لم يكن الوليد بن رشد فقيه الفلاسفة، الطبيب والفلكي وقاضي القضاة، أول من تعرض لتهمة التكفير والنفي وحرق كتبه، فقد سبقه كثيرون في المشرق والمغرب، حتى وصل الأمر ببعضهم إلى الموت صلبًا أو حرقًا أو خنقًا. جاليليو ونيوتن وديكارت وفولتير وغيرهم حُرِّمت قراءة كتبهم، وطوردوا وعُذبوا، حتى بلغ التنكيل بهم أقصاه، وهنا لا يكون الفارق كبيرًا بين تلك الأحكام التعسفية الجائرة والأحكام الارتجالية المتطرفة التي ضللت كثيرًا من الناس وأدت إلى حبس المعري وسفك دماء ابن حيان التوحيدي وصلب الحلاج وتكفير الفارابي والرازي وابن سينا ونفي وحرق كتب ابن رشد لزندقته وإعلائه للعقل. والمفارقة العجيبة أن تحرق كتب ابن رشد ويكفر ويطرد من بلاده بينما في الطرف الآخر من بحر المتوسط تنتشر كتبه وتعد سلاحًا من الأسلحة الاستراتيجية لدول أوربا الناهضة، فقد أمر فريدريك الثاني في إيطاليا بتدريس كتب أرسطو بشرح ابن رشد في جامعة نابولي عام (1224)، كذلك فعل ملك فرنسا لويس الحادي عشر بإصلاح التعليم (عام 1473)، فكانت كتب ابن رشد في مقدمة الكتب المختارة والمقررة. وعندما سطعت كتب ابن رشد في مسقط رأسه وبين أهله ومجالس الفقهاء تُدُوِلَتْ أغراضها ومعانيها وقواعدها ومبانيها فخرجت بما دلت عليه أسوأ مخرج، وأمر الخليفة طلبة مجلسه وفقهاء دولته بالحضور بجامع المسلمين، وخرجت تلك المحاكمة الجائرة على الملأ تقول إن ابن رشد مرق من الدين وإنه استوجب لعنة الضالين. ولم يقف الأمر في ذلك الحين إلى اعتداء العقل الفقهي عند ابن رشد، فقد تجاوز حدود التكفير إلى مقتضياته من حرق الكتب والتهجير من الأوطان، والطعن في الأنساب بغية التشفي والانتقام لتحقيق الانتصار للذات، والحفاظ على المكانة الاجتماعية، والمصالح الذاتية، ومن ثم تخويف الناس من مغبة استعمال عقولهم والخروج على سلطان الفقهاء، وإمكانية تحريض وإثارة الناس على ذوي العقول والمفكرين. وبعده جاء ابن تيمية ليبين للناس كيف كان ابن رشد ملحدًا من الملاحدة، فقال "عن صفة الكلام: ثم يقال له: بتقدير تسليم ما قدمته، قولك في القرآن باطل، وذلك لأنه لا يمكنك أن تقول فيه ما قلته في تكليم موسى، فإن موسى كلمه الله تكليمًا، فزعمت أنت وأمثالك من الملاحدة أن معنى ذلك خلق كلام مسموع في مسامع موسى، كما زعم المعتزلة - الذين هم خير منكم - أن ذلك كلام مسموع خلقه في جسم من الأجسام فسمعه موسى". كما استخدم المنتفعون من توظيف نصوص الدين ضد خصومهم من العقلاء أسلحة كثيرة أهمها تحريض العوام وإثارتهم ضد من يستعمل عقله، والاستعانة بسيف السلطان لإقصاء المفكرين وتشويههم، إلى جانب تخويف وإرهاب كل من تسول له نفسه أن يفكر أو يعبر ويدون ما أمكنه الوصول إليه. وتذكر بعض المصادر أنه مع تولي المتوكل الخلافة عام 232 هجرية = 847 ميلادية، استغل الإقطاعيون والأمراء ممن استبعدوا عن مواقعهم في عهد المأمون ما قبل المتوكل، قاصدين نقاط الضعف في شخصية الخليفة الجديد، ومنها إسرافه في الملذات والشراب، استغلوا طبيعته في الضغط عليه لتوجيه سياسة الدولة باتجاه مصالحهم وتفكيرهم، وحملوه على إلغاء ما أحدثه المأمون وخاصة فيما يتعلق بعلم الكلام المعتزليّ وخلق القرآن وارتباطهما بمذهب الدولة، فاستجاب لهم الخليفة، وأطلق أيدي بعض الأشاعرة كي يشنوا حملة ضارية ضد أنصار المذهب المعتزلي وفكره، لدرجة أن الجيل التالي لم يعرف عن هذا المذهب إلا ما كُتب وقيل ضده من تجنِّيات. وتزامنت الإطاحة بالمعتزلة مع صعود نفوذ الأتراك في الحكم، عندما تضاربت الأفكار، وتم إقصاء فصيل فكري لحساب الآخر، وأُديرت الحياة الفكرية والثقافية بالأحكام العرفية، وافتقد الشعر والفن الرعاية، فجنوا على الحياة الروحية والإبداع بشكل عام، واستطاعوا ملء فراغه بفن الأرابيسك ونسج وتوظيف الروايات والأساطير عن الجان والعفاريت. أخبار مصر – ثقافة - البديل Comment *