لن أكون مبالغًا إذا قلت إن نخبتنا أتلفتها الأهواء الشخصية، ولن أستسلم لذلك الوضع المستهجن منا جميعا، لذلك فالحاجة باتت مُلحة لأصوات وطنية تستنهض نخبتنا من كبوتها، وتطلق صفير إنذار فى آذانها الغافلة عما يدور حولها، لنعيدها إلى ما كانت عليه النخبة المصرية التى كانت تشكل الوعى، وتصون الوطنية، وتذود عن المواطن. المتأمل للمشهد المصري يجد أن هناك أزمة حقيقية, لا يمكن أن تستمر دون أن نضع أيدينا عليها, ونشخص مرضها, ونبحث عن حلول عاجلة لها. إنها أزمة النخبة التي باتت معضلة كبيرة في طريق هذا الوطن, علي عكس ما هو مأمول لكل وطن من نخبته, فبدلا من أن تكون, أي النخبة, كما علمنا التاريخ, داعمة للوطن والمواطن, أصبحت معوقا رئيسيا وورقة مضافة إلي الأوراق التي يستخدمها الأعداء للنيل منا, ربما عن غير قصد, لكنها الحقيقة التي تكشف أحداث السنوات الأخيرة عن جوهرها, بدلائل وقرائن لا تخطئها عين, ولا يضل عقل سبيله إليها. ومن المفترض أن تكون النخب علي اختلاف تصنيفاتها; في مجالات السياسة والاقتصاد والثقافة والإعلام والدين, في صدارة جبهة تشكيل الوعي, وحصن الدفاع عن المجتمع والدولة, ما دام الوازع الوطني هو ما تتمحور حوله هذه النخب, وما دامت المصالح الخاصة خارج حساباتها عندما تتعارض مع مصلحة الوطن العليا.. فما الذي حدث؟ تؤرخ لنا الأحداث التي عاشتها مصر محنة النخبة ومصيبتها التي تبدو كارثية بكل المقاييس, حتي وإن غاب عن وعي هذه النخبة أنها في مأزق, أو ادعت غير ذلك, أو حتي قاومت ما يلحق بها من عوار, وليس أدل علي ذلك من غيابها الواضح عن المشهد.. ذلك الغياب الذي فتح الباب علي مصراعيه أمام الذين يستهدفون الدولة منذ يناير2011, وبلغت طعناتهم أشدها في السنوات التي تلتها حتي لحظة كتابة هذه السطور. النخبة المصرية التي غابت مهدت الأرض للجذور المسرطنة من الإخوان وأذنابهم وأحلافهم, ليشكلوا حلفا مناوئا للدولة, يجيد صناعة الأزمات للوطن والمواطنين, ويعرف جيدا كيف يعزف علي غياب الوعي ووتر الحاجة وتبعات برنامج الإصلاح, والحقيقة أن الأمثلة كثيرة علي تصدر المشهد, من إخوان وخونة ومأجورين, يطعنون في الدولة جهارا نهارا, يحللون ويفسرون من خيالهم لماذا أقدمت الحكومة علي اتخاذ هذا الإجراء أو ذلك القرار, وكيف ضحكت علي الشعب!! وكيف وكيف.. إلي آخر هذه التفسيرات والتحليلات المسمومة التي تعرف هدفها جيدا, وهو الضرب في الثوابت الوطنية, وتأليب الرأي العام, وتشويه صورة الوطن أمام أبنائه من ناحية, وأمام العالم من ناحية أخري. وفي الخلفية من هذا المشهد المأساوي, لا تقف النخبة المصرية فقط عاجزة عن المواجهة أو الدفاع, أو فضح مخططات الأعداء وقوي الشر لتشويه مصر وقياداتها وشعبها, وإنما سقط بعض أفراد هذه النخبة في الفخ ذاته, وانطلق من أرضية اللاوعي بظروف المرحلة الراهنة, أو من باب ركوب الموجة, ليطعن ويشكك هو الآخر فيما تقدم عليه الدولة من إجراءات, لتكون المحصلة في النهاية اللقاء المفضوح بين فكرين; أحدهما خائن صريح للوطن ومهاجم له ومحرض عليه طوال الوقت, والآخر من داخل الوطن, ومع الأسف من نخبته وصفوته, ليتحد السيفان في طعن صدر واحد, ويالمرارة الجرح وشدة الألم التي يتجرعها الوطن, عندما تندفع نحوه السهام, وتشتعل في صدره النار, وفي سعيرها نيران صديقة يشعلها النخبة.. فأي عبث وصلنا إليه؟! لطالما اتفقنا علي أن التاريخ تشارك في صناعته النخب, ولكن ما يحدث في مصر الآن من معوقات للدولة وخطتها للنهوض بالشعب تصنعه هذه النخبة, فالمتعارف عليه أن النخبة هي التي تمتلك التأثير بما أوتيت من أفضلية كل في مجاله, ورغم ذلك فإن هذا التأثير أصبح عكسيا يضر الوطن ولا ينفعه, والسبب في رأيي أن النخبة المصرية في مختلف المجالات; سياسية وثقافية وإعلامية وفنية ورياضية وغيرها, تقف علي أرضية هشة, وتعاني من سطحية مفرطة, وتفتقد الوعي والحس الوطني بالظرف التاريخي الصعب الذي تمر به بلادنا, ولا تستطيع تلك النخب صياغة رؤي وطنية تعين بها السلطة علي تنفيذ أحلام وطموحات الوطن والمواطنين. لست متشائما أكثر من اللازم في توصيف حال نخبتنا, ولكنني في الوقت ذاته لا يمكنني الإفراط في التفاؤل أمام المشهد الذي أراه وترونه كل يوم, وفي كل حدث علي أرض هذا الوطن, فثمة فجوة بين الدولة والشعب تحدث علي فترات متقاربة, هذه الفجوة أحدثتها النخبة التي تشغل حيزا من الفراغ, لا حيزا من العقل والوعي الوطني, إذ إن كثيرا من النخبة المصرية, إلا من رحم ربي, انصرف عن مصلحة الوطن إلي المصلحة الشخصية, وانشغل بتوافه الأمور علي حساب دوره المأمول منه في هذه الظروف الاستثنائية, ولذلك بدت السلطة الحاكمة تحارب وحدها في جبهة التوعية, وفي المقابل أصبح الشعب عرضة لمن يحاولون التلاعب بعقله, ويضربونه في ثوابته, ويطاردونه ليل نهار بالشائعات والمغالطات في الشوارع وفي دهاليز المقاهي وعلي مواقع التواصل الاجتماعي. لن أكون مبالغا إذا قلت إن نخبتنا أتلفتها الأهواء الشخصية, ولن أستسلم لذلك الوضع المستهجن منا جميعا, لذلك فالحاجة باتت ملحة لأصوات وطنية تستنهض نخبتنا من كبوتها, وتطلق صفير إنذار في آذانها الغافلة عما يدور حولها, لنعيدها إلي ما كانت عليه النخبة المصرية, التي كانت تشكل الوعي, وتصون الوطنية, وتذود عن المواطن. ولن أكون مبالغا كذلك إذا وجهت ندائي إلي العقلاء من الصفوة: نخبتنا تحتاج إلي ثورة تصحيح مسار.. تحتاج إلي برنامج إصلاح فوري.. تحتاج إلي مشروع قومي لإعادة الروح إلي النخبة المصرية التي أتلفها الهوي, في وقت تقاوم فيه مصر أصحاب المطامع والأهواء والطامحين إلي طمس الهوية المصرية. .. وللحديث بقية