بين الإسلام واللغة العربية رباط وثيق, لا ينفصل أحدهما عن الآخر, وقد اختار المولي عز وجل اللغة العربية لتكون لغة دينه الخاتم المرسل إلي البشرية كلها, وذلك لأن اللغة العربية تمتاز بخصائص فريدة من الناحية الاشتقاقية والدلالية, وأيضا من الناحية الصوتية وهو ما تجلي في التلاوات القرآنية التي تميز فيها القراء المصريون حتي إنه يقال: إن القرآن نزل بمكة وقرئ بمصر. في هذا الحوار مع الدكتور محمود إبراهيم السلامي, الأستاذ بكلية اللغة العربية جامعة الأزهر, يحدثنا عن اللغة العربية والقرآن الكريم وقرائه المشاهير. لماذا اختار الله اللغة العربية لينزل بها آخر كتبه للبشرية؟ القرآن الكريم كتاب الله المنزل من فوق سبع سماوات, ليكون دستورا للبشرية كلها, في كل الأوطان وبكل اللغات, وهو مادة للإعجاز ليكون دليلا علي صدق رسالة النبي صلي الله عليه وسلم ولأنها رسالة خاتمة وباقية فإنها تحتاج إلي معجزة لها طابع البقاء, لا تنقضي بمجرد رؤيتها, كما هو الحال في معجزات الأنبياء السابقين, الذين جاءوا بمعجزات انتهت بانتهاء وقتها, ولم يبق منها إلا ما يرويه الناس عنها من حكايات, وكذلك يجب أن تكون معجزة الرسالة الخاتمة لها طابع التجدد, لهذا جاءت معجزة الرسول الكريم صلي الله عليه وسلم لغوية, فاللغة بصفة عامة بها هاتان الخاصيتان, يمكن حفظها لفظا, فتبقي إلي الأبد, ويتجدد فهمها باختلاف الأحوال والمقامات, وهيأ الله اللغة العربية لهذه المهمة باعتلائها ذروة البلاغة والفصاحة, فنستطيع القول إن العربية تهيأت لتقوم بهذه المهمة. إذن فقد جاء القرآن ليتحدي العرب بلغتهم وهو يعلم أن العرب عاجزون عن الإتيان بمثله؟ طبعا, والمعجزة تكون من جنس ما برع فيه القوم, وقد وصل العرب بلغتهم إلي ذري الفصاحة والبلاغة, وكانوا يقيمون أسواقا للكلام, يتفاخرون ويتنافسون فيما وصلوا إليه من بلاغة في الشعر والنثر, فأرسل الله محمدا, ومعه قرآن يتلي, وهو من جنس كلامهم, ومن الألفاظ التي يستعملونها, لكنه مختلف في نظمه وتراكيبه ودلالاته المتجددة, وتحداهم أن يأتوا بمثله, فلما عجزوا تحداهم أن يأتوا بعشر سور مثل سوره, فقال: أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين, فعجزوا أيضا, فخفض من سقف التحدي وجعله سورة واحدة مثل القرآن, فقال: وإن كنتم في ريب مما نزلنا علي عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين, يتحداهم بالقرآن وهو يعلم أنهم عاجزون عن رد التحدي, قل لئن اجتمعت الإنس والجن علي أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا. ما الذي يميز اللغة العربية عن غيرها من اللغات؟ تمتاز اللغة العربية بجملة من الخصائص في أنظمتها الصوتية والصرفية والنحوية والدلالية, فصوتيا تملك أوسع مدرج صوتي عرفته اللغات, حيث تتوزع فيه مخارج الأصوات توزيعا رشيدا محكما بدءا من الشفتين إلي أقصي الحلق, مع ثباتها وائتلافها عند بناء الكلمة, كما أن نظامها التصريفي يحكي طبيعة العرب الاجتماعية والأسرية, فللكلمة جسم وروح, ولها نسب( أصل لغوي) تلتقي مع مثيلاتها في مادتها ومعناها فالأصل الاشتقاقي( ك ت ب) يصاغ منه( كتب)( كتاب)( مكتب)( مكتبة), كما أن نظامها النحوي يمتاز بخاصية الإعراب التي تتيح للمتكلم فسحة تركيبية ليس لغيرها من اللغات, أما نظامها الدلالي: فالعلاقة متسقة بين اللفظ والمعني علي مستوي الصوت المفرد والصيغة. فيستعملون الصوت القوي للمعني القوي والصوت الضعيف للمعني الضعيف. كيف يحفظ القرآن اللغة العربية من الاندثار؟ القرآن الكريم محفوظ بوعد من الله, الذي تكفل بحفظه فقال: إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون, وحفظ القرآن يحفظ اللغة التي نزل بها, من خلال التلقي والمشافهة التي لم ينقطع إلي يومنا هذا, كما يحفظ ألفاظها لقيمتها التشريعية التي قامت حولها التفاسير, من خلال ربطها بأقوال العرب السابقين, فأصبح العرب علي تواصل دائم مع ألفاظ القرآن لأنها أصبحت دستورا ينظم جميع شئونهم, وقد أبقي القرآن الكريم علي وحدة لغة العرب فلم تتطور لهجاتها لتتحول إلي لغات وفق قانون التطور اللغوي, فلا يزال العرب علي اختلاف جنسياتهم يتفاهمون بالعربية الفصحي إلي يومنا هذا. كيف تري حال اللغة العربية الآن علما وتعليما؟ اللغة ظاهرة اجتماعية في المقام الأول, تعكس حال المجتمع, ترتقي برقيه وتنحط بانحطاطه, والواقع الحالي يقول بتأخر العرب كثيرا عن ركب الأمم; لذا نلاحظ عدم العناية بتعلم اللغة العربية إلا بدوافع دينية من الطلاب غير الناطقين بها, بينما تصدرت لغات أخري كالإنجليزية مشهد العلم والثقافة; لذا أصبح المجتمع العربي حريصا علي تعلم لغة أخري غير العربية تحقق لهم مكانة اجتماعية وتفتح له مجالا للعمل, فالمسئولية مشتركة بين المجتمع الذي ينظر إلي العربية علي أنها لغة دون الأولي, ومؤسسات الدولة التعليمية من خلال إعداد المناهج والمعلمين الأكفاء يقولون إن القرآن نزل بمكة وقرئ بمصر.. كيف ذلك في رأيكم؟ لقد أضفي المجتمع المصري علي جميع المناسبات والشعائر الدينية طابعا خاصا, وهذا ما نلمسه في شعائر الفجر والجمعة وشهر رمضان والمولد النبوي الشريف, والقرآن الكريم حاضر في جميع تلك المناسبات, فكان لا بد أن يؤدي بطريقة خاصة أيضا, فقد تميز القراء المصريون في أداء القرآن بطريقة( التجويد) والتي يقابلها( الترتيل) وفيها يؤدي القارئ القرآن بطريقة الوقفات الطويلة مع إطالة زمن الجملة القرآنية وصبها في قالب نغمي خاص له بداية وله نهاية, يترك فسحة للمستمع للتدبر قبل استئناف التلاوة, وهي طريقة ليست لغيرهم, يقول عنهم شيخ مشايخ كردستان في كتابه:( أفضل قراء القرآن) إنهم, أي القراء المصريين, يجتازون عتبات الأذن ليصلوا بالمتلقي إلي قمة النشوة القرآنية ليتخيل أنه يسبح فوق نهر من لبن. ولم يقف الأمر عند حسن الأداء النغمي بل تعداه إلي الإتقان, من خلال المصاحف المرتلة المنضبطة التي ابتدأها الشيخ محمود خليل الحصري بالروايات المستعملة( حفص, قالون, ورش, الدوري عن أبي عمرو) وليس غريبا أن نجد أناسا من البلاد التي نزل بها القرآن ينشدون مصر للحصول علي إجازات في القراءات. ما معني التغني بالقرآن؟ لفظ التغني ورد في الحديث الشريف( ليس منا من لم يتغن بالقرآن) وقد فسرت هذه اللفظة بعدة تفسيرات( الاستغناء, الجهر به, تحسين الصوت بالقراءة), ويرجح في نظري الأخير لما له من شواهد أخري تحث علي ترتيل القرآن وحسن أدائه, فكما أن القرآن متفرد في ألفاظه وتراكيبه ورسمه; فهو متفرد في أدائه الصوتي بطريقة خاصة, يساعد علي ذلك أحكام القرآن من غن ومد وتفخيم وترقيق, وهي أحكام لا تكون في غيره من أجناس الكلام, وليس معني تحسين الصوت القراءة بالألحان, بل المراد تحسينه علي وجه لا يخرج إلي حد التطريب المذموم, وهنا نفرق بين القراءة بالمقامات الموسيقية وبين القراءة بالألحان, فالتلحين يفرض أبعادا وأزمنة معينة للنغمات التي يتشكل منها المقام, وهو ما يتعارض مع أحكام القرآن المنضبطة بأزمنة خاصة, وهو ما يتسامح فيه مع التلحين سواء أكان بإيقاع أو بغير إيقاع, ولعل ربط( المقامات) بكلمة( الموسيقية) قد حمل دلالة اجتماعية مرفوضة, مع أن القرآن لا يؤدي بحال من الأحوال خارج مقام من هذه المقامات سواء أكان القارئ علي دراية أو يحاكي سماعا, وإلا كان الصوت نشازا تنفر منه الأذن. من أحب القراء إلي قلبك ولم؟ لكل قارئ طابعه الخاص الذي تستريح له أذن السامع بناء علي ذوقه الصوتي, فبعض مدارس التلاوة تعتمد علي نقاء طبقة الصوت وقوته ورائدها الشيخ عبد الباسط عبدالصمد وهو قارئ له طابع العالمية, وهناك من المدارس ما يتميز بالأداء الخشوعي وهي ما تميزت به مدرسة الشيخ المنشاوي, وهناك مدرسة تميزت بالجانب الروحاني كمدرسة الشيخ محمد رفعت, وهناك مدرسة شعبية تعتمد علي طول النفس وشدة الصوت ورائدها الشيخ الطبلاوي, وهناك مدرسة الأداء النغمي وبراعة تنويع المقامات والقفلات, وهي مدرسة الشيخ مصطفي إسماعيل, ولعل المدرسة الأخيرة هي أكثر المدارس انتشارا في عصرنا; لأنها تعتمد علي تنوع المنهج مع خصوصية طبقة الصوت لكل قارئ; لذا يكثر أتباعها, ولا يزال الشيخ مصطفي إسماعيل في نظري متصدرا مدارس التلاوة; لأنه قارئ مجدد لا تستطيع أن تتنبأ بجملته النغمية بدءا وانتهاء.