكوادر القادرة علي الحكم والإدارة ويقول: إنه كان له دور في سقوطهم السريع, خاصة بعد أن حاولوا الاستئثار بالحكم وإقصاء كل القوي السياسية الأخري, الأمر الذي أدي لفشلهم في إدارة الدولة بكل ملفاتها الداخلية والخارجية. وهو الدرس الذي تعلمه حزب النهضة التونسي, حيث اعترف راشد الغنوشي بأنه قضي عمره معارضا ولا يستطيع إدارة دولة وأن الإخوان في تونس لا يملكون كوادر قادرة علي الإدارة والحكم وتشارك مع القوي السياسية الأخري. لكن إخوان مصر طمعوا في الحكم وحدهم وقاموا بإقصاء كل القوي السياسية الأخري التي تحالفت بدورها ضدهم. فأصبحوا شهداء للكرسي. ويوضح أنه كانت هناك مشكلة أخري عانت منها جماعة الإخوان بعد افتضاح نواياهم السياسية وسقوط الأقنعة عنهم, حيث اعتمدوا علي مبدأ التقية المأخوذ عن الشيعة, والذي أطلق عليه حسن البنا مصطلح الإيهام, حين تحالفوا مع كل القوي السياسية حتي المختلفة عنهم في الايديولوجيا, وانقلبوا عليهم جميعا بعد وصولهم للحكم, تماما كما فعل الخوميني حين تحالف مع حزب تودا الشيوعي, وقام بذبحهم بعد وصوله للحكم. ويضيف لتلك الأسباب أيضا افتضاح زيف شعارات التنظيم الدينية بعد وصولهم للحكم وميلهم للارتماء في حضن أردوغان الذي حاول اجتذابهم بمشروع الخلافة, بعد أن شعر برفض أوروبا له, فحاول أن يحتمي بالعرب ليسيطر عليهم حتي يواجه بهم الغرب ليثبت لهم أنه مسيطر علي قوة إقليمية مهمة في المنطقة وخاصة منطقة الخليج التي تملك63% من بترول العالم. ويري الدكتور عاصم الدسوقي أستاذ التاريخ, الأمر من زاوية مختلفة, ليحدد لنا أسباب ثورة الشعب المصري علي الإخوان ومنها حسب قوله إن الإخوان تجاهلوا تماما تاريخ مصر وموروثها الثقافي الذي يجعل من مصر علي مر التاريخ وطنا للجميع, فعمدوا إلي إثارة الفتنة الطائفية بين المصريين, ويضيف: كان واضحا للجميع أن سياستهم تؤدي إلي تفكيك الوطن وتخدم سياسات الربيع العربي الأمريكي وتنفيذ مشروع الشرق الأوسط الكبير الذي طالما حلمت به إسرائيل كما أن تجاهل الإخوان فكرة الوطن المصري لصالح فكرة الأمة الإسلامية وهي فكرة خيالية تتجاوز كل مقومات التاريخ والجغرافيا والتصنيف العرقي والثقافي, فمنطقيا لا يمكن إقامة دولة علي أساس الدين وحده, فكيف لدول مختلفة اللغة والثقافة والتاريخ مثل كل من ايران وتركيا والعراق والمغرب وباكستان وأفغانستان أن تكون أمة واحدة؟؟ فما هي لغتها وأين تاريخها المشترك وكيف تتشابه مصالحها وثقافتها وهي مختلفة بالأساس؟ ويوضح الدكتور الدسوقي أن كل هذا أظهر بوضوح أن الإخوان لم يكن لديهم غضاضة في تقسيم مصر, والتنازل عن حلايب وشلاتين للسودان, والتنازل عن40% من مساحة سيناء لإقامة دولة فلسطينية لتستريح إسرائيل من عرب فلسطين وتقصيهم إليها, وهذا ما يرفضه المصريون جملة وتفصيلا, ولم يختلف حكم الإخوان عن حكم الحزب الوطني, فقد ظهر بوضوح أنهم يحافظون بالأساس علي رؤوس أموالهم, فكثير منهم رجال أعمال وأصحاب مصالح سعوا لتحقيقها بعيدا عن مصلحة الشعب والدولة المصرية, وهنا وجد الشعب أن مطالب ثورة25 يناير من عيش وحرية وعدالة اجتماعية لن تتحقق في ظل حكم الإخوان. ويؤكد أنه رغم أن الشعب المصري صبر علي مبارك30 عاما, إلا أنه لم يصبر علي الإخوان عام واحد, والسبب هو أن أيام حكم مبارك كانت الحياة متيسرة للشعب, وكانت الأسعار أرخص, خاصة أن الشعب عندما ثار علي مبارك كان السبب الرئيسي هو رفضه لفكرة توريث الحكم وعدم سماحه بالديمقراطية وتداول السلطة, ورغم ذلك كان مبارك رافضا لمشروع الشرق الأوسط الكبير وكان حجر عثرة ضد فكرة تفكيك الدولة التي وافق عليها الإخوان, فالشعب المصري صبور بطبعه, يمكن أن يصبر علي المكاره لكنه لا يصبر أبدا علي إهانة كرامته, وهذا ما رفضه من الإخوان لذلك تظاهر ضدهم بعد أقل من عام. ويرصد الدكتور أيمن عبد الوهاب, الباحث السياسي ورئيس أحوال مصرية بمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستيراتيجية, أسباب نجاج ثورة المصريين علي الإخوان في تهديدهم لمفهوم الدولة المدنية القومية الحديثة لصالح مشروع الدولة الدينية, فافتضح مشروعهم السياسي وافتضحت نواياهم ليدرك الشعب أنهم يسعون فقط لتنفيذ مشروع الجماعة وليس مشروع الدولة الحديثة. فكان خوف المصريين من تغيير الهوية المصرية سببا مهما في الثورة ضدهم. وذلك رغم الجدل الحاصل بين المصريين حول فكرة الهوية المصرية, وهل هي عربية أم إفريقية أم متوسطية أم إسلامية أم فرعونية, إلا أن كل هذا لا ينفي شعور ويقين المصريين بأن كل هذه الهويات ما هي إلا هويات فرعية, لا تلغي بدورها الهوية المصرية التي هي في حد ذاتها تعتبر هوية متفردة. ويتوقف الدكتور أيمن عبد الوهاب أمام سقوط قناع المظلومية الذي اعتمد عليه الإخوان وروجوا له من أجل كسب تعاطف الشعب والقوي السياسية, فظهر خداعهم ومتاجرتهم بالشعارات الدينية للشعب كله بما فيه المتعاطفون مع الإخوان والقوي السياسية التي كانت تري أنهم فصيلا سياسيا قادرا علي الاندماج في الحياة السياسية المصرية إذا ما أتيحت لهم الفرصة, وتأكد الجميع من أن الإخوان ليست جماعة مظلومة ولكنها بالأساس ظالمة وإقصائية ولا تسعي إلا لتنفيذ مشروعها. ويشير إلي أن الشعب بكل فئاته تكاتف ضد الإخوان وقرر خلعهم والتصدي لأي قوة سياسية تنادي بإمهال الإخوان فرصة ثانية, فاستبعد بدوره كل من نادي بهذا المطلب, كما لعبت عملية التعبئة العامة التي حدثت والرسائل التطمينية التي أرسلتها القوات المسلحة المصرية للشعب دورا مهما في حشد الشعب للنزول ضد الإخوان, فكانت كثافة أعداد المتظاهرين مفاجئة للجميع في الداخل والخارج, ولا ننكر أن غضب المصريين من الإخوان وتهديداتهم كان عاملا مهما في نزول الشعب في30 يونيو, فنزل الشعب بكافة فئاته من رجال ونساء وشيوخ وأطفال غير عابئين بتهديدات الإخوان, ومطمئنين بحماية الجيش لهم. فكانت الأعداد الهائلة رسالة قوية للعالم والقوي السياسية التي ساندت الإخوان في الداخل والخارج. وحسب وجهة نظره فإنه لا يمكن إنكار أن الشعب والجيش كانا الطرفين الأهم في المعادلة, حيث لم تكن للقوي السياسية والنخبة أي تأثير في حشد الشعب أو إثنائه عن النزول الذي فاق كل التوقعات, وجنب مصر سيناريو صعبا كان مرسوما لها بإحداث مواجهة مسلحة بين الشعب وقوات الإخوان المسلحة, والتي كان من الممكن أن تتحول لحرب أهلية بسهولة, وهو السيناريو الذي تم تنفيذه في سوريا للأسف, ولكنه لم ينجح في مصر بسبب وعي الشعب الذي تخطي وعي النخب والقوي السياسية في مصر, والذي اتضح بالفعل قصورها وعدم نضجها في تقدير الموقف, والتي تنازعت فيما بينها ما بين فئة كانت لها مصالح مع الإخوان, وفئة كان لديها أمل في تغيير فكر الجماعة ودمجها في الحياة السياسية المصرية. ويتوقف عندعبقرية الشخصية المصرية ويري أنها كانت أحد أهم أسباب نجاح ثورة30 يونيو, فهذه الشخصية التي يحلو للبعض أن يصفها بأنها مالهاش كتالوج يكمن سرها في بساطتها وسهولتها وعدم القدرة علي توقع رد فعلها, فالشعب المصري صبور وقادر علي التكيف, لكنه لا يطيق ولا يقبل المساس بكرامته وهويته, ويضيف: لحسن حظنا, فقد ارتكب الإخوان في أول عام لحكمهم كل الموبقات التي تثير الشعب بكل فئاته ضدهم, فكشفوا كل أوراقهم بسرعة وفشلوا في إدراة كل الملفات الداخلية والخارجية بما فيها إدارة الدولة نفسها, ويمكن هنا أن ننظر لأمر اعتبره في غاية الأهمية وله دلالة كبيرة, وهو نزول أبناء محافظات الصعيد بكثافة ضد الإخوان في30 يونيو, فالمجتمع الصعيدي محافظ بطبعه, ولكنه شعر بأنه مهدد تحت حكم الإخوان, وكان التهديد اجتماعي وسياسي أكثر من كونه تهديدا اقتصاديا. ويوضح أن من نزلوا في25 يناير, كانوا من أبناء الطبقة العليا, ممن كان لديهم طموح وتطلع لحياة ديمقراطية ومزيد من الرفاهية الاقتصادية, لكن الذين نزلوا في30 يونيو كان معظمهم من الطبقة المتوسطة التي تعتبر رمانة الميزان, وهذا يعكس وعيا شعبيا كبيرا بالمخطط الذي استهدف ضرب هوية الدولة القومية الوطنية, وهي الهوية التي لا يسمح بالمساس بها, حتي عندما نادت مصر بالقومية العربية, لم يكن ذلك علي حساب الهوية الوطنية المصرية, حيث كانت مصر هي قلب المشروع القومي العربي وقائدته وليست مجرد طرف أو جزء منه, فمصر حتي لو مرت بظروف صعبة أو مشاكل فهذا لا ينفي أنها هي دولة كبيرة ولديها حضارة وتاريخ وثقافة قوية يصعب النيل منها.