نجح الأوروبيون في دمغ كل مواطن يسعي إلي تحسين أحواله المعيشية بالانتقال من بلده الأصلي إلي بلد به فرص عمل وظروف معيشية أفضل بصفة غير شرعي, رغم أن الرغبة في تحسين المعيشة في حد ذاتها بعيدة كل البعد عن هذا الوصف. وربما قصدوا التمييز بين من ينتقل بتأشيرة هجرة رسمية وبين من لا يحمل تأشيرة علي الإطلاق إلي بلد المهجر ليصفوا هذا بالشرعي, وذاك بغير الشرعي, علما بأن أوروبا لم تفتح باب الهجرة إليها إلا في أعقاب الحرب العالمية الثانية لتعويض خسائرها البشرية من الرجال الذين قضوا في الحرب, ولم تكررها مرة أخري, يعني أن تأشيرات من هذا النوع ليست متاحة لأحد. ولحسن حظ الأوروبيين أن موجات الهجرة التي يشتكون منها الآن تأتي عبر قوارب متهالكة لا يصل نصفها إلي سواحلهم والباقي يتحول إلي أشلاء في البحر المتوسط ويغرق كل ركابها, إما لسوء حالتها أو لتكدسها بعدد هائل من المهاجرين الفارين من الفقر والبطالة بأحلام مشروعة في البقاء علي قيد الحياة فقط. يتناسي الأوروبيون أن أجدادهم عندما ضاق بهم الحال في قارتهم العجوز إبان الفترة الاستعمارية خرجوا علي متون قوارب حربية في حملات غير شرعية منظمة بمعرفة حكوماتهم لاحتلال الأراضي والاستيلاء علي ما بها من ثروات طبيعية في أفريقيا وآسيا والأمريكتين, تلك الفترة التي استمرت لقرون طويلة! الأوروبيون الآن ضاقوا ذرعا بالوافدين الجدد الهاربين من الفقر, متجاهلين أن ظاهرة الفقر في المجتمعات المصدرة لهؤلاء المهاجرين غير الشرعيين إنما نشأ بمعرفتهم, وتناسوا أنهم الأوروبيون أنفسهم من بذروا بذوره في مستعمراتهم القديمة. أوروبا تبحث الآن عن حلول لقطع الطريق علي موجات الهجرة ولكن من دون تكلفة. عقدوا مؤخرا قمة أوروبية أفريقية في باريس, ضمت زعماء فرنسا وألمانيا وإيطاليا وإسبانيا بصفتهم رؤساء الدول المتضررة من الهجرة غير الشرعية علي حد وصفهم, ورؤساء النيجر وتشاد ورئيس حكومة الوفاق الوطني في ليبيا بوصفهم مسئولين عن الدول التي تنطلق منها موجات المهاجرين, لمناقشة القضية, ومن جانبه اقترح الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ببدء آلية اللجوء إلي مناطق أفريقية محددة بشرط أن تكون آمنة في النيجر وتشاد تحت إشراف المفوضية العليا للاجئين التابعة للأمم المتحدة, القمة انتهت إلي خريطة طريق قد لا تؤتي أي ثمار بسبب أن كل دولة شددت علي أولوياتها في هذا الملف الشائك والمعقد. الأوروبيون وعدوا بتقديم مساعدات لهذين البلدين تمكنهم من مراقبة الحدود ومكافحة شبكات المهربين, بينما حرص الرئيسان الأفريقيان علي تذكيرهم بان مسألة الهجرة لن تحل إلا بالتنمية, والتنمية هي بيت القصيد, لأن بحدوث تنمية حقيقية ملموسة في هذه الدول ربما تتوقف الهجرة غير الشرعية إلي أوروبا نهائيا. يذكر أن اتفاقا تم بين أوروبا وهذين البلدين في2015 علي تقديم مساعدات بقيمة أكثر من ثمانية مليارات دولار يبدو أنها لم تقدم ما حدا بالرئيسين الأفريقيين إلي القول أنهما يريدان واقعا ملموسا وليس كلاما ووعودا, فالنيجر لم يصلها إلا10 ملايين دولار فقط. أوروبا لا تريد فقط وقف موجات الهجرة إلي أراضيها, ولكنها تريد أيضا إعادة المهاجرين إليها إلي بلدانهم الأصلية من دون تكلفة تذكر, ويتناسي الأوروبيون أن مصالح كبري تأسست علي هذه الهجرات تتمثل في المكاسب الهائلة التي تحصدها عصابات التهريب في كل من أفريقيا وأوروبا نفسها, وأنها أصبحت اقتصادا قائما بذاته يصعب تفكيكه إلا بتكلفة باهظة هي ليست علي استعداد لتسديدها في الوقت الراهن. فمنع أسباب الهجرة يتطلب تنمية حقيقية في الدول الأفريقية المصدرة لها, الأمر الذي تعيقه أوروبا نفسها, لتبقي دائما هذه الدول في حاجة لاستيراد احتياجاتها من أوروبا, ومن دون تنمية لن تتوقف موجات الهجرة مهما اتخذت أوروبا من إجراءات, ومعني حدوث تنمية في الدول الأفريقية يعني حرمان أوروبا من المواد الخام الرخيصة التي تحصل عليها من هذه الدول, والوعود الزائفة بتقديم المساعدات لحكومات تلك الدول لم تعد تؤتي أي ثمار لعدم قدرتها المادية علي التحكم في حدودها لوقف موجات الهجرة غير الشرعية إلي خارج الحدود, لتبقي المشكلة ملفا شائكا وصعبا علي الحل في المدي القريب علي الأقل.