كتب: المستشار الدكتور : محمد الدمرداش بعد أن انتهي المأمون من حروب السيف بدأ يخوض أولي جولاته في حروب الدهاء والعقل ليغير استراتيجية أسلافه في الحكم، القائمة علي السيف والقتل، قناعة منه بأن السيف قد يقطع رقاب الثوار لكنه لا يقضي علي الثورات التي زلزلت أركان البيت العباسي. ولما كانت الثورات في جلّها العظيم من العلويين وأنصارهم فقد كانت الحيلة أن يولي العهد إلي إمامهم ورمزهم الإمام موسي الرضا حتي انتهي الأمر به إلي قتله بالسم حين وجد أن السحر سينقلب علي الساحر، ثم انتقل المأمون إلي سلاح العقل والجدل ليسوس الأمة المنتفضة أركانها عليه. فوجد ضالته في علم الكلام الذي نشأ في زمنه وترعرع علي يديه، وعلم الكلام علم يبحث في أصول الدين والعقائد ويعتمد علي العقل دون النقل، ونتيجة لذلك ظهر خلاف بين أهل السنّة الذين يعتمدون في علوم العقائد علي النقل، والمعتزلة الذين يقدمون العقل علي النقل، ومنها المسألة المشهورة شديدة الدقة: هل القرآن كلام الله القديم أم هو مخلوق؟ فقد اتفقت كلمة المعتزلة علي أن القرآن الكريم وهو كلام الله عز وجل مخلوق له عز وجل وليس بقديم، وأنه صفة غير قائمة بذاته كما هو الحال بالنسبة للنعمة، فهو عز وجل منعم باعتبار صدور النعمة منه، ونعمه عز وجل كلها حادثة ومخلوقة له عز وجل، وكذلك كلامه تعالي وإنْ كان قد صدر منه ولكنه حادث ومخلوق له تبارك وتعالي. في حين صدحت مصادر أغلب السنّة وبالأخص الحنابلة بأنّ القرآن كلام الله ووحيه، وهو مخلوق محدث أنزله الله علي نبيه (ص) ليكون علمًا ودالاً علي نبوّته، وجعله دلالة لنا علي الأحكام لنرجع إليه في الحلال والحرام، واستوجب منا بذلك الحمد والتقديس، وإذن هو الذي نسمعه اليوم ونتلوه. وقد تبني المأمون العباسي رأي المعتزلة ووقف إلي جانبهم وواجه القائلين بقدم القرآن الكريم وكونه ليس بمخلوق، وأصدر الأوامر بتقوية المعتزلة للوقوف بوجه خصومهم. ومسألة خلق القرآن مسألة علي بساطتها كانت سببًا في شغل الأمة سنوات عدة وابتلاء كثير من العلماء، وأريقت فيها دماء زكية علي يد المأمون، ومن بعده علي يد المعتصم، لاعتناقهما المذهب الذي يقول إن القرآن مخلوق، خلافًا لأهل السنّة والجماعة، والمسألة في حقيقتها لا تحمل طابع العلم الديني بقدر ما تحمل طابعًا ودوافع سياسية صرفة، كانت لها آثارها السيئة علي المجتمع الإسلامي، فشغلته عن التصدي لمظالم العباسيين وألهتهم في جدل عقيم عن حقيقة حكم الجور الذي كانوا يرسفون فيه. ومعتمد القول فيها ببساطة ما قاله الإمام الرضا حين عاصر بواكير هذه الفتنة وسئل عن القرآن أهو مخلوق أم لا فقال: «لا أقول فيه إلاّ أنه كتاب الله». وسيرًا علي نهج المأمون ودهائه إشغال الأمة بأحاديث وخلافات تستهلكها وتقسمها شيعًا وأحزابًا، جريًا علي قاعدة «فرِّق تسُد»، كان أصحاب المذاهب المخالفة لما عليه عامة الناس لا يستطيعون أن يظهروا آراءهم خوفًا من العامة، فلما جاء المأمون أفسح المجال للمتخالفين أن يتناظروا في أدق المسائل التي تذهل العامة وتلبس عليهم، والتي وإن جاز مناقشتها في الغرف المغلقة بين أهل العلم والاختصاص فإن مناقشتها في الأسواق وعلي قارعة الطرقات لهي فتنة للعوام والبسطاء، فكان يجمع إليه العلماء من المتكلمين والفقهاء وأهل الحديث، ويجعل لهم مجالس مناظرة، وكان يظهر أن الهدف من هذا الصراع الفكري هو أن يتفق هؤلاء المتكلمون علي رأي فيما يعرض لهم، والواقع أن الجدل كان يطول دون الوصول إلي كلمة سواء، بل كان يشهد هدمًا لبعض الثوابت والمسلّمات ويتراشق المتجادلون وينتهي الأمر بأن يرمي المتناظرون بعضهم بالكفر والتفسيق. وهو ما أسهم في مزيد من شتات المسلمين إلي يومنا هذا جراء هذه المناظرات. وحتي لو نافح أحد عن موقف المأمون العباسي برغبته في توحيد كلمة المسلمين في المسائل الفرعية، ففي الحقيقة كان هذا ضربًا من المستحيل، بل هو مخالف لسنن الله، وقد كان أكابر العلماء لا يمتعضون من الخلاف في الفروع ما دام اتفقنا في الأصول والحمد لله، ولا يرون حمل الأمة علي رأي واحد، بل كانوا يقولون: «من لم يعرف الخلاف لم يشمّ رائحة الفقه». أي من لم يعرف الآراء المتعددة في المسألة ووجهة نظر أصحابها لم يكن واسع الأفق أو الفقه. ثم إن المأمون العباسي أراد فتح ميدان آخر للصراع العقلي حين وجد أن الأفكار الثورية قد انتشرت في الأمة الإسلامية من أقصاها إلي أقصاها، وكان زعماء الثوار ممن لا تشغلهم جدليات الكلام وخلافات الفقهاء، فكان لزامًا أن يقدح زناد عقله ويبدأ فكرًا جديدًا ( كأنها سياسة المخلوع ضاربا في جذور الزمن)، وذلك بالاعتماد علي خلفية فكرية وأيديولوجية جديدة يحارب بها تلك الأفكار الثورية ويجهضها. هذه الخلفية شكلتها الأفكار التي تحملها الكتب المترجمة، خصوصًا من اللغة الفارسية. ونتساءل: لماذا اختار المأمون أن يركز علي ترجمة تلك الكتب الفارسية تحديدًا؟ لو رجعنا إلي بلاد فارس لرأينا أنه قد تعاقب علي حكمها ملوك كانوا يسيطرون علي رقاب الناس، بينما الناس كانوا مستعبدين محرومين. وهؤلاء المستعبدون المحرومون لم تكن عندهم أفكار ثورية، إنما كانوا مشبعين بأفكار استسلامية، وقد أنتجت هذه الحقب في فارس فكرًا وضعه مجموعة من الكتّاب الذين يغدق عليهم الإمبراطور الأموال الضخمة ليكتبوا كتبًا يدعمون بها سلطانه، فكانت هذه الكتب تدعو إلي الاستسلام وتقول: «الله في السماء والشاهنشاه في الأرض». وكذلك تقول هذه الكتب إن العائلة المالكة ضرورية لاستقرار البلد (عبارات أقرب ما تكون إلي عبارات إعلام المخلوع، فالطغاة في كل العصور نسق واحد). هذه الأفكار هي التي استطاعت التغلب علي إرادة الجماهير وتخديرها والسيطرة عليها سيطرة كاملة. وقد اطّلع المأمون علي تلك الأفكار في خراسان التي عاش فيها واتصل ببقايا ممالك فارس، ووجد في تلك الأفكار خير عامل علي تثبيت سلطانه. وقد أدت سياسة المأمون في إدارة صراع العقل لإلهاء الناس عن مظاهر الترف وإبعادهم عن كتائب الثورة ضد مظالم حكمه إلي ظهور حركات علمانية وإلحادية في شتي البلاد الإسلامية، نتيجة الخيبة التي مُني بها من دخل الإسلام من أتباع الديانات الأخري وهم ينشدون العدالة الاجتماعية والحرية السياسية والرحمة، فإذا بهم رأوا أن الإسلام من حيث الواقع هو مجموعة من الأفكار يسيطر بها بنو أمية وبنو العباس علي رقاب الناس، فاندفعوا راجعين إلي دياناتهم السابقة، أو إلي معتقدات جديدة نسبوها إلي الإسلام، ومن أظهرها حركة بابك الخرمي، وكان داعيًا إلي المزدكية وأسرف في القتل والحرب والاغتصاب والمثلة والتوسع، والبابكية ينسبون أصل دينهم إلي أمير كان قبل الإسلام اسمه شروين ويزعمون أن أباه كان من الزنج وأمه من بنات ملوك الفرس، ويزعمون أن شروين هذا أفضل من كل الأنبياء، وقد بنوا في مدينتهم مساجد، وهم يعلّمون أولادهم القرآن، ولكنهم لا يصلّون ولا يصومون في شهر رمضان ولا يرون جهاد الكفرة. وأيضا حركة المازبار في جبال طبرستان، وكان المازبار قد خرج علي الخليفة المأمون، واعتنق المجوسية واستخف بالإسلام والمسلمين، واشتدت فتنته حتي ضج الناس وهربوا من طبرستان بعد أن اشتد بها الخراب، فأخرج إليه عبد الله بن طاهر ثلاثة جيوش حاصرته حتي تمكنت من هزيمته وأسره، فساقوه إلي عبد الله في خراسان. وحان أجل المأمون حال وجوده بالشام فصار يرفع طرفه إلي السماء ويقول: «يا من لا يزول ملكه، ارحم من يزول ملكه، يا من لا يموت، ارحم من يموت»، فلما كان في ليله استمسك لسانه، ومات من علّته، وكانت وفاته عام 218 ه، وهو يومئذ ابن ثمانية وأربعين عامًا، وكانت خلافته عشرين سنة، ودفن في طرسوس. وقد أوصي أن يكتب علي قبره هذه الأبيات: الموتُ أخرجني من دارِ مملكتي * فالقبر مضطجعي من بعد تتريفِ للهِ عبدٌ رأي قبري فأعبره * وخاف من بعده ريبَ التصاريفِ وللحديث بقية إن كان في العمر بقية الجمعة القادمة بمشيئة المولي عز وجل. وكيل مجلس الدولة رئيس المحكمة الإدارية لجامعة الدول العربية.