اعذروني فقد عادت بي أفكاري لمقال سبق أن كتبته لكم بالعنوان نفسه في ذات الجريدة الموقرة, ووجدتني أستعيد كلماته وأنا أري ما يحدث في عالمنا العربي وأري أن سببه الأول الإصرار علي تغييب الكلمة الأولي وتقبل الثانية مهما اختلفت المسميات, أرجوكم أن تقرأوا مجددا عسي أن تعيدوا النظر. عجبا للغتنا العربية التي منحت خصمين متضادين لا يعترف أحدهما بالآخر الأحرف نفسها وكأنها من سخريات القدر في حياتنا أن يكون التفكير والتكفير من الأبواب الحرفية نفسها مع اختلاف شاسع في المعني. فما بين فعل يعتمد علي العقل تلك الأمانة التي حملها الإنسان وأبت السموات والأرض أن يحملنها الساعي للفهم والمعرفة والتغيير والنهوض بحياتنا والسمو بها وقبول الآخر, وبين فعل يرفض الآخر من مبتداه ويري فيه خصما ناقص الكفاءة والتدين والقرب من الله, ما بين هذين الشتيتين من الأفعال تتبدي أزمتنا في عالمنا العربي بين ساعين لنور المعرفة ومجاهدين في ظلمة الدم, وتائهين بين كليهما. أزمة التكفير بدأت منذ مئات السنين دون أن يكون لها علاقة بدين وإن استخدم فيها ببراعة, ليكون الاعتراض علي الشائع كفر, والجدال حرام, والنقد مكروه, والاتباع محمود, والعنعنة دليل, وطاعة أولي الأمر أيا كانوا فرض, وهكذا كان مقتل هيباثيا أهم عالمة فلك ورياضياتت في القرن الثالث الميلادي بالإسكندرية من قبل مسيحيين لأنها لم تؤمن مثلهم فوصفوها بالهرطقة, قتلوها دون سماع دفاعها, جروها في شوارع المدينة الحجرية حتي سالت الدماء من جميع أنحاء جسدها, ليصمت صوت العقل لسنين حتي مجيء الإسلام ليعلي من شأن التدبر والتفكير ورغم هذا كان التكفير ملاصقا لمن أبدع في استعماله وأعمال عقله كما قال الله, حدث هذا مع ابن سينا والرازي والخوارزمي والبيروني وابن الهيثم والسهروردي والكندي والفارابي والغزالي وابن رشد وغيرهم كثيرون تعرضوا لدواعش زمانهم, يكفي أن أنقل لكم ما قاله ابن القيم عن العالم والطبيب والفقيه والفيلسوف ابن سينا في إغاثة اللهفان من أنه إمام الملحدين الكافرين بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وما قاله عنه الكشميري في فيض الباري من انه ابن سينا الملحد الزنديق القرمطي. وما قاله عنه الشيخ صالح الفوزان بأنه فيلسوف ملحد! واسمعوا وصف ابن القيم للطبيب والعالم والفيلسوف أبوبكر الرازي من أنه ضال مضلل! وهكذا حاربنا التفكير بالتكفير لا بنقد الفعل ونتائجه ليتواصل الصراع غير المتكافئ بينهما, فعل يحاور المنطق وآخر يرفضه. لم تكن المشكلة في الإسلام بل كانت في استخدام الإسلام, كما لم تكن المشكلة في المسيحية بل في استخدام المسيحية حينما مورس التكفير ضد جاليليو وكوبر نيكوس ونيوتن وفولتير وديكارت وطاردوهم وأحرقوا كتبهم ونكلوا بهم. ولم تنج أوروبا إلا حينما قررت فصل الدين عن السياسة, وأبعاد سيطرة كهنة المعبد عن السياسة. يبقي السؤال لماذا يمارس فعل التكفير عنفه ويسعي لفرض سيطرته علي فعل التفكير؟ الإجابة بسيطة يا سادة.. فما أجهل صاحب التكفير وما أزيف كلماته وحججه وما أسهل كشفها ومحاججتها بمنطق صاحب العقل, وما أيسر كشف تعصبه دون الحاجة لسيف أو بندقية أو قنبلة, يعري صاحب الفكر صاحب السيف بكلماته وهو جالس في مكانه دون أن يريق دمه فيعيش بذنبه لأنه يعرف بعقله حرمة الدم وحرمة النفس التي حرم الله قتلها إلا بالحق. بينما الآخر باع عقله لغيره وتبعه دون مناقشة, صار حالما بأوهام التدين والقرب من الله كالغائب في آثار مخدر غير قابل للشفاء من إدمانه, ولذا كان شرط الانضمام لأي جماعة عهد الطاعة العمياء, أن تترك عقلك علي أبوابها فلا تناقش ولا تجادل ولا تنتقد, صدقهم إن أخبروك أنك الأفضل ومن دونك فلا, أطعهم إن طالبوك بقتل جار أو زميل أو بريء لا تعلم عنه شيئا طالما ارتضيت فعل التكفير وعاديت فعل التفكير. وللحديث بقية